جدول المحتويات
«نبض الخليج»
في ظلام السجون اللبنانية، يقبع أكثر من ثلاثة آلاف معتقل سوري، غالبيتهم في سجن رومية المركزي، حيث تتحول الزنازين إلى مقابر صامتة للأحياء. هؤلاء المعتقلون، وبينهم من تجاوزت سنوات توقيفه المدة القانونية لعقوبته، يواجهون ظروفا مأساوية تتجاوز حدود القانون والإنسانية؛ اكتظاظ خانق، إهمال طبي ممنهج، وبطء قضائي قاتل.
أمس، لفظ المعتقل السوري أسامة الجاعور أنفاسه الأخيرة، بعد أن تدهورت حالته الصحية على نحو مأساوي. الجاعور، المنحدر من مدينة القصير السورية، كان يقبع في المبنى “ب” بسجن رومية منذ سبع سنوات على خلفية دعمه للثورة السورية. ورغم إصابته بمرض عصبي خطير أفقده القدرة على الحركة تقريبًا، لم يحظَ بالعلاج اللازم خارج السجن، بل جرى نقله إلى ما يُعرف بالمبنى “الاحترازي” (البيت الأزرق) داخل رومية، في محاولة متأخرة لإنقاذه. لكن الإهمال الطبي وغياب الرعاية المناسبة كانا أسرع من أي تدخّل، فانتهت رحلته خلف القضبان بجثة صامتة.
حادثة الجاعور لم تكن الأولى، فقد شهد هذا الشهر وفاة ثلاثة سجناء آخرين، بينهم سوريون، فيما سُجّلت وفاة سجين سوري الشهر الماضي. هذه الأرقام القاتمة تكشف واقعًا خطيرًا، حيث يتحول الإهمال الصحي وسوء الإدارة إلى حكم إعدام بطيء ينفذ يوميًا بحق المعتقلين.
مقابر للأحياء وقرارات غائبة
وصف كثير من الحقوقيين السجون اللبنانية بأنها “مقابر للأحياء”، حيث يُترك المعتقلون فريسة للأمراض المزمنة، وسط نقص حاد في الرعاية الطبية، وتكدس يفوق الطاقة الاستيعابية. ورغم هذه الكارثة الإنسانية، رفض مجلس الوزراء اللبناني مؤخرًا مشروع قانون كان يهدف لتخفيف معاناة السجناء، في خطوة أثارت انتقادات واسعة، واعتبرها البعض بمثابة حكم مسبق بوفاة مزيد من السجناء في أي لحظة.
تمثل وفاة الجاعور صرخة واضحة؛ إنكار الحلول ليس خيارًا، والتأجيل يعني موت إنسان آخر. فالسجين – مهما كانت تهمته – يظل إنسانًا له حقوق أساسية كفلها القانون والمعاهدات الدولية، وعلى رأسها الحق في العلاج والمحاكمة العادلة.
جرح نازف في العلاقات اللبنانية – السورية
في هذا السياق، يؤكد الصحفي اللبناني جاد يتيم، الخبير في الشؤون السورية، أن ملف سجن رومية لا يقتصر على كونه قضية داخلية لبنانية، بل يمتد ليشكل جرحًا نازفًا في العلاقات اللبنانية – السورية. يقول يتيم: “هناك موقوفون لبنانيون وسوريون على حد سواء أمضوا سنوات خلف القضبان، وعندما تمت محاكمتهم اكتشفوا أن مدة عقوبتهم القانونية كانت أقل من فترة توقيفهم، وهذا ظلم فادح”.
ويضيف أن غياب المحاكمات لسنوات طويلة أمر غير مقبول، حتى مع تفهّم بقاء بعض المحكومين لفترات أطول نتيجة طبيعة جرائمهم. لكن المشكلة الأعمق تكمن في آلاف الموقوفين الذين لم يخضعوا بعد لأي حكم قضائي، ويعيشون في حالة قانونية معلقة.
يتيم يرى أن هذا الملف يحتاج إلى إغلاق عاجل لصالح المظلومين أولًا، إذ ينعكس سلبًا على صورة لبنان وعلى العلاقات مع سوريا، خاصة أن اتفاقية تبادل السجناء بين البلدين أُوقفت عام 2011 بذريعة مخالفتها لاتفاقية مناهضة التعذيب ومعاهدات جنيف، التي يلتزم بها لبنان.
ورغم أن المبادرة الجديدة المطروحة للتعاون القضائي السوري اللبناني لا تشمل المحكومين أو الموقوفين في قضايا مرتبطة بالجيش أو الإرهاب، إلا أنها وجهت بالرفض ما يترك الشريحة الأكبر من المعتقلين خارج أي حل عملي.
وكان الرئيس السوري أحمد الشرع أعرب خلال لقائه بدمشق، وفدا لبنانيا برئاسة مفتي البلاد عبد اللطيف دريان في تموز الماضي، عن “الاستياء الشديد من تلكؤ السلطات اللبنانية في معالجة هذا الملف (المعتقلين السوريين)”. وأكد الشرع حينها، أن “التجاهل المتكرر من بيروت لهذا الملف الإنساني لم يعد مقبولا”.
تعقيدات سياسية وفتور في العلاقات
من وجهة نظر يتيم، فإن التعقيدات لا تأتي من الجانب اللبناني وحده، بل هناك “فتور وعصي بالدواليب” من الطرف السوري أيضاً، وغياب واضح للاهتمام بالملف اللبناني، خاصة في ظل انعدام الحماسة الرسمية لملف عودة اللاجئين السوريين. هذه البرودة في التعاطي، إلى جانب انقسام الموقف السياسي داخل لبنان، يساهمان في بقاء قضية المعتقلين عالقة بلا أفق.
مأساة أسامة الجاعور، وقبله عشرات آخرين، تعيد تذكيرنا بأن ملف المعتقلين في لبنان يتجاوز الخلافات السياسية والهواجس الأمنية. نحن أمام أزمة إنسانية مكتملة الأركان، تتطلب إرادة سياسية جادة، وإصلاحات عاجلة في النظام القضائي والسجني، بدءًا من الإسراع في المحاكمات، وتأمين الرعاية الصحية، مرورًا بوضع آليات شفافة لتطبيق القوانين، وصولًا إلى البحث الجاد عن حلول مشتركة بين لبنان وسوريا.
فكل يوم يمر من دون تحرك هو فرصة ضائعة لإنقاذ حياة إنسان، وربما حياة أكثر من ثلاثة آلاف إنسان، ما زالوا يقبعون في صمت خلف أبواب حديدية، في انتظار قرار قد يحررهم أو إهمال قد يقتلهم.
شارك هذا المقال
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية