جدول المحتويات
«نبض الخليج»
ماذا لو لم تعد البديهيات التي شكّلت وعينا السوري قادرة على تفسير واقعنا اليوم، وماذا لو صار معنى الوطن والهوية، والخير والشر، يختلف باختلاف الجغرافيا التي نقف عليها أو التجربة التي نحملها.
ومع تراجع قدرة البديهيات التي رافقتنا على تفسير ما نعيشه، تتكشف أمامنا طبقات جديدة من الأسئلة، أقل وضوحاً وأكثر إلحاحاً. لم يعد الأمر مجرّد اختلاف في الرأي أو تباين في التجربة، وإنما مسار مفتوح لإعادة فهم ذواتنا وعلاقتنا بالمكان الذي ننتمي إليه. هذا المسار يقوم على الإصغاء إلى ما تكشفه التحولات اليومية في تفاصيل العيش، وإلى ما تقوله التجارب المتفرقة عن صورة وطن يتشكل من جديد.
الانفصال بين التجربة والمعنى
لم تعد المسلّمات التي كانت تضبط فهمنا للعالم صلبة كما بدت في الماضي. الوطن، الذي كان يُنظر إليه كحيّز ثابت ومتماسك، يظهر اليوم في وعي السوريين كفضاء متشظٍّ تتقاطع فيه خرائط الذاكرة مع خرائط الجغرافيا. والهوية، التي ارتبطت طويلاً بإحساس تلقائي بالانتماء الجمعي، باتت تمر عبر فلاتر التجربة المعيشة، فتأخذ شكلاً مختلفاً عند من عاش تحولات الداخل اليومية على امتدادات مختلفة للجغرافيا السورية عمّن اختبرها من مسافة في الشتات. حتى مفاهيم الخير والشر، التي بدت يوماً واضحة الملامح، صارت تُقرأ من زوايا متباينة، تعكس اختلاف المعايش والسياقات، وتكشف عن عمق التحوّل في طرق إدراكنا للمعنى.
لكن هذا التحول، مهما بدا مربكاً، ليس بالضرورة خسارة خالصة. فقد يفتح أمام السوريين فرصة لمراجعة تلك البداهات التي ورثوها من تاريخ مضغوط بالخطابات الرسمية والصور النمطية. هنا لا بد أن يصبح التشكيك إعادة صياغة للمعنى على ضوء التجربة الحية. في هذا الأفق، يمكن للثقافة والفكر أن يلعبا دور المختبر الذي يعيد تركيب العلاقة بين السوري ومفاهيمه الأولى عن الوطن، وعن العيش المشترك، وعن المعنى ذاته.
في مثل هذه اللحظات، يصبح الارتياب بالمعنى الذي يطرحه بول ريكور في الهرمنيوطيقا القائمة على الشك؛ أداة ضرورية. الارتياب هنا لا يعني النفي المطلق للحقيقة، وإنما تحطيم القوالب التي حوّلت البداهة إلى حجاب يحجب عنّا التعقيد الحقيقي للواقع.
في سوريا ما بعد البداهة، من العبث محاولة قراءة الحاضر بأدوات الماضي، كما أن السقوط في فراغ كامل من المسلّمات على طريقة ما وصفه زيغمونت باومان بـ”السيولة القيمية”، يهدد بتحويل المجال العام إلى حالة دائمة من الفوضى الأخلاقية والسياسية.
إدموند هوسرل، مؤسس الفينومينولوجيا، سمّى ذلك بـ “العالم المعيش”، ذلك الأفق المسبق الذي تتكون فيه تجربتنا للوجود، والذي يمنح أفعالنا ومعارفنا استقراراً ظاهرياً. أما موريس ميرلو–بونتي، فسيصفه لاحقاً بـ “نسيج الحضور”، حيث لا نفصل بين الجسد والعالم، لأن المعنى يتجسد في تفاعلنا المباشر مع الأشياء والآخرين.
لكن ماذا يحدث حين يتصدع هذا الأفق، ويغدو العالم الذي كنا نفترض بداهته مسرحاً غريباً لا تُصدّقه ذاكرتنا ولا يشرحه قاموسنا المعتاد. هنا ندخل ما يمكن تسميته بـ “ما بعد البداهة”، زمن الانفصال بين التجربة والمعنى، حيث يصبح العالم المعيش نفسه غريباً عن ساكنيه.
ليس المقصود بـ”عصر ما بعد البداهة” مجرّد لحظة تشكيك فلسفي في الأفكار التي اعتدناها، إنما هو توصيف لمرحلة تاريخية وثقافية تعصف بنا، حيث لم تعد المقولات التي شكّلت وعينا السياسي والأخلاقي قادرة على تفسير الواقع أو تنظيمه.
بناء المعنى في غياب المسلّمات
عاش الوعي السوري لعقود، ضمن تصوّر جمعي ساد فيه افتراض أن الوطن كيان موحّد، وأن الهوية الوطنية الجامعة قادرة على تجاوز التعددات الطائفية والمناطقية والإثنية. هذا التصور لم يكن وهماً بالكامل بالضرورة، لكنه ظلّ في كثير من الأحيان رهين سرديات الدولة ومؤسساتها، أكثر مما كان انعكاساً لتجربة معيشة يومية فعليّة تتساوى فيها فرص المشاركة والانتماء بين الجميع. ومع الانهيارات التي عصفت ببنية الدولة لاحقاً، ظهر كم كانت تلك البداهة مشروطة، وكم أن افتراض الوحدة لم يكن بالعمق أو الصلابة التي أوهمتنا بها السرديات الرسمية.
لقد انكشف مع الزمن، أن ما كان يبدو بديهياً لم يكن سوى نتاج شروط تاريخية محددة، وأنه في غياب تلك الشروط يصبح المعنى أكثر سيولة، وأشد قابلية للتأويل والتنازع. وهذا ما جعل السوري، سواء في الداخل أو المنفى، يعيش اختباراً معرفياً نادراً يتمحور حول كيفية الاستمرار في العيش المشترك حين لا نتفق على معنى البديهيات التي تربطنا.
لم تعد الهوية الوطنية مثلاً قابلة للتعريف السريع أو الانضواء السلس في إطار جامع، بقدر ما تحوّلت إلى فضاء صراع بين سرديات متنازعة. سردية الدولة المركزية الموروثة، وسرديات ما دون الدولة من طوائف وعصبيات وإثنيات، وسرديات عابرة للحدود تتغذى من مشاريع إقليمية ودولية. كذلك لم يعد مفهوم الوطن يحيل بالضرورة إلى شعور مشترك بالانتماء، وإنما إلى خرائط متناحرة للذاكرة والمستقبل، تتعايش أحياناً في صمت، وتصطدم في أحيان أخرى بحدة.
إعادة بناء البداهة في التجربة السورية تعني صياغة يقينيات مرنة. يقينيات تعرف أنها مؤقتة، وأنها ستخضع لمراجعة دائمة. هذه البداهة الجديدة يجب أن تكون قادرة على احتضان التعدد، وعلى إعادة تعريف الوطن كمساحة أخلاقية قبل أن يكون مساحة جغرافية، وعلى النظر إلى الهوية كحوار مستمر وليس كتعريف مغلق.
التحدي السوري هو الانتقال من نقد البداهة إلى تأسيس يقينيات مرنة. منظومات قيمية وسياسية تستوعب تعدد الانتماءات دون أن تتفتت، وتعترف بالاختلاف دون أن تتنازل عن فكرة الفضاء العام المشترك. هذه اليقينيات يجب أن تنشأ من التجربة الحية للسوريين، وليس من إسقاط نماذج جاهزة عليهم.
هنا يفيدنا منظور غادامير في اندماج الآفاق، إذ لا يمكن بناء المعنى من طرف واحد، بل عبر حوار بين الأفق الموروث – بكل ما فيه من انكسارات – وأفق المستقبل الذي نصنعه من خلال التفاوض والتجربة.
حين تصبح الثقافة شرطاً للبقاء المشترك
يمكن للثقافة والفكر أن يلعبا دوراً محورياً، فلا يكون فقط في صياغة هذا الحوار، وإنما في تقديم اللغة التي تجعلنا نرى أنفسنا من جديد، كأفراد قادرين على إنتاج مشترك للمعنى.
البداهة الجديدة إذا تشكلت، يجب أن تكون مرنة، واعية بأنها مشروطة، ومفتوحة على المراجعة الدائمة. يجب أن تنبع من الخبرة الحية للسوريين في الشتات، وفي مناطق النفوذ المتعددة، وفي المدن التي تغيّرت خرائطها الرمزية بفعل الحرب والتهجير. يجب أن ترى “الوطن” ليس كصورة ثابتة، وإنما كعلاقة مع الآخر المختلف، وكحوار بين سرديات متباينة، لا كفرضية إقصائية.
الفيلسوف هانس–غيورغ غادامير يذكّرنا بأن الفهم هو اندماج آفاق. هذا يعني لنا كسوريين أن إعادة تعريف الوطن والدولة والهوية لن تكون عودة إلى ما قبل 2011، بل خلق أفق جديد يدمج تجارب الانكسار مع إمكانيات البناء.
إن عصر ما بعد البداهة ليس نفياً للمسلّمات وحسب، بقدر ما يتجلى كاختبار لقدرتنا على إعادة تأسيسها بوعي تاريخي وأخلاقي جديد. إنه انتقال من سكنى عالم جاهز إلى صناعة عالم ممكن. بالنسبة للسوريين، هذا شرط للبقاء كجماعة سياسية وثقافية.
فالخطر الحقيقي ليس فقط أن نفقد بداهتنا القديمة، وإنما أن نتوقف عن البحث عن بداهة جديدة قادرة على منح حياتنا المشتركة المعنى. وفي هذا البحث، قد تكون الفينومينولوجيا بما تحمله من دعوة إلى العودة إلى التجربة الحية؛ أداةً فكرية لا غنى عنها لفهم سوريا الجديدة، وإعادة تخيل أفقها.
“عصر ما بعد البداهة” في سوريا ليس زمناً مفقراً للمعنى، بل زمن يعاد فيه اكتشاف المعنى من جديد. إنه دعوة لتوسيع المسافة بين الفعل ورد الفعل، ولإعادة طرح السؤال الذي أخفته البداهة طويلاً، فماذا يعني أن نكون معاً، رغم كل ما فرقنا.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية