«نبض الخليج»
للاقتصاد لغة غير لغة السياسة، وللفاعلين الاقتصاديين مجسّات تختلف كلياً عما يراه صحفي أو متابع للشأن العام السوري في مشهد الحياة اليومية، فالتجار حذرون، ويرفض كثير منهم كلمة “رأس المال جبان” ويقولون لك: رأس المال هو الشجاع، لكنه حذر وذكي ويعرف متى يُفرد أوراقه، أو يلمّها ويمشي، لأن التاجر جزء من السياسة من حيث كونه مؤشراً للاستقرار أو داعياً للانفتاح والمغامرة، أو للانكفاء والانقباض وربما المغادرة!
يحدثك التاجر عن ركود في الأسواق وحين تسأله عن السبب يقول لك: الناس تفكر باللباس بعد أن تشبع الخبز!
ترفع حاجبيك مستغرباً؛ فيتابع شارحاً: لا أقصد أن الناس جياع، بل أقصد أنها لاتزال تخبِّئ اليوم جزءاً من قروشها للأيام السود!
: وهل بقيت أيام سود؟ تعب السوريون من كثرة الأيام السود في حياتهم!
يقول لك: الأمر أبعد من أسود وأبيض، التاجر لا يفرد بضاعته في السوق إنْ لم يشعر بالأمان، والتاجر اليوم يخاف من الحكومة، لا أعني أنه يخاف من أسلحتها، أو مخابراتها، بل يخاف من قراراتها التي قد تتخذها من دون استشارته فجأة، قد ترتجل، أو تستعجل أو تتهور في قراراتها، فاقتصاد سوريا يختلف جذرياً عن اقتصاد إدلب، واقتصاد مراحل ما بعد النزاع مثل الحب الأول حسّاس وقابليته للاستمرار صعبة لأن كمّ الحماس فيه أعلى من خبرة المحبين!
إنْ شعرتَ أن عدداً من المنتجات الزراعية عليك أن تمنع استيرادها فيجب أن يكون ذلك واضحاً قبل شهور لأن مثل هذه الهزات تفقد الثقة بين التاجر والحكومة، وعلاقة الثقة هذه مركزية، وما أصعب فقدان الثقة في العمل التجاري!
يضرب لك مثلاً عن المكدوس والجوز والاستيراد والتصدير: افترض أنك تاجر، واستوردت مئة طن من الجوز في موسم المكدوس، ثم نتيجة لعلاقات خاصة حصلت على قرار من الحكومة بإيقاف استيراد الجوز لمدة شهرين، هذا يعني أنك ستصبح ملوينيراً خلال هذين الشهرين! لكنك قد تصبح مديونيراً إن لم تكن البضاعة قد وصلت البلد، حيث إنك وقتها ستبحث لها عن سوق آخر مهما كان السعر!ّ
تحدَّثَ عن تخبط في إدارة الاقتصاد وما هو الخيار الذي ستسلكه الحكومة هل هو الاقتصاد الحر حيث حرية الاستيراد والتصدير المفتوحة؟ أم أنها ستترك التجار يتورطون وفجأة ستتخذ قرارات لا أحد يعرف لماذا تم اتخاذها من مثل وقف استيراد السيارات! وتابعَ إنْ شعرتَ أن عدداً من المنتجات الزراعية عليك أن تمنع استيرادها فيجب أن يكون ذلك واضحاً قبل شهور لأن مثل هذه الهزات تفقد الثقة بين التاجر والحكومة، وعلاقة الثقة هذه مركزية، وما أصعب فقدان الثقة في العمل التجاري!
استفزني الحديث عن فقدان الثقة من تاجر، لأن لفقدان الثقة في العمل التجاري آثاراً طويلة الأمد، وهو يؤثر على حركة الأسواق والبلاد، فسألته: غريب أن تتحدث عن فقدان الثقة ونحن حالياً نعيش في مرحلة لا أتاوات فيها، والبضائع متوفرة، والحكومة ممدودة الأيادي نحو الشعب، وبصراحة: لم أتوقع أن تتحدث عن فقدان ثقة بعد النظام البائد!
ابتسم ثم ردّ علي بالقول: في حركة الأسواق هناك عامل اسمه استقرار الهشاشة، واستقرار الهشاشة هذا يرتكز على أسس صعيفة لكنها مستمرة، وخضاتها معروفة واعتاد السوق أن يجد لها حلولاً من مثل: أتاوة هنا أو رشوة هناك، لكنها تبقيك أنت التاجر المسيطر والمسير للقرار الاقتصادي، قد يحملك السياسي أو الأمني أعباء إضافية لكن إرادة السوق هي التي تمشي!
اليوم، نحن لا نعرف غدنا الاقتصادي، ولا نتحكم به، ولا خارطة طريق نمسك بها، ولا أحد يصارحنا أو نضمن أنه سيستشيرنا ويأخذ ما نريد بعين القرار، لا نعرف مصدر القرار الاقتصادي، تاريخياً في سوريا لغرف التجارة والصناعة والزراعة مكان ودور في أي قرار مركزي!
رددتُ عليه : أنا لست خبيراً اقتصادياً وإن كنت عملت في مجال ريادة الأعمال في العقد الأخير من خلال الاستثمار في التعليم في هولندا، والاقتصاد الهولندي لديه أبجدية مختلفة كلياً، إلا أنني قد لا أشاطرك الرأي، وإن كنتَ أنتَ أخبر مني في الاقتصاد السوري، لكن لا أرى أن الأمور وصلت إلى هذه الدرجة!
قال: تذكرتُ، كنت قد قرأت لك مقالاً تتحدث فيه عن الوقف وما قامت به وزارة الأوقاف تجاه التجار، وقد لمست مما قرأت أنك سعيد باستعادة حق الدولة!
ابتسمت: بصراحة نعم، ومن لا يكون سعيداً بعودة موارد بلده إلى الدولة التي ستديرها بما ينعكس على المواطنين جميعاً بدلاً من أن تثري مجموعة أشخاص على حساب الآخرين بل تستغل عملاً وقفياً وضع تحت هذا المسمى ليكون في خدمة الشعب!
قال: وأنا كذلك سعيد بأن تستعيد الدولة والشعب حقهما إن كان لهما حق! غير أنه ما هكذا تورد الإبل! هل تعرف الأثر الذي تركه تهور وزارة الأوقاف في هذه القرارات المستعجلة، على الأسواق والحركة والتجارة والاستثمار والثقة؟
إن خسارة التجار تتمثل في انكفائهم وصمتهم وخيبة أملهم وأحياناً في سرعة تحويل نقودهم إلى الدولار بدلاً من الاحتفاظ بها في العملة الوطنية حيث يصبح القرش الأبيض هو الدولار واليوم الأسود هو القرارات الارتجالية!
لا أحد ضد أن تستعيد الدولة حقها: هذا مبدأ شرعي وأخلاقي، غير أن الدولة وخبراءها يعرفون أن هناك كثيراً من القصص خلف الكواليس وأن الأوقاف كانت باباً للتهرب أو عدم التسجيل أو عدم دفع الضرائب وأن كثيراً من المحلات بيعت بأضعاف الأضعاف غير أن ذلك تم مشافهة ولم يسجل!
وبعيداً عن كل هذا التفاصيل فإن الثقة اهتزت كثيراً نتيجة لصدور مثل هذا القرار، نحن نعلم أن الدولة اليوم ذات موارد بسيطة ومن حقها أن تبحث عن موارد جديدة غير أنه ما هكذا تورد إبل الموارد!
أنت كنت تعيش في أوروبا وأنت تعلم ان هناك ما يدعى “فترة تبليغ”، وفي حالة مثل الحالة السورية: هذا شيء ليس وقته الآن، الآن وقت القرارات التي تلمّ الناس حول الدولة وليس أن تفرقهم، وقت محاسبة من ارتكبوا الجرائم. أما التجار فملاحقتهم ممكنة وسهلة لكن ليس وقتها الآن، التجار السوريون يحتاجون إلى إعلان دستوري تجاري مؤقت، مدته سنتان مثلاً أو أكثر ريثما يرتبون أوراقهم وتفاصيلهم، كي لا نخسر ثقتهم!، وكي تورد الإبل بالطريقة المناسبة!
أعلم أن مسؤولين كثيرين يريدون أن يثبتوا لمن عيَّنهم أنهم أهل للمسؤولية، وأنهم صادقون مخلصون للسلطة الجيدة وهذا حقهم ما دامت لديهم طموحات بأن يترقوا، لكن الحكمة تنتظر من صاحب القرار النهائي، كي لا نخسر التجار، وأنا هنا لا أحذر ولا أهدد بل أقول إن خسارة التجار تتمثل في انكفائهم وصمتهم وخيبة أملهم وأحياناً في سرعة تحويل نقودهم إلى الدولار بدلاً من الاحتفاظ بها في العملة الوطنية حيث يصبح القرش الأبيض هو الدولار واليوم الأسود هو القرارات الارتجالية!
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية