جدول المحتويات
«نبض الخليج»
لم يكن الفساد في سوريا ظاهرة عابرة أو مرتبطة بظرف طارئ، بل تحوّل بفعل منظومة الحكم السابقة إلى سلوك علني مألوف. فمن ممارسات سرّية تدار في الخفاء، نشأت شبكات مرتبطة بالسلطة وأجهزتها الأمنية، مارست الفساد برعاية وحماية مباشرة. وهكذا أصبح المشهد متكرراً: موظف فاسد محمي يمارس سلطته بلا رادع، ومواطن لا يرى سبيلاً للحصول على حقه سوى بدفع الرشوة، ليتحول الفساد إلى جزء من تفاصيل الحياة اليومية، ومعه يغيب المعنى الحقيقي للمواطنة.
وفي هذا السياق، شدد رئيس الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش عامر العلي على أن مكافحة الفساد بجميع أشكاله أولوية قصوى في “سوريا الجديدة”، داعياً السوريين إلى المشاركة في مواجهته وعدم التستر عليه. وأوضح أن النظام المخلوع خلّف وراءه مؤسسات متهالكة ينخرها الفساد الإداري والمالي.
وتكشف الشهادات الميدانية أن شبكات الفساد التي رسّخها نظام الأسد ما تزال حاضرة اليوم، وإن تغيّرت أشكالها في ظل الحكومة الجديدة، فعلى سبيل المثال؛ يروي رئيس اتحاد الطلبة في حمص، المهندس عمر حمام، لموقع تلفزيون سوريا أن بيع المواد الجامعية تحوّل إلى تجارة علنية لبعض المدرسين، إذ وصلت “تسعيرة المادة” لدى أحد دكاترة جامعة حمص إلى ما بين 150 و200 دولار.
وأشار حمام إلى أنّ الاتحاد قرر، مع تصاعد شكاوى الطلاب، رصد مكافأة بقيمة خمسة ملايين ليرة (نحو 500 دولار) لأي طالب يقدم دليلاً موثقاً على بيع مادة دراسية، في محاولة للحد من هذه الظاهرة.
وبالفعل، تعاونت إحدى الطالبات مع الاتحاد، حيث اشترت أسئلة مادة من أحد الدكاترة وقدمتها قبل دقائق من بدء الامتحان، بحضور رئيس الجامعة، لتكون دليلاً قاطعاً على الفساد. وعلى إثر ذلك، أوقف الامتحان وتم تحويل الأستاذ إلى التحقيق. ويؤكد حمام أن هذه الواقعة مجرد مثال على حجم الفساد المستشري في المؤسسات التعليمية، نتيجة لإرث النظام البائد، مشيراً إلى وجود شكاوى كثيرة مشابهة يسعى الاتحاد لمعالجتها عبر المكافآت والتوعية.
وفي شهادة أخرى نقلها موقع تلفزيون سوريا، قالت محامية (رفضت الكشف عن اسمها) إنها حصلت على حكم قضائي مبرم في شهر آذار 2025، موجَّه لدائرة الأحكام التنفيذية لإلقاء القبض على أحد المتهمين. ورغم وجود الدورية والعناصر بانتظار التنفيذ، واجهت أعذاراً واهية من قبيل: “لا توجد سيارة.. لا يوجد بنزين”، ما اضطرها في النهاية لدفع 200 دولار كرشوة حتى تتحرك القوة وتنفذ الحكم.
وتضيف المحامية أن الرشاوى ما زالت تطال حتى أبسط الإجراءات الإدارية، مثل تسجيل الولادات. فقبل سقوط النظام كان بعض المطلوبين أمنياً في الخارج يلجؤون إلى دفع مبالغ عبر محامين لتسجيل أولادهم، واليوم لم يختلف الوضع كثيراً، إذ يواجه الأهالي صعوبة في الحصول على مواعيد من السفارات لإنجاز الوكالات، في حين يتقاضى السماسرة أموالاً لقاء تسريع هذه الإجراءات. وهكذا يجد المواطن نفسه مضطراً لدفع مبالغ مالية لمحامٍ أو قريب له كي يتمكن من تسجيل الولادة.
وروت شابة سورية (رفضت ذكر اسمها) مقيمة في الخارج وزارت سوريا في الشهور القليلة الماضية أنها كانت تقود سيارتها في شارع الجمارك في العاصمة دمشق حين فوجئت بازدحام مروري فسلكت طريقا معاكسا، ليوقفها شرطي المرور ويبدأ بكتابة ضبط مخالفة بحقها.
وتوضح الشابة لموقعنا أنها حاولت تبرير الموقف بقولها إنها كانت على عجلة من أمرها، ليقاطعها الشرطي صراحة قائلاً: “يمكنك حل الأمر هنا”، طالباً منها مبلغ 5000 ليرة، دفعته ومضت في طريقها.
أما الصناعي “عدنان. ع.” (فضّل عدم ذكر اسمه الكامل)، فروى لموقع تلفزيون سوريا أنه حين تقدم لاستخراج براءة ذمة لعقار تجاري استأجره في المدينة الصناعية بعدرا، طُلبت منه وثائق وطوابع دفع ثمنها أضعاف قيمتها الحقيقية. ويضيف أن الموظف المسؤول عن معاملته في الديوان أخبره بضرورة إرسال الأوراق إلى مديرية المالية في دمشق، في إجراء قد يستغرق أياماً، في حين عرض عليه في الوقت نفسه تسهيل الأمر عبر اتصال هاتفي يختصر الانتظار والتنقل، مقابل مبلغ مالي وصفه الموظف بأنه مجرد “إكرامية”. ويؤكد عدنان أنه اضطر للدفع بعد المعاناة التي واجهها طوال فترة إنجاز معاملة الاستئجار.
ويذكر أنه في بداية التحرير انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع مصور لسيدة تدفع رشوة للموظف، وحين تم تصويرها ادعت أن الموظف زوج صديقتها وأنها تعطيه مبلغا لا علاقة له بالمعاملة، ليتم فيما بعد توقيف الموظف رسميا بتهمة تقاضي الرشوة.
شبكات الفساد تتواءم مع التغيرات
تقول المحامية الأستاذة عهد قوجة من فرع المحامين بدمشق إن شبكات الفساد ما تزال مفعلة اليوم رغم سقوط النظام، مؤكدة أن النظام المخلوع سمح للموظفين في الدوائر الحكومية بالانتفاع من الفساد.
وتضيف قوجة في تصريحات لموقع تلفزيون سوريا أن منظومة الفساد أعادت تشكيل نفسها، بطرق أكثر موائمة للوضع الراهن، وما تزال الأصوات المطالبة بمحاسبة الفاسدين تتعرض للتهديدات والإسكات من قبل المنتفعين من شبكات المنظومة.
وتشير “قوجة” من خلال عملها في سلك المحاماة، إلى وجود محامين فاسدين، كانوا عناصر أساسية في شبكات الفساد في كل الدوائر الحكومية مؤكدة وجود سماسرة أقوى تأثيراً ونفوذاً من المحامين، وهم قادرون على الحل والربط داخل أروقة القضاء، إضافة إلى وجود “مكاتب” بجانب قصر العدل، ويمكنها منح وثائق، مقابل مبالغ مادية في وقت قصير وتمارس عملها إلى اليوم بأريحية مطلقة.
وتفصّل قوجة بأن هذه “المكاتب” تستطيع استخراج ورقة “لا حكم عليه” في نصف ساعة، في حين قد يتطلب استخراجها بشكل قانوني يوما كاملا أو يومين، أو “بيان أسبقيات” وهي وثيقة لازمة لأي قضية جزائية، يمكن استخراجها عن طريق هذه المكاتب بطرق غير قانونية بكلفة مابين 750 ألف ومليون ليرة.
مكاتب الشكاوى.. شكلية
وتوضح “قوجة” أن مكاتب الشكاوى التي تم استحداثها ما تزال شكلية ومحدودة الفعالية، وأن الشعب بحاجة لتوعية في هذا السياق، فأغلبية الشعب لا يمتلك ثقافة الشكوى، وليس لديه ثقة بجدواها، إذ طالما تحولت الضحية على زمن النظام إلى الجاني وتمت معاقبتها، فالخوف ما يزال يتملك الناس في هذا السياق، في ظل عدم تأمين الحماية لمقدمي الشكاوى وإمكانية تعرضهم للخطر، موضحة أن الحد من الفساد يحتاج لمقدرات كبيرة وكوادر وسرعة في العقاب.
وفي ذات السياق تتفق المحامية فاطمة الحواصلي مع الأستاذة قوجة بأن الفساد مستمر، مشيرة إلى أنّ الموظفين المرتشين يتذرعون بتدني الرواتب وغلاء المعيشة.
وتضيف “الحواصلي” في تصريحات لموقع تلفزيون سوريا أن المساءلة شبه منعدمة، ويعود ذلك لعدة أسباب أولها أن الشكاوى خاصة حيال الموظفين الفاسدين والمرتشين مفهوم غائب عن مجتمعاتنا، في ظل غياب الوعي القانوني وضعف آلية الرقابة، إضافة إلى وجود عناصر أمنية جديدة تفتقد إلى الخبرة في التعاطي مع قضايا الفساد، ما يجعل سير العمل أكثر تعقيدا.
الواقع الاقتصادي حلقة في سلسلة الفساد
وعلى صعيد متصل يوضح المحلل الاقتصادي “أدهم قضيماتي” أن العلاقة بين الوضع الاقتصادي المتردي وانتهاج الفساد وتقاضي الرشاوي علاقة ترابط وثيقة، شارحا أن نظام الأسد ساهم باعتياد الموظفين على الرشاوي لتغطية العجز في رواتبهم.
ويضيف “قضيماتي” في تصريحات لموقع تلفزيون سوريا أن منظومة الفساد المتجذرة طوال العقود الماضية من الطبيعي أن يحتاج مكافتحتها لجهود مضاعفة من الحكومة الجديدة، وتبدأ الجهود من رفع مستوى الحد الأدنى للأجور، وتأمين مستوى معيشي كريم للموظفين من خلال رواتبهم، كخطوة أولى.
ويرى “قضيماتي” أن شبكات الفساد بدأت بالتفكك بالفعل، لكن تفككها يحتاج وقتا، نظرا لنسبة المستفيدين منها، مشيرا إلى أن فساد “الرشاوى والمحسوبيات” تحول إلى جزء من طبيعة المجتمع وأصبح مشهدا اعتياديا، ما يعني الحاجة الملحة للمساءلة وترسيخ مبادئ العدالة في كل مفاصل الدولة.
انعكاس الفساد على المجتمع
من جهتها توضح المختصة في الإعلام الاجتماعي “ليلاس دخل الله” أن تنامي ظواهر الفساد في المجتمع بعد الحروب يرتبط بضعف مؤسسات الدولة والرقابة، فغياب الاستقرار الأمني والاقتصادي، يفتح المجال للاستغلال والفساد بأشكاله، مضيفة أن حاجة الناس لتأمين احتياجاتهم في ظل الظروف المعيشية القاسية، تدفعهم للطرق غير المشروعة، بالإضافة إلى ما تفرضه الأزمات والحروب من قلة للموارد، إلى جانب انشغال السلطات بالأزمات الكبرى، ما يجعل من مكافحة الفساد أمرا ثانويا.
وحول انعكاس تفشي الفساد على المجتمع، تؤكد “دخل الله” في حديث لموقع تلفزيون سوريا أن الفساد يصنع شرخا بين المواطنين والدولة، فيفقد المواطن ثقته بالمؤسسات والقانون، ويشعر بعدم جدوى العمل الشريف أمام المحسوبيات، فتضعف بنية المجتمع وتتلاشى مرجعيته الأخلاقية، ومن جهة أخرى تتشكل حالة من القهر عند الأفراد غير القادرين على دفع الرشوة.
وفي إطار الحلول توضح “دخل الله” أن تعزيز الشفافية في عمل المؤسسات أداة لمكافحة الفساد، مشيرة إلى أهمية سن قوانين صارمة تجرم الرشاوى والمحسوبيات، وضرورة تقوية دور القضاء المستقل ودعمه لمحاسبة الفاسدين، ونشر ثقافة المواطنة والنزاهة من خلال التعليم والإعلام وتفعيل مبدأ المساءلة.
دور الإعلام الاجتماعي في مواجهة الفساد
وعن دور الإعلام الاجتماعي في مواجهة ظواهر الفساد، تلفت “دخل الله”، إلى أن منصات التواصل الاجتماعي، أصبحت وسيلة قوية لفضح الممارسات الفاسدة، كما تمنح الناس فرصة لإيصال أصواتهم ونشر قضايا الفساد على نطاق واسع، فالضغط الشعبي الذي تحدثه السوشيال ميديا، يدفع المسؤولين للتحرك، موضحة أهمية حملات التوعية لتعميم ثقافة النزاهة والشفافية.
ويبدو أن سقوط النظام لم ينهِ منظومة الفساد التي رسخها الأسد لعقود، بل أعادت تشكيل نفسها بطرق جديدة، ما يجعل الإصلاحات خطوة أولى فقط في معركة طويلة لبناء دولة القانون. وبين الوعود الرسمية والواقع الميداني، يبقى الفساد أحد أكبر التحديات أمام الحكومة الجديدة.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية