جدول المحتويات
«نبض الخليج»
كان سومر كريكر يعرف بأن الرحلة شاقة، لكنه لم يعلن عن خوفه، فقد حدث ذلك في صيف عام 2015، في شقة صغيرة بعمان، حيث لم يخطر ببال ذلك الشاب السوري أن يتحمل كل تلك الرحلة الطويلة والشاقة. نزح هذا الشاب الذي كان طالب هندسة من سوريا قبل ثلاث سنوات ونصف بعد أن رفض الانخراط في جيش النظام البائد الدموي، ثم أخذ يستعد لبدء مرحلة جديدة في حياته، ولذلك شرع بمهمة جديدة، وهي لم شمله بشقيقتيه الأصغر منه سناً واللتين بقيتا في دمشق، ثم السفر برفقتهما إلى ألمانيا، حيث يعيش شقيقهم.
يخبرنا سومر الذي لم يتجاوز عمره وقتئذ 27 عاماً: “لم أكن أحس بالقلق أو التوتر بشأن الرحلة، ولم تكن لدي أدنى فكرة عن الخطر أو الفشل، لأن كل أفكاري انصبت حول تحويل الرحلة إلى مغامرة سعيدة لي ولشقيقتي”.
ثم يضيف: “لسبب ما، كنت على يقين من أني سأصل بسلام إلى ألمانيا”.
في عام 2015، حاول نحو مليون طالب لجوء الوصول إلى أوروبا، ذلك العام الذي سيصفه المسؤولون والعاملون في الإغاثة فيما بعد بأنه يمثل ذروة سنام أزمة الهجرة التي وضعت القيم الجوهرية للاتحاد الأوروبي على المحك، ذلك الاتحاد الذي ولد من رماد حرب شردت الملايين. وفي مؤتمر صحفي عقد بأحد مخيمات اللجوء بدريسدن في 31 من آب، أعلنت المستشارة الألمانية آنذاك، أنجيلا ميركل، بأنهم بوسعهم القيام بذلك، في وقت فتحت ألمانيا حدودها لمن يحتاج إلى القدوم إليها.
اليوم أضحت رحلة سومر مع شقيقتيه أصعب بأشواط وأشواط، فقد مضت عشر سنوات على تلك الحكاية، أي مضى عقد كامل أعاد من خلاله ملف الهجرة رسم معالم المشهد السياسي في عموم القارة الأوروبية، ومهد السبيل أمام صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة.
في عام 2014، أي قبل عام على رحلتهم، تمكن شقيقهم مصعب من السفر من ليبيا إلى صقيلية برفقة زوجته الحامل على متن قارب، ولكن تكرار هذه الرحلة برفقة شقيقتيه لم يعد خياراً بالنسبة له، نظراً لخطورتها الشديدة، إذ قبل بضعة أشهر، وتحديداً في 18 من نيسان 2015، اصطدم قارب صيد صمم لنقل ما لا يزيد عن 30 راكباً، لكن حشر فيه أكثر من ألف طالب لجوء، بسفينة شحن برتغالية اقتربت منه لتمد يد العون، ما أدى إلى غرق القارب في عرض البحر قبالة سواحل صقيلية، وبقيت معظم جثث الضحايا عالقة بهيكل المركب الذي غرق على عمق 400 متر في قاع البحر، وهكذا فارق أكثر من 800 شخص الحياة بسبب ما أضحى أكبر كارثة لتحطم السفن بتاريخ أزمة الهجرة إلى أوروبا.
ولذلك لم يكن أمامهم سوى خيار وحيد، وهو طريق البلقان الأقل خطراً لكنه أطول ومتعب أكثر، إذ بعد السفر من تركيا إلى اليونان على متن قارب مطاطي، يعبر المرء ما لا يقل عن أربعة بلدان عبر الجبال والغابات المغطاة بالثلوج إن حدث السفر في شهور الشتاء الباردة.
يقول سومر: “كانت الخطة أن ألتقي بشقيقتي وهما سلسبيل، 21 عاماً، ولبنى، 14 عاماً في إسطنبول، حيث وصلتا على متن طائرة قادمة من دمشق، ووصلت أنا إلى تركيا على متن طائرة قادمة من عمان”.
وبعد رحلة بالحافلة قطعت البلد كله، وصلوا إلى كاش وهي مدينة ساحلية تقع على ساحل البحر المتوسط في تركيا، ومن هناك نقلهم المهربون إلى جزيرة كاستيلوريزو اليونانية مقابل مبلغ قدره ألف يورو عن كل شخص.
يتابع سومر فيقول: “قررنا أن تغادر شقيقتي قبلي، فكانت تلك أكثر لحظة مؤثرة في الرحلة، لأن التفكير بعبورهما وحدهما من تركيا إلى اليونان على متن مركب مطاطي كان يثير جنوني وقلقي”.
قبل بضعة أيام، وتحديداً في 13 من أيلول، غرق ما لا يقل عن 34 شخصاً بينهم 15 رضيعاً وطفلاً عندما انقلب بهم قارب مزدحم بسبب الرياح العاتية قبالة جزيرة فارماكونيسي ببحر إيجة. وبحسب بيانات مفوضية اللاجئين، والمنظمة الدولية للهجرة، فإن نحو 731 شخصاً فارقوا الحياة في بحر إيجة أثناء محاولتهم الوصول إلى اليونان بقوارب مطاطية خلال عام 2015.
كرة القدم لتبديد الفزع
لحسن الطالع، كان البحر هادئاً في ذلك اليوم، فوصلت الشقيقان بأمان إلى كوستيلوريزو، ووصل بعدهما ببضعة أيام سومر، وكانت تلك الجزيرة تشهد حالة تدفق للمهاجرين الذين فاق عددهم اليوم عدد سكانها.
يحدثنا عن الرحلة أليسيو مامو وهو الصحفي المصور الذي يعمل لصالح صحيفة الغارديان والذي التقى بسومر في تركيا وقرر توثيق رحلته، فيقول: “كانت جزيرة رائعة، ذات مياه صافية، وكان الفرق شاسعاً بين جموع السياح وآلاف المهاجرين الذين تدفقوا عليها، وحتى نبدد الخوف الذي عشناه بعد عبورنا بالقارب المطاطي لعبنا كرة القدم، حيث كان هنالك فريق سوريا الذي لعب ضده فريق ضم بقية دول العالم، وبدلاً من القمصان، ارتدى الفريق الخصم ستر النجاة”.
انطلقت تلك المجموعة على متن العبارة متوجهة إلى أثينا، ومن هناك، وبعد مرور يومين، انضم سومر وشقيقتاه وأليسيو إلى آلاف المهاجرين غيرهم والذين واصلوا طريقهم باتجاه حدود مقدونيا الشمالية، فوصلوا إلى مخيم في الهواء الطلق تديره مفوضية اللاجئين.
يقول سومر: “كانت الحدود مفتوحة خلال تلك الفترة بخلاف ما هي عليه اليوم، لذا لم يكن من الصعب الوصول إلى دول البلقان”.
“غزو” طالبي اللجوء لأوروبا
في 15 من تشرين الأول، صعدوا على متن القطار حتى يصلوا إلى صربيا، حيث كانت الأجواء متوترة، إذ قبل أسابيع على وصولهم، قطع أكثر من 13 ألف مهاجر من صربيا إلى كرواتيا في غضون أيام قلائل، وهذا ما أثار ذعر الحكومات الأوروبية، ففي زغرب، خشي المسؤولون من أن تتحول بلادهم إلى آخر خط دفاعي أمام “غزو” مفترض لطالبي اللجوء، وسرعان ما استحوذت تلك السردية على تفكير الأحزاب اليمينية المتطرفة في عموم القارة الأوروبية.
استوقفت الشرطة الصربية أليسيو، لعدم وجود تسجيل دخول إلى بلده على جواز سفره، وهكذا انفصل عن المجموعة ونقل إلى مخفر للشرطة حيث جرى استجوابه، ثم سمح له بمواصلة رحلته والوصول إلى كرواتيا على متن حافلة.
في طريقهم إلى أوروبا، عاش المهاجرون في مخيمات مؤقتة، أقيمت في العراء أو داخل دور إيواء صنعت من الورق المقوى، أما من لم يكن بوسعه تحمل أجور النقل بالحافلات أو بالقطارات فقد قطع الرحلة على قدميه داخل الغابات الكثيفة والجبال التي نادراً ما يجد المرء فيها طرقات يمكنه عبورها، كما ناموا في أي مكان وزمان بوسعهم الخلود إلى النوم فيه.
بداية السياسات المشددة
في 17 من أيلول، أغلقت كرواتيا سبعة من أصل ثمانية معابر حدودية مع صربيا في محاولة للحد من تدفق اللاجئين، وبعد شهر على ذلك، تبعتها سلوفينيا، في إشارة واضحة على أن أوروبا بدأت بإغلاق أبوابها بعد أن أصبحت تعاني في إدارة الأعداد غير المسبوقة من المهاجرين.
وبعد شهر على ذلك، وصل سومر وشقيقتاه وأليسيو إلى سالزبيرغ بالنمسا، وبعد يومين على ذلك، أي بعد 44 يوماً وأكثر من 4434 كيلومتراً قطعوه في تلك الرحلة، وصل الجميع إلى ألمانيا، وبلغت رحلتهم نهايتها عندما عانقوا مصعب عناقاً طويلاً مشبوباً بكل عاطفة.
وأخيراً التم لم الأسرة التي هربت من نظام الأسد بعيداً عن الحرب والخوف.
يعيش سومر اليوم في بوخوم حيث تزوج في العام الماضي، وأصبح يعمل مديراً للمشاريع لدى شركة متخصصة بالصناعات الغذائية.
يحدثنا سومر عن ذلك فيقول: “وجدنا المساعدة والدعم في ألمانيا، ولم أشعر بأي تمييز ضدي هنا”.
انتقادات للامتحان “التاريخي”
في ذلك العام، تعرضت ميركل لانتقادات شديدة من أغلب قادة الاتحاد الأوروبي وذلك بسبب استجابتها لتلك الأزمة التي وصفتها بـ”الامتحان التاريخي” الذي لا يمكن حله عبر إيصاد الأبواب دون اللاجئين، ولذلك استقبلت بلدها بموجب سياسة الباب المفتوح الآلاف منهم.
أوروبا الحصينة في وجه الهجرة
تعلق على ذلك جوديث ساندرلاند معاونة مدير شعبة آسيا الوسطى وأوروبا لدى منظمة هيومن رايتس ووتش، فتقول: “كانت سنة 2015 سنة التناقضات الهائلة التي أتت باحتمال بدا في وقت من الأوقات أشبه بتعهد من قبل أوروبا السخية والعادلة التي ترحب باللاجئين وتستقبلهم، وانتهت تلك التناقضات باعتناق سياسات قاسية وقمعية بخصوص الهجرة واللجوء، ومنذ تلك السنين، اتجه الاتحاد الأوروبي نحو تحصين أوروبا بالتدريج”.
وعقب ما حدث في عام 2015، أصبح طريق البلقان أصعب بكثير، حيث انتشرت فيه أسيجة الأسلاك الشائكة وعمليات الصد المسلحة التي مارسها خفر الحدود.
في وسط البحر المتوسط، تراجعت إيطاليا عن موقفها الإنساني، حيث حل محل عملية (بحرنا) التي رأستها البحرية الإيطالية والتي ركزت على إنقاذ سفن المهاجرين عند وقوعها في محنة، بعملية تريتون التي تهدف إلى تسيير دوريات في البحر المتوسط هدفها إبعاد الناس لا إنقاذ الأرواح.
استعان المدعون العامون الأوروبيون بالقوانين التي وضعت خصيصاً لمجابهة الجريمة المنظمة وذلك لملاحقة مهربي البشر، وهدفها من ذلك لم يكن منع الانتهاكات التي يتعرض لها اللاجئون على طرقات التهريب، ولكن لمنع تدفق المهاجرين. وعند تدخل المنظمات غير الحكومية لملء الفراغ الحاصل، وإطلاقها عمليات إنقاذ في المياه الإقليمية الليبية، أخذت السلطات الإيطالية تحتجز السفن وتلقي القبض على طواقمها من المتطوعين والمتطوعات.
كما بدأت إيطاليا بإغلاق موانئها أمام مراكب المهاجرين الوافدة من ليبيا، إذ في عام 2017، عقد وزير الداخلية الإيطالي آنذاك، ماركو مينيتي، زعيم الحزب الديمقراطي من يسار الوسط، اتفاقاً مع خفر السواحل الليبي يقضي باعتراض المهاجرين وإعادتهم إلى ليبيا، في وقت نقلت وكالات الإغاثة أنباء عن انتشار عمليات التعذيب والانتهاكات بين صفوف المهاجرين.
تحولت أزمة الهجرة إلى قضية حاسمة في الانتخابات الأوروبية في حزيران من عام 2024، فساعدت على وصول أحزاب اليمين المتطرف إلى السلطة بعد الفوز بتلك الانتخابات، تلك الأحزاب التي طالبت بإغلاق الحدود وإعادة المهاجرين بشكل جماعي إلى بلدانهم.
وخلال العام الماضي، افتتحت جورجيا ميلوني رئيسة وزراء إيطاليا من اليمين المتطرف مركزين في ألبانيا لاحتجاز الرجال الذين تم اعتراض سبيلهم في المياه الدولية أثناء محاولتهم العبور من أفريقيا إلى أوروبا. في حين طردت اليونان آلاف طالبي اللجوء بالسر، وتخلت عن معظم من أتوا على متن قوارب نجاة مطاطية في بحر إيجة، أما حكومة هنغاريا فقد أمرت بإغلاق حدودعا مع صربيا وتشييد سياج على الحدود معها.
وبالنتيجة زاد عدد الوفيات بشكل كارثي.
تعلق على ذلك مونيكا ميناردي رئيسة منظمة أطباء بلا حدود في إيطاليا، فتقول: “فارق أكثر من 32 شخصاً الحياة أثناء محاولتهم عبور البحر المتوسط منذ عام 2014، في حين تُرك المهاجرون وطالبو اللجوء من دون أي بديل سوى المخاطرة بأرواحهم سعياً لتحصيل الأمان والحماية”.
وتضيف ساندرز: “من إسبانيا إلى كرواتيا إلى اليونان، شهدنا عنفاً وحشياً وفي بعض الأحيان تسبب بالقتل وذلك لمنع الناس من الدخول، وبالنسبة لكل السياسات والممارسات المريعة التي رأيناها في عام 2015 (وما قبله)، فقد بقيت تلك الفترة التي قالت خلالها ميركل: بوسعنا فعل ذلك، أما الآن فإن الحكومة الألمانية أصبحت تصد الناس على الحدود وتحاول أن تلغي قانون لم شمل العائلات”.
مضى عقد كامل على رحلة سومر، وحتى اليوم بقي مستقبل المهاجرين وأوروبا نفسها غير واضح المعالم، بعد انتشار حالة التعصب وعدم تقبل الآخر في عموم القارة الأوروبية، ففي ألمانيا حيث يعيش سومر، حل حزب البديل من أجل ألمانيا المعادي للمهاجرين من اليمين المتطرف في المركز الثاني في الانتخابات الفيدرالية التي أقيمت في شهر شباط الماضي، فأحرز أكثر من 20% من الأصوات.
وفي هذه الأثناء، وبعد أن حصنت أوروبا نفسها بأسلاك شائكة وعمليات صد ممنهجة، نجدها ما تزال تواصل الانغلاق على نفسها.
المصدر: The Guardian
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية