«نبض الخليج»
أخذت الدراما السورية في عدد من مراحلها قلوب متابعيها وحصدت نجاحات معتبرة، في ظروف عمل صعبة. لكنها لم تفلح في مواكبة قصص السوريين الإنسانية، والأصح أنها عجزت عن اللحاق بجنون السوريين الذين وقفوا في وجه آلة القتل، ومشت في أحيان كثيرة عكس عقارب الساعة، أو بلغة أدق، عكس إرادة السوريين.
بعد خلع النظام، وطي الصفحات السود من تاريخ السوريين، تفتتح الدراما السورية مشهداً جديداً، ليس فقط كفن بصري يسعى للترفيه أو الإبهار، بل كأداة عميقة لالتقاط الحكايات السورية المعلقة منذ عقود، ورواية تفاصيل غابت طويلاً عن الشاشة تحت مقصّ الرقابة والخوف.
“يوم وشوي”
في مسلسل “يوم وشوي”، يبدأ صُنّاع العمل الدرامي بداية تبدو مبشّرة لقراءة الواقع السوري، في قالب سينمائي ليس مباشراً بقدر ما هو حقيقي وصادق، بالطرح والرؤية ورسالة العمل. المسلسل سيعرض على تطبيق “العربي بلس” حيث تبنت المنصة العمل بجرأة لا تقل عن جرأة صناعه الذين بدؤوا التصوير بشكل مستقل مالياً ومعنوياً، في خطوة تعد مجازفة خطيرة جداً في فضاء الإنتاج.
في هذا الحوار مع مخرج العمل يمان عنتابلي، نقترب من كواليس تجربته الأولى داخل سوريا بعد التحرير، ولحظة عدم التصديق: هل فعلاً نحن في دمشق وحلب ودرعا وبقية البلاد؟ هل فعلاً انتهى عصر التهجير والاعتقالات والقصف والقتل تحت التعذيب؟ هل فعلاً نصوّر دراما سورية تحكي قصص الغائبين أو تعبّر عنهم؟ هل فعلاً نصوّر هنا بعد يأس نهائي من العودة؟
التقى موقع تلفزيون سوريا مع يمان عنتابلي على سطح بيت عربي في حي القيمرية بدمشق القديمة. السماء فوقنا، ومآذن الجامع الأموي تضيء بعضاً من العتمة مع شمس الغروب، ومن حولنا بعض أحواض الزريعة. شربنا القهوة وبدأنا الحديث في أول حوار صحفي لعنتابلي عن مشروعه الجديد:
- سؤال أول مكثّف، لو تحكي لنا عن عملك الجديد، نوعه وكادره الفني وماذا يعالج؟
يمكنني القول إنك ستجد فيه شيئاً من الإثارة والاجتماعي والسياسي والنفسي، لكنني أفضل أن أكتفي بتوصيفه بـ”دراما”.
أبرز من يتصدى لبطولة العمل هم الفنانون: يارا صبري، جمال العلي، فرح الدبيات، تيم حناوي، والأطفال جاد وجميل.
يعالج النص يوماً سورياً، ولكن من ست وجهات نظر، لا تقل إحداها عن الأخرى. ويتكرر اليوم في كل حلقة مع شخصية مختلفة، ويلتقون في الربع الأخير من الحلقة الأخيرة، وعندها تصبح القصة للجميع، في عمل يحمل عنوان “يوم وشوي”.
- هل يمكننا أن نعرف ما الرسالة التي يحملها المسلسل؟
إذا كان هنالك رسائل من الأعمال، فأنا لا أفضل أن يبوح بها صُنّاعها. المهم أن يشعر بها الجمهور، فمهمتنا تنتهي مع إصدار العمل للمشاهدة.
- بعد سنوات في لبنان وتركيا وقطر، وسنوات لجوء طويلة ومليئة بالتفاصيل والأيام، كيف وجدت بيئة العمل داخل سوريا لأول مرة بعد التحرير؟
تخيل معي لو أن جدتك كانت تحكي لك حكايا مرعبة في أرض خيالية، قد تسبب لك عقداً نفسية عديدة؛ ولكن شعرة صغيرة تطمئنك بأن كل ذلك خيالي ولا يمكن الاقتراب منه أو ملامسته، لأنه لا وجود لذلك العالم.
هكذا كانت علاقتي بسوريا بعد تهجيري منها: أرض المخاوف، غير الموجودة، لأنه من المستحيل لي أن أراها. وفي ليلة وضحاها (بالمعنى الحرفي) أصبح ذلك العالم يمكنك دخوله مشياً على الأقدام، مقدم لك كمرحلة واقعية من مراحل لعبة فيديو. تقترب منه ما شئت، تفتح جميع أساطيره المرعبة التي ظللنا نسمع عنها خمسين عاماً. ما الذي يرعبك فيه ولا تصدقه؟ صيدنايا!! فرع 215!! القصر الجمهوري!!
تفضل ادخلهم.. واكتب ما تشاء.. وصوّر ما تشاء..!
تخيل أيضاً أنك تبحث عن معلم صغير من آثار النظام، مشهد علمه مدهوناً على “غلئ” (باب محل)، لتحاكي حقبة كانت تنكّل بك وبأهلك من أيام!
تخيل أن الشارع الذي كان يراودك في كوابيسك وأنت تهرب من دورية الأمن أصبح حقيقة.
وبدون مبالغة، الإجابة على سؤال كهذا تحتاج إلى مسلسل كامل.
- هذه الإجابة تضعني أمام سؤال جوهري: سقط النظام وتحررت سوريا، وعدنا إلى هنا، نجلس ولا نصدق. يعني تشعر بأنه فعل درامي. برأيك، هل ستعود الدراما السورية لحكاية قصصها من الواقع بعد سنوات من الغياب؟ أو الاختفاء بمعنى آخر؟
ربما السؤال الأهم هنا: هل كانت الدراما السورية تحكي قصص الواقع؟
ليس لقلة حيلتها، فالدراما السورية ربما كانت الأكثر براعة عربياً منذ نهاية التسعينيات وصولاً حتى عام 2010، ولكن هل كانت تحاكي قصص الواقع فعلاً؟! هل كانت الرقابة تسمح لها بحكاية الواقع؟!
لذلك تجد أن أبرع الأعمال سورياً كانت إما اجتماعية مجتزأة لا تستطيع أن تحاكي سجيناً أو مختفياً أو مهجّراً بصدق، أو تاريخية بعيدة عن حزب البعث مئات السنين.
وهذا تفوق يُحسب للدراما السورية، فمن يستطيع العمل والإبداع تحت عين حافظ الأسد وابنه المخلوع بشار، هو مبدع فوق العادة.
- كيف كانت كواليس “يوم وشوي”؟
كانت الكواليس، للأمانة، متعبة. ففي ظل التصوير كانت أحداث جرمانا وصحنايا المؤلمة، وكان جزء كبير من الطاقم يقطن في تلك الأماكن. ولكن الجدير بالذكر أن الطاقم متنوع الأعراق والطوائف لأبعد الحدود. وتجد الجميع يعمل باجتهاد وإخلاص لعمل فني يحاكي قصة عائلة سورية مكلومة، متجاوزين الطائفية والمناطقية التي كانت تملأ السوشيال ميديا حينها وتشعرك بأن تلك هي سوريا. وكان الجميع مؤمناً بالعمل بإخلاص وتفانٍ، من دون منفعة مباشرة واضحة، فلم يكن مكتوباً للعمل أن يُباع ولا حتى أن يُعرض.
- من يتابع أفلامك القصيرة “مختوم”، “زعتر”، “دلس”، و”للعبث يا طلائع”، وغيرها، يرى أنك محب للسينما وعدستك سينمائية بشكل واضح. هل الدراما التلفزيونية تأخذك لمسار مختلف؟
إذا عدنا إلى سبب براعة الدراما السورية ستجد أن الفضل يعود للمخرج السوري المعروف هيثم حقي، ومن بعده المخرج الراحل حاتم علي، اللذين قادا المسلسلات من حالة الجمود التلفزيوني المقيت إلى التحرر السينمائي الذكي والرصين، متحملين بذلك جميع الأعباء الإضافية ومتجاوزين قلة الإمكانيات والعقليات القديمة.
- أستطيع القول إننا أخذنا مسلسل “يوم وشوي” على نفس الجرأة التي بدأها هيثم حقي وحاتم علي، وعززنا السينمائية فيه، آخذين بعين الاعتبار قوالب المسلسلات المحدودة والمكتوبة والمصنوعة بعناية سينمائية.
وبالطبع، أتمنى أن يكون العمل خطوة إضافية باتجاه سينمائية المسلسلات، وباكورة لدراما سورية بعيدة عن القوالب الرمضانية المستهلكة.
- خلال التصوير في مسلسلك الجديد، من تذكرت من مخرجين سوريا الكبار الذين كان لهم إسهامات حقيقية في نقل السينما والدراما السورية إلى مكان آخر؟
ذكرت لك في الأعلى فضل أهم صانعين في الدراما السورية (هيثم حقي وحاتم علي). ولكن دعني أجيبك بموقف حصل. كما تعلم، كتبت هذا المسلسل ودخلت تصويره على حسابي الشخصي، من دون أي تمويل أو تبنٍ من أي جهة حينها. ولك أن تتخيل جرأة ومخاطر كهذه، وما يمكن أن تولده من تحديات طبيعية. وفي ذروة خيبات الأمل أثناء التصوير، والتعقيدات والمشاكل، وفي لحظات حاسمة كدنا نوقف فيها العمل حتى إشعار آخر، كنت أشتكي لصديقي حذيفة نجم، وهو من كتّاب العمل وعمل كمخرج منفذ في إحدى الحلقات، فأرسل لي اقتباساً من كتاب:
قاله هيثم حقي للمخرج السينمائي السوري محمد ملص – مبنى الإذاعة دمشق عام 1972:
“- الآن يا محمد! بدنا نقبل بالأفلام القصيرة، وشوي شوي! راح يعرفوا من نحن…!”.
إذا كان هؤلاء بحاجة ليعرفوا عن أنفسهم حينها، فلا يحق لنا التعب ولا الشكوى.
وتلك كانت البداية.
- شكراً يمان وبالتوفيق لك ولكل كادر العمل.
الشكر موصول لك.
من هو يمان عنتابلي؟
ويمان عنتابلي مواليد دمشق عام 1996، مخرج وكاتب سيناريو سوري. يُعد من أبرز الأصوات الشابة في الدراما السورية بعد الثورة السورية. بدأ بإخراج أفلام قصيرة مثل “دلَس” و”سهوة” (2016)، “زعتر” و”من هذا الطريق”(2017)، “سلسلة طنبورة” و”مختوم” (2018) قبل أن يلفت الأنظار بفيلمه الجريء “للعبث يا طلائع” (2019) الذي تناول رمزية التعليم العقائدي في سوريا وسقوط صورة بشار الأسد كرمز لمحور الفيلم، نالت أعماله استحساناً وانتشاراً واسعاً على المستوى السوري والعربي.
كما عمل مخرجاً في برامج تلفزيونية منها “جوشو” وشارك في أفلام وثائقية مثل “الصرخة الأولى” (2020) الذي عرض على تلفزيون سوريا و”صيدنايا” الذي يعرض قريباً على شبكة التلفزيون العربي.
أسس شركة دارميسك للإنتاج الفني في إسطنبول، وعاد إلى سوريا عام 2024 ليبدأ أول عمل درامي طويل بعنوان “يوم وشوي”. يجمع في رؤيته بين الحساسية الإنسانية والبنية النفسية للشخصيات.
بطاقة تعريفية بـ “يوم وشوي”
“يوم وشوي” هو مسلسل درامي قصير من خمس حلقات (أربع حلقات في سوريا وواحدة في تركيا)، يروي أحداث يوم واحد في حياة عائلة سورية من خلال ست وجهات نظر مختلفة. تتقاطع خيوط الشخصيات في النهاية لتشكّل قصة جماعية عن الهوية والعائلة والذاكرة السورية.
بطولة
يارا صبري
فرح الدبيات
جمال العلي
تيم حناوي
الأطفال
جاد الرجولة
جميل مرعي
بمشاركة
حنان شقير
نيكول عبيد
يزن كيالي
سناء سواح
محمد عبد السلام
موسيقى
كرم صليبي
مدير تصوير
سوريا: نذير سواس
تركيا: سيدريك الباشا
ورشة الكتابة
يمان عنتابلي
حذيفة نجم
موفق زيدان
مخرج منفذ
قتيبة الخوص (سوريا)
حذيفة نجم (إسطنبول)
إخراج
يمان عنتابلي
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية