جدول المحتويات
«نبض الخليج»
على مدار عقود، أسهمت سياسات نظام الأسد المخلوع في خلق انقسامات داخل المجتمع، سواء من خلال فرض سياسات الرأي الواحد، أو تهميش بعض المكوّنات، أو التحكم في مؤسسات الدولة بما يعزز النفوذ الطائفي والسياسي. وأدت هذه السياسات حينذاك إلى ضعف الثقة بين المواطنين، وزيادة التوترات الاجتماعية، وانتشار الخوف والشكوك بين أبناء المدينة الواحدة.
ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011، ازدادت هذه الانقسامات عمقاً وتعقيداً، ما أدى إلى تفكك روابط المجتمع وتفاقم الصراعات بين مختلف المكوّنات.
وسط هذه التحديات، التقى موقع تلفزيون سوريا بعدد من سكان حمص، بما في ذلك الشباب وناشطين من المجتمع المدني، لاستطلاع آرائهم حول المصالحة المجتمعية، والتحديات التي تواجه إعادة بناء الثقة بين المكوّنات المختلفة للمدينة. وتهدف هذه الحوارات إلى استكشاف السبل العملية لتعزيز التعايش السلمي واستعادة الروابط بين أبناء المدينة.
“المشكلات ليست بين المكوّنات”
تؤكد أنجيلا عوض، أستاذة جامعية في حمص، أن التعايش بين المكوّنات المختلفة في المدينة كان قائماً رغم الصعوبات، وتقول لموقع تلفزيون سوريا: “نحن نعيش في مبانٍ واحدة تجمع مختلف الطوائف، ولا توجد مشكلة في هذا التعايش. أعتقد أن المستقبل سيكون أفضل، خصوصاً بعد انتهاء المحاكمات، حيث سيعود الجميع إلى بناء الوطن معاً.”
وتكمل قائلة:”التعايش كان دائماً موجوداً، ففي الدوائر الرسمية ووسائل النقل والأماكن العامة نتحدث مع بعضنا بسهولة، فالناس بطبيعتها تحب التواصل. والمشكلات ليست بين المكوّنات نفسها، بل مع بعض الأفراد المسيئين. أما من يرفض التعايش، فذلك يعود إلى تربيته وتعليمه. هنا يأتي دور المدارس ورجال الدين في نشر الوعي وتعزيز ثقافة العيش المشترك.”
أما عن المستقبل، فتشير إنجيلا إلى أن حمص “ستتحول إلى نموذج للسلم الأهلي في سوريا، بينما تبقى المناطق، التي يقطنها مكوّن واحد فقط، أكثر عرضة للانغلاق والعزلة”، وفقا لرأيها.
“الحل تطبيق قوانين على الجميع بشكل متساوٍ”
محمد الحمصي عاد إلى حمص من الشمال السوري بعد التحرير وسقوط النظام، وكان قد انشق عن صفوف الفرقة الرابعة التابعة لماهر الأسد في عام 2011، وانضم إلى صفوف الجيش الحر.
في حديثه لموقع تلفزيون سوريا يشير محمد إلى أن بناء العقد الاجتماعي في البلاد يمكن أن يتحقق من خلال تطبيق قوانين الدولة على جميع الطوائف بشكل متساوٍ، مع التأكيد على أن تكون الحكومة حديثة التأسيس ورئيسها منتخب من الشعب.
ويصف محمد أن سنوات الثورة السورية قد تركت أثرها على الناس نتيجة للهجرة المتكررة والتحولات المجتمعية المتعددة، مما أدى إلى تغير شكل العلاقات الاجتماعية. ويقترح محمد إعادة تطبيق الخدمة العسكرية الإلزامية، باعتبارها وسيلة تجمع جميع أطياف الشباب ليتعايشوا مع بعضهم بعضاً، مما يتيح لهم التعرف على ثقافات ومعتقدات بعضهم وتعزيز التفاهم بين مختلف المكونات.
“الأحداث تنعكس على الجميع”
تتناول فرح عيسى، ناشطة في العمل الإنساني في حمص، في حديثها لموقع تلفزيون سوريا واقع الثقة بين سكان المدينة بعد سنوات الحرب، والتحديات التي تواجه المصالحة المجتمعية وتقول: من وجهة نظري، الوضع الحالي غير منطقي ومليء بالارتباك. الشعب، بعيداً عن انتماءاته الدينية والسياسية، شعب طيب ومتقارب لأنه عاش ضمن مجتمع واحد، وثقافة واحدة، وخَبِر الأزمات ذاتها التي مرّت بها المحافظة. أي حدث – سلبي أو إيجابي – أصاب حمص انعكس على جميع سكانها بالتساوي.
بحسب وصف فرح عيسى، بعد الحرب والتحرير عاشت تناقضاً كبيراً، فتقول: “الشخص المقابل لي هو في الوقت نفسه قريب مني وبعيد عني، رغم أننا نتشارك تاريخاً طويلاً في هذه المدينة. التحدي الأكبر هو إيجاد حل منطقي يداوي الجراح التي أحدثها الناس ببعضهم: حل عاطفي يخفف من وجع السنين، وعقلاني يمكّن البلد من الاستمرار. والجمع بين العاطفة والعقل أمر بالغ الصعوبة في مجتمع بُنيت قراراته وحياته على الألم”.
هناك أسباب كثيرة لانعدام الثقة برأي فرح: “فبعض الناس خانوا جيرانهم القدامى، كما أن المجتمع الحمصي قبل الحرب كان أصلاً منفصلاً إلى حدّ ما، إذ إن كل حيّ يغلب عليه طابع معيّن، وهذا جعل الثقة بين الأحياء ضعيفة”.
وتعتقد فرح أن الشباب والشابات لديهم دور محوري في إعادة السلم الأهلي، فهم أكثر ثقافة وانفتاحاً واختلاطاً بمختلف المكوّنات، لكن بناء الثقة يحتاج إلى وقت، وأهم ما يمكن فعله الآن هو عدم محاربة أي مبادرة تدعو للصلح أو تعزّز الثقة.
وبرأي فرح عيسى، أن مؤسسات الدولة أيضاً لها مسؤولية كبيرة، إذ ينبغي للقائمين عليها ألا يستثنوا أي طرف من أطراف المجتمع، سواء في المبادرات أو الفرص المتاحة، أو حتى في تحسين الخدمات الأساسية مثل الطرق والنظافة. كما ترى فرح أن من المهم أن تستهدف الأنشطة الثقافية الأطفال، كي نُبعدهم منذ الصغر عن الانقسامات الطائفية. فالطفل يجب أن يدرك أن اختلاف الآخر معه قد يقتصر على الدين مثلاً، لكنه في المقابل يشاركه في عوامل عديدة أخرى.
وتضيف فرح: “أتوقع أن يكون المستقبل أفضل، لأن شعب حمص شعب طيب، يحتاج فقط إلى أن يتفهم بعضه بعضاً، ويعذر بعضه، ويحب بعضه. علينا أن ننظر إلى المستقبل، وألا نتمسك بالماضي الذي لا يجلب سوى الخراب.”
تحسن تدريجي رغم الخوف
أما لمى فهد، ناشطة في العمل المدني والإنساني في حمص، فتسلط الضوء على واقع المصالحة المجتمعية بين سكان المدينة بعد سنوات الحرب، وتقول لموقع تلفزيون سوريا:
“الوضع بين سكان المدينة يتحسن تدريجياً، إلا أن الخوف لا يزال موجوداً في بعض المناطق نتيجة الحرب التي شهدتها المدينة. علينا أن نتذكر دائماً أن ما حدث لم يكن أمراً بسيطاً، وأن العودة إلى الوضع الطبيعي تحتاج إلى وقت وصبر.”
وتصف لمى أبرز التحديات التي تواجه المصالحة بين المكوّنات المختلفة، وتشمل فقدان الثقة العميق والصراعات الطائفية الناتجة عن الحرب، والتي تعززت بسبب العنف والنزوح وخسارة الممتلكات، والسياسات التي تفرض رأياً واحداً.
وتقول: “شاركت في مبادرتين؛ الأولى أتاحت حرية التعبير للناس والتحدث عن كل ما مرّوا به، والثانية كانت مؤلمة وصعبة لأنها ضمت ذوي المفقودين والشهداء. من ناحية النتائج، لم أرَ تأثيراً فورياً، إذ تظهر آثار هذه المبادرات على المدى البعيد.”
وترى أن الشباب والنساء يستجيبون لمبادرات المصالحة بشكل إيجابي، إلا أن الحضور غالباً يقتصر على نفس الأشخاص، ما يشير إلى أن هذه المبادرات تستهدف فئة محددة أو أن قبولها لم يشمل جميع فئات المجتمع بعد.
وتكمل: “أرى أن الخطوة الأساسية لترميم الثقة بين المكوّنات المختلفة هي تطبيق القانون والعدالة، والسيطرة على الحالات الفردية، لإعادة شعور الناس بالأمان، إلى جانب الحوار الشامل بين جميع الأطراف. كما يمكن أن تعزز المبادرات الفهم المشترك، وتكسر الصور النمطية، وتتيح تجارب مشتركة تعيد الروابط بين أفراد المجتمع.”
وترى لمى أن المؤسسات المحلية والمجتمع المدني لهم دور كبير في هذا السياق، إذ يجب توعية جميع فئات المجتمع، خاصة بعد ما شهدناه من أحداث صادمة، لأن نشر الوعي في هذه المواضيع أصبح ضرورة أساسية.
وترى لمى أن تحقيق المصالحة المجتمعية يتطلب صبراً ودعماً كبيراً من جميع فئات المجتمع، مع التركيز على الأمان كأولوية. “حمص مدينة عانت كثيراً وقدمت الكثير وخسرت كثيراً، لذلك يجب أن نكون جميعاً متحدين لإعادة استقرارها وتحسين واقعها بشكل ملموس. لا يمكن لأي فئة وحدها أن تحقق ذلك، بل يجب أن نعمل جميعاً معاً لإعادة بناء المدينة وإعادة الثقة بين سكانها.”
ضرورة الاعتراف بالأخطاء
يتناول الناشط أبو عدي الحمصي (فضّل عدم ذكر اسمه الحقيقي) التحسّن النسبي في التعايش بين المكونات المختلفة بعد سقوط النظام، ويصف لموقع تلفزيون سوريا أن الوضع الحالي في المدينة أفضل مما كان عليه عند سقوط النظام، والسبب يعود إلى تحسّن مستوى تقبّل الآخرين بين المكونات المختلفة مقارنة بالفترة السابقة، التي كانت تشهد كثيراً من الاحتقان.
ويشير أبو عدي إلى أن أبرز التحديات التي تقف في وجه المصالحة، برأيه: عدم اعتراف بعض الأشخاص بأخطائهم، وعدم تحقيق العدالة أو محاسبة المخطئين، سواء كانوا من كبار الشخصيات أو صغارها، إذ إن ما حصل بين المكونات لم يكن مسألة طائفية بل كان يتعلق بالدم والعدالة. “المسألة تتعلق بالحق، وعلى الإنسان أن يضع معيار الحق قبل أي انتماء آخر” يقول أبو عدي مشيراً إلى أهمية الاعتراف بالأخطاء ومحاسبة المخطئين كأساس لإعادة بناء الروابط الاجتماعية وتعزيز الشعور بالأمان في المجتمع.
ويضيف أبو عدي أن من الخطوات الضرورية لاستعادة الثقة بين المكوّنات تنظيم فعاليات ولقاءات يشارك فيها شخصيات مؤثرة وقيادية، بحيث يتحدث الشخص باسم نسبة معقولة من الناس، ويطرح المشكلات بشفافية من أجل الوصول إلى تفاهم مشترك.
ويؤكد: “من الخطأ محاسبة أحد على أساس طائفته، بل يجب محاسبة المخطئ مهما كان، دون استهداف أي مكوّن بسبب اختلاف ثقافاته. فكوننا مجتمعاً واحداً يتطلب أن نكون جميعاً على نفس مستوى التفكير والالتزام بالحق والعدل.”
ورغم قسوة الحرب وما خلّفته من انقسامات ونزوح وخسائر، فإن أصوات أبناء حمص تعكس إرادة حقيقية لإعادة بناء جسور الثقة وترسيخ التعايش بين المكوّنات المختلفة. ورغم تباين الرؤى بين الدعوة إلى العدالة أو التركيز على الحوار والمبادرات المجتمعية، يبقى الأمل قائماً بأن تتحول حمص إلى نموذج للتعافي والمصالحة في سوريا، إذا ما تكاتف أبناؤها جميعاً من أجل مستقبل أفضل.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية