جدول المحتويات
«نبض الخليج»
ثمة ما يتجاوز الحكاية في ظاهرها، ما يتخطى الكلمات التي تروى، ويقيم في عمق التجربة الإنسانية؛ إنه فعل الذاكرة الثقافية، تلك المساحة التي تحفظ للأمم معنى وجودها، وتواجه بها جحيم النسيان. فكل جيل يظن أنه يبدأ من الصفر، غير أن خيوط التاريخ مثل نسيج خفي، تحكم التفاصيل الصغيرة في حياتنا؛ في لهجاتنا، أغانينا، أمثالنا الشعبية، وحتى في طريقة جلوسنا حول مائدة الطعام.
الحكاية ليست مجرد سرد للتسلية، بل هي مفتاح إلى هوية أوسع. حين تروي الجدة لأحفادها أسطورة القرية، أو حين يتردد بيت شعر في الأعراس، فإننا لا نعيد إنتاج الماضي، بل نرسخ قدرة الذاكرة على مواجهة المحو، على التصدي لسطوة حاضر سريع الزوال. ولذا، فإن الحكاية بما تحمله من رموز، تتحول إلى ما يشبه “الأرشيف العاطفي” للجماعة، حيث تختلط الحقيقة بالخيال، والتاريخ بالأسطورة، لكنها تبقى أكثر صدقا من الوثائق الجامدة.
استدعاء الذاكرة لا يعني الانغلاق على الماضي. هناك خيط رفيع بين أن نحفظ الحكاية، وأن نحاصر أنفسنا فيها. فالمجتمعات التي ترفض مساءلة ذاكرتها تقع في فخ التكرار
االحكاية كخزان للهوية
في الأدب العربي، تتجلى الحكاية بوصفها مرآة للذاكرة الجمعية. روايات غسان كنفاني مثل “رجال في الشمس” أو “عائد إلى حيفا”، ليست مجرد قصص فلسطينية، بل استدعاء لذاكرة شعب يحارب النسيان القسري. كل شخصية فيها تمثل شريحة من المنفى والاقتلاع، لكنها تترك أثرا عاطفيا لا تمحوه السنين.
وبالمثل، حمل نجيب محفوظ في الثلاثية ذاكرة أحياء القاهرة، حيث تحولت التفاصيل اليومية إلى أرشيف تاريخي نابض. لم يكن يكتب عن أسر محدودة بقدر ما كان يرسم خريطة وجدانية لمدينة بأكملها، تحفظها الأجيال المقبلة كما لو كانت صورة متحركة من الماضي.
السينما.. الصورة في مواجهة المحو
السينما العربية أيضا احتضنت الذاكرة كفعل مقاومة. في فيلم “المومياء” (1969) لشادي عبد السلام، الحكاية ليست عن لصوص المقابر فحسب، بل عن سؤال الذاكرة الثقافية: لمن تنتمي الآثار؟ وكيف يمكن للشعب أن يحفظ تراثه من الضياع؟ إن الفيلم، بمشاهده المتأملة، هو تذكير بأن النسيان لا يهدد الأفراد وحدهم بل هوية الأمة جمعاء.
وفي زمن أقرب، جاءت أفلام مثل “الجنة الآن” لهاني أبو أسعد أو “باب الشمس” ليسري نصر الله، لتعيد الحكاية الفلسطينية إلى الشاشة بوصفها وثيقة وجدانية تقاوم النسيان السياسي، وتذكر العالم بأن الحكاية لا يمكن أن تمحى بالاحتلال أو التهجير.
الصورة واللحن كأرشيف شعوري
في الفن التشكيلي، نجد لوحات جواد سليم وإسماعيل شموط وقد تحولت إلى أرشيف بصري للشعوب. شموط مثلا، جسد في لوحاته معاناة اللاجئين الفلسطينيين، بحيث لا يمكن للذاكرة الجمعية أن تنسى الملامح التي رسمها.
أما في الغناء، فقد لعبت أصوات مثل فيروز وأم كلثوم ومارسيل خليفة دورا محوريا في صون الذاكرة. أغنية “رجعت الشتوية” لفيروز ليست مجرد لحن، بل استدعاء للذاكرة الحسية عن الشتاء في بيروت. وأغاني مارسيل خليفة، المستندة إلى قصائد محمود درويش، جعلت الشعر نفسه جسرا بين الفرد والجماعة، بين الحنين والمقاومة، بين الماضي والراهن.
المسرح.. ذاكرة تعرض على الخشبة
المسرح العربي بدوره كان بيتا للذاكرة، ومنبرا لمساءلتها. أعمال توفيق الحكيم، مثل أهل الكهف، أعادت استدعاء الأساطير والتراث لتطرح أسئلة معاصرة عن الزمن والهوية. بينما جعل سعد الله ونوس من المسرح مساحة مواجهة حقيقية مع النسيان والخذلان، كما في مسرحيته حفلة سمر من أجل 5 حزيران، التي فتحت جرح الهزيمة العربية على الخشبة كي لا يطمر بالصمت.
المسرح هنا ليس مجرد عرض فني، بل فعل تذكير علني، يشرك الجمهور في استحضار أسئلة الماضي والحاضر معا، ويحول الحكاية إلى ممارسة جماعية تبقي الذاكرة حية.
بين الحكاية والواقع: الذاكرة كأداة مقاومة
غير أن استدعاء الذاكرة لا يعني الانغلاق على الماضي. هناك خيط رفيع بين أن نحفظ الحكاية، وأن نحاصر أنفسنا فيها. فالمجتمعات التي ترفض مساءلة ذاكرتها تقع في فخ التكرار؛ بينما تلك التي تستنطق الحكايات لتفهم ما وراءها، قادرة على تحويل الذاكرة إلى أداة إبداعية.
لهذا، فإن مواجهة النسيان لا تكون بالشعارات بل بالفعل؛ بكتابة الرواية، وصناعة الفيلم، ورسم اللوحة، وتقديم المسرحية، وترديد الأغنية. كل ذلك يشكل طبقات من الذاكرة الجمعية، التي تحرسنا من المحو، وتمنحنا القدرة على أن نبدأ من أرض صلبة لا من فراغ.
رؤية شخصية.. ذاكرة أنثوية في مواجهة النسيان
أكتب هذه الكلمات وأنا أستحضر وجوه النساء اللواتي حملن الحكاية على أكتافهن دون أن يعلمن أنهن يحرسن الذاكرة. جدتي التي كانت تروي لنا في الليالي الطويلة حكايات عن زمن لم نعرفه، لم تكن مجرد راوٍ للقصص، بل كانت مكتبة بشرية تحفظ ما لم يكتب في الكتب. وأمي، في أغانيها المتقطعة وهي تطهو، كانت تزرع فينا ذاكرة لحنية لا يمكن للضجيج أن يمحوها.
أشعر أنني، كأنثى، أملك جزءا من هذه المسؤولية؛ أن أحمل الحكاية لا كتراث ثقيل، بل كنبض يضيء الطريق. أن أفتح النوافذ لتمر الحكاية عبرها، فتتنفس مع الأجيال الجديدة، وتثبت أننا لا نحيا في عزلة عن جذورنا. فكل نص أكتبه، وكل أغنية أرددها، وكل ذكرى أستدعيها، هي محاولة صغيرة لمقاومة النسيان الذي يتربص بنا.
ما وراء الحكاية، بالنسبة لي، ليس مجرد وعي بالتراث، بل هو التزام وجداني؛ أن أظل وفية لتلك الأصوات التي سبقتني، وأن أترك أثرا يشهد بأننا كنا هنا، وأن ذاكرتنا، مهما طال الزمن، قادرة على أن تفتح عيونها من جديد.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية