جدول المحتويات
«نبض الخليج»
لم يتوقف النقاش بعد: لماذا هناك دكتاتور يحكم؟ ولماذا هناك مجتمع يقبل هذا الحكم الدكتاتوري؟ وما هو موقع الزمن في معادلة الدكتاتور؟
رجعتُ إلى تلك الأسئلة على إثر اتصال مباشر مع صديق سوري يعيش في الداخل وينتمي إلى سوريا كلها، ودار بيننا نقاش حول اللحظة السورية الراهنة وضرورة النهوض بالبلد إلى الأمام، لا إلى الخلف.
كان جوابي: إنه يحقّ لكل السوريين الشكّ بكل شيء، بكل رقم يُعطى لهم، وبكل حديث حكومي. ويحقّ للناس سؤال الحكومة الانتقالية عما حققته بعد مرور تسعة أشهر على حكمها.
وتابعتُ: إنه لا يحقّ لأحد في الأرض أن يقول لأي إنسان سوري: اخرس، نحن الدولة ولاك. ويجب أن يخرج الناس من حالة الخوف نحو حالة مساءلة السلطة وأفرادها عن كل ما يحدث بنا ولنا.
الكرسي وتأبيد الزمن
ذكّرتُه بأن حافظ الأسد الأب والابن ومعهما كل دكتاتور يلعبون لعبة الزمن، فالمهم لدى الدكتاتور هو البقاء على الكرسي حتى آخر لحظة ممكنة، ولا يهمه موت أغلبية الشعب أو حالته المعيشية. انظر مثلاً إلى حال كوريا الشمالية، أو إلى حال الشعب الإيراني الذي يملك طاقات هائلة أهدرها الخامنئي وسلطته في لعبة تخزين الأسلحة وتطويرها، وضيع على الشعب فرصة التنمية والرفاهية وإمكانية العيش الطبيعي مثل بقية شعوب الأرض.
ما زالت كلمات وزير خارجية نظام الأسد وليد المعلم ترنّ في أذني حين ضحك وهو يردد علينا مرة بقوله: “سنضيعهم بالتفاصيل”، ويقصد أنه سيمدد ويلعب بالزمن على هواه. وكان ذلك بعد أن ابتلع أوروبا ومسحها عن الخارطة.
ما إن يشعر الحاكم الدكتاتور بالدفء تحته، ويعتقد أنه التقط إشارات إيجابية من المجتمع الدولي، حتى يبدأ برسم خلوده السياسي معتقدًا أنه فرعون. ويبدأ بفعل كل شيء لخدمة هذا الهدف، فيفتت المجتمع ويحوله إلى موالٍ ومعارض، حيادي إيجابي، أو حيادي سلبي، أو معارض. ويرسل مخبريه إلى كل بيت لتثبيت حكمه، وتبدأ الصحافة باستخدام لغة التورية والاستعارة وإخفاء المعاني المباشرة. ويدخل المجتمع في سباق تقليد الديكتاتور، فالأب في البيت ديكتاتور صغير، والمدير العام كذلك، إلى آخر منظومة الحكم الهرمية. وتصبح الطاعة والولاء هما معيار انتقاء المسؤولين. ويصير الخوف هو هواء التنفس اليومي للناس.
قطع استرسالي هذا انقطاع النت هناك عن الخدمة، مما أشعرني أني كنتُ أحكي مع نفسي، فضحكتُ ساخرًا من نفسي، وعلقتُ على ذلك بعد نجاح عودة الاتصال بقولي: إني أشبه ممثلًا وحيدًا يؤدي مسرحية مونودراما.
بناء الدولة ليس حزورة أو معجزة تأتي من السماء، إنما هو علم وله بديهيات وطرائق ومعايير تحكمه.
صديقي متفائل
قال صديقي: إنه يشعر الآن بأن الوضع تغيّر، وأن الناس تنظم نفسها في تجمعات مدنية وسياسية، وأن البشر صارت تنتظم بالدور لتحصل على احتياجاتها المعيشية من دون إهانات، وأن انتهاء مرحلة الأسد جعل الناس تشعر بأنها تتنفس من جديد. وقال: السلطة الحالية تحتاج إلى مزيد من الوقت.
فعلقت: هون حطّنا الجمّال. إنها لعبة الزمن يا صديقي. سوريا ملك لأهلها وليست ملكًا لحاكم. سوريا الوطن الجريح المنهك يحتاج إلى الحكمة والعدالة الانتقالية، ويحتاج في كل لحظة إلى المحاسبة. يجب أن يشعر الحاكم بالقلق والخوف من الشعب، لا العكس.
يجب أن ينجح السوري في بناء بلده
لا شيء ينقصنا، نحن مثل بقية شعوب الأرض، وما نعانيه طارئ ويحتاج إلى حلول حقيقية وجذرية. الطائفية ليست قدرًا مستعصيًا. وضربتُ له مثالًا بأن السوري المهاجر هنا في ألمانيا يُعامل قانونيًا تمامًا مثل أي ألماني آخر، ورغم محاولات حزب اليمين ومناصريه لجرّ الناس مرة أخرى نحو الماضي النازي، إلا أن أغلبية الشعب هنا تقاوم ذلك بطريقة سلمية ومستمرة.
نجح السوري عمومًا في مسيرة حياته في أوروبا، فلماذا لا ينجح في بلده؟ يجب أن ينجح. ومن حقه أن يطرح الأسئلة كلها دفعة واحدة، وليس من حق أحد تعنيفه أو إخراسه أو اعتقاله. فطالما هو يتحدث ويعمل سلمياً، فعلى السلطة الانتقالية الإجابة عن أسئلته، وعليها أن تخاف منه.
بناء الدولة ليس حزورة
المدير الفاشل يجب أن يغادر موقعه، وتبقى المؤسسة. ويجب تعميم هذا المبدأ في كل المفاصل الحكومية.
بناء الدولة ليس حزورة أو معجزة تأتي من السماء، إنما هو علم وله بديهيات وطرائق ومعايير تحكمه. والدولة قبل كل شيء هي مؤسسات راسخة ومنظومة حكم متكاملة وفصل للسلطات ودستور عصري.
انقطع الاتصال مرة أخرى مع صديقي، وفي حين كنتُ أحاول إعادة الاتصال، كتب لي رسالة أخيرة وصلتني قبل قطع التيار الكهربائي: لقد انقطعت الكهرباء.
الحرية التي طالب بها السوريون طوال سنوات ليست حلمًا بعيد المنال، ومن حق الناس أن تتمتع بحريتها السياسية والاجتماعية والثقافية.
الخلاصة
أنا متفائل، بهمة الناس في بلدي. والتجارب المريرة لا بدّ أن يتعلم منها الجميع، فالتطرف السياسي يؤدي بالنهاية إلى الخراب. وما زال درس هروب الأسد ماثلًا أمامنا. أهم ما في هذا الدرس أن السوريين كسروا هذا “الأبد” السياسي.
ومهما طال الزمن، يجب أن تعلمنا مدرسة الحياة أننا جميعًا سوريون قبل أن نكون علويين وسنّة ودروز وإسماعيليين ومسيحيين وأكراد وآشوريين. ويجب أن تكون علاقة الدولة مع الجميع من مبدأ المواطنة، لا من مبدأ الطائفة.
والحرية التي طالب بها السوريون طوال سنوات ليست حلمًا بعيد المنال، ومن حق الناس أن تتمتع بحريتها السياسية والاجتماعية والثقافية. ويمكن للبشر اجتراح الحلول لكل الكوارث التي تحيط بهم.
والحقيقة الأكيدة أن حقبة الأسد القمعية انتهت إلى الأبد، لكن دفنها النهائي يحتاج إلى عقد اجتماعي جديد، سوري-سوري، يكون مبدؤه الأول: ثقة الجميع بالجميع تحت سقف العدالة والقانون والمحاسبة.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية