«نبض الخليج»
انطلقت في دار الأوبرا بالعاصمة السورية دمشق تظاهرة سينمائية تتناول أفلام الثورة السورية. وفي كلمته، وصف مدير المؤسسة العامة للسينما السيد جهاد عبدو هذه التظاهرة بأنها “حدث استثنائي في مسيرة السينما السورية”، لما تحمله الأفلام المشاركة من تجسيد لآلام وطموحات الشعب السوري، وأهدى هذه التظاهرة لأرواح شهداء الثورة السورية وللفنانين الذين قضوا في سبيل الحقيقة، مذكّرًا بأنّ الفن السابع ظلّ منذ اندلاع الثورة واحدًا من أكثر الفنون قدرة على التقاط ارتجافات الإنسان في مواجهة العنف والخراب، وأن السينما ليست مجرد صور متحركة، بل سجلٌ إنساني يدوّن ذاكرة الشعوب ويحوّل الألم إلى سردٍ قابل للتأمل والفهم.
ويمكن أن يُضاف إلى ما تفضّل به السيد جهاد عبدو، في معنى ودلالات أن تُقام تظاهرة سينمائية لأفلام الثورة السورية، كونها تأتي في لحظة تحرر سوريا من العصابات الأسدية، وهي بذلك لحظة غنية بالرموز والمعاني والدلالات على جميع الصعد الإنسانية والفكرية والاجتماعية والفنية. تجتمع فيها المشاهد والأحداث المنتمية للراهن وللماضي، غير أنّ الماضي ولّى وانقضى، وبات يصعب الإمساك به. وما حلّ في تلك الأمكنة، والأمكنة حين ترحل عنها الأزمنة، تغدو صامتة، تقول كل شيء لكن من دون أن تتكلم. والسينما، من بين أنواع الفنون، تسعى إلى كنس ذلك الصمت عنها لتدلّ عليهما، وتعيد لها اعتبارها وهويتها. ونظرًا لسطوة الأمكنة والأزمنة وسلطتها، والتي يستحيل الهرب منها أو تجاوزها، جاءت الآداب والفنون عمومًا لتتمرد عليها، وتعيد تصورها من جديد.
السينما تسأل أيضًا، مثلها مثل غيرها. وما من كاميرا تتحرّك إلا لتقول شيئًا، أو تهمس همسًا، أو على الأقل تبوح بجزء مما يريد التلميح إليه حاملها.
وبما أنّ التفكير في التاريخ جزء من انشغالات الإنسان، بوصفه الكائن الزماني الوحيد، لأنه مفطور على الذاكرة والوعي والتوقع، ونظرًا لأنه يحاول تنظيم حياته داخل شبكة شديدة التعقيد ينسجها الماضي والحاضر والمستقبل، جاءت الآداب والفنون لتعينه على ذلك، وطرح الأسئلة حول الماضي والحاضر والمستقبل. ولكن السينما تكاد تكون القادرة وحدها، من دون غيرها، على استحضار الماضي القابع فيها، وسوقه مرغمًا إلى محكمة الحاضر للنظر في أمره، وتحرص على ألا تدعه يأفل أو يرحل قبل أن تقول فيه قولها.
الواقع يقول: رحل السفاح الأسد، لكنه في جميع أفلام الثورة السورية لم يكن قد رحل، ولن يرحل عنها أبدًا؛ سيبقى مصلوبًا فيها، حاضرًا وماضيًا ومستقبلًا، ليُحاكم ويُجلد ويُلعن، لا من غلٍّ تأصّل في أعماق السوريين نحوه وحسب، إنما هو طبع التاريخ الذي إذا ما حقد جلد ولعن ولم يرحم. وتلك الأفلام آتية من التاريخ الماضي.
وحتى لو شُنق السفاح الأسد أو مات أو اختفى، سيبقى هو وقبحه وإجرامه حاضرًا فيها، كوصمة عار تطارد تاريخه، وتطارد معه تاريخ هذا العالم الذي سكت عن جرمه طوال أربع عشرة سنة، حين تركه يوغل في دم السوريين. وما زال أمثاله من شُذّاذ الأرض يوغلون في دماء الناس أكثر فأكثر. وربما يمكننا، انطلاقًا من هذا الفهم، القول إنّ تظاهرة أفلام الثورة السورية أتت وكأنها محاكمة تؤسّس للعدل والحرية والأمن.
هكذا يخوض سلاح الفكر والفن والأدب معركته في وجه آلة القتل والدمار، ويصرّ على أن يدلي بقوله، من دون قطرة دم. وقد استغلّ كثير من السوريين هذا السلاح النبيل للتعبير من خلاله عن ثورتهم العظيمة وما جرى فيها من أحداث ومشاهد، ومع ذلك تم قتلهم وهدر دمهم. وهناك كثير مما يحتاج إلى رصده وروايته. لكن ما هو مؤكد أنّه لم يعد هناك فرصة لتصوير الماضي والعودة إليه في الواقع؛ فقد انتهت الحقبة الأسدية، وتحررت البلاد. والحضور الفعلي لتلك الأحداث والمشاهد مرّ وانقضى. نعم، يستطيع المؤرخون والروائيون والرسامون والمفكرون والباحثون استعادة أحداث الماضي، لكن لا للماضي ذاته.
غير أنّ السينما تستطيع ذلك، نظرًا للسحر الكامن في عينها – الكاميرا – وفي تقنياتها المتعددة. ومن هنا جاءت تظاهرة أفلام الثورة السورية لتحمل معها معنًى أبعد وأثرًا مختلفًا تمامًا عن كل ما تم إنتاجه من آداب وفنون خلال مرحلة الثورة، لكون تلك الأفلام تستحضر الماضي كما هو، وقد صُوِّرت جميعها في زمن لم يكن نظام الأسد قد سقط بعد، بل كانت مجازره هي المحرّك الأساسي لمادتها وعجلتها. أي أنّها تحضر معها الماضي. ومن هذه النقطة تحديدًا تشكّل تلك الأفلام في مجموعها تحفة فنية، لكونها التقطت اللحظات من الماضي، وكيف كان يتشكل ويتكوّن تحت النار والدمار.
والجمهور الذي يجلس على المقاعد في صالات العرض، وكان قبل دقائق قد رأى بأمّ عينيه العلم السوري الأخضر وقد غاب عنه اللون الأحمر، وهو يستعيد مجددًا ماضيه الموشوم بجرائم السفّاح الأسد من خلال هذه الأفلام التي يشاهدها، حتمًا لن يعيش الماضي ذاته برعبه وخوفه وعذاباته، إنما سيعيش انعكاساته ونتائجه وآثاره. إنّها محاولة لأن يحلّ المشاهد – الناجي الآن، المنتصر بنجاته – في هزيمته وعذاباته وتضحياته الماضية. لكنه ليس حلولًا مطلقًا، إذ يبقى للفن جداره الفاصل بين الماضي والحاضر والمستقبل، جدار لا يمكن تجاوزه أو القفز عليه. وهذا الوعي بالمسافة الزمنية هو ما يجعل مشاهدة أفلام الثورة السورية أشبه بلحظة سحرية: أن يرى المشاهد مجددًا حرائق الماضي ومآسيه وعذاباته وويلاته على شاشة السينما، ثم يتلفّت حول نفسه ليجد أنّه قد نجا من ذلك الحريق والضياع والجحيم، لهو شعور مليء بالغبطة ويستدعي التأمل في الحاضر أكثر.
كأنها لحظة تقول للسوريات والسوريين: تذكّروا أين كنتم وأين صرتم. الأفلام التي صوّرت غرقكم في البحر، وسقوط البراميل فوق رؤوسكم، وتعذيبكم في المعتقلات، وجوعكم تحت الحصار، ورعبكم على الحواجز… كل ذلك ذهب وولّى. وأنتم الآن تجلسون بين أهلكم وأصدقائكم ومعارفكم تشاهدون ما كان عليه حالكم في الماضي، وحال غيركم من السوريين. وهنا ينهض السؤال الكبير: إذًا ماذا أنتم فاعلون الآن؟ أليس عليكم أن تنشطوا وتعملوا، وأن تسعدوا، وتفخروا بالحرية التي صارت بين أيديكم، وتعرفوا معها كيف ستتصرفون؟
فالسينما تسأل أيضًا، مثلها مثل غيرها. وما من كاميرا تتحرّك إلا لتقول شيئًا، أو تهمس همسًا، أو على الأقل تبوح بجزء مما يريد التلميح إليه حاملها.
تاريخ هذا الفن يذكّرنا بأنّ كثيرًا من الشعوب التي عانت مذابح كبرى لم تجد خلاصًا لذاكرتها الجمعية إلا في تلك الأفلام التي سجّلت أهوالها، والتي غدت اليوم بالنسبة لأبناء الضحايا وثائق لا تُقدَّر بثمن.
ولا ننسى أنّ عملية تصوير تلك الأفلام جرت بين الأنقاض، ووسط ما شهده العاملون فيها من مذابح وقتل وتجويع وحصار، وقد استشهد العديد منهم وباتوا في عالم الغيب، وهي بذلك تعيد المجد لهم، وتصور كيف كان الظلّ فيها والعتمة والإكسسوار والديكور واللون وأنفاس الناس، وهو بحدّ ذاته إحياء لمعجزة أن يحلّ الماضي فعلًا في الحاضر وفي المستقبل. وما زال هناك العديد من أفلام الثورة السورية التي لم يحالفها الحظ بعد، وهي – شأنها شأن الأفلام التي سبقتها – تستحق أن تُقام لها تظاهرات ومهرجانات مرة تلو الأخرى، ما بقيت السينما. فتاريخ هذا الفن يذكّرنا بأنّ كثيرًا من الشعوب التي عانت مذابح كبرى لم تجد خلاصًا لذاكرتها الجمعية إلا في تلك الأفلام التي سجّلت أهوالها، والتي غدت اليوم بالنسبة لأبناء الضحايا وثائق لا تُقدَّر بثمن.
إنها وثائق تريحهم من حمل أعباء ماضيهم، وتحول دون انتكاسهم أمامه، وتدفعهم في الوقت ذاته للتفكّر في المستقبل، مستقبل أكثر إنسانية وأقل قسوة. حتى أميركا نفسها، التي بنت أسطورتها على سرديات مفبركة، وهي التي لم تكن تمتلك في تلك اللحظات أفلامًا سينمائية عن نشأتها، عملت على إنتاج أفلام دعائية مفبركة، راحت تستخدمها لتعريف الدنيا على ماضيها المزيف وهويتها.
أمّا السوريون، فلم يكن لديهم ترف الادّعاء والفبركة؛ فواقعهم كان أمرّ وأقسى من أي تصوير أو تخييل. لكن معظم مؤسسات السينما المحلية والعربية والعالمية أشاحت بوجهها عنهم، فضاعوا في متاهات الغياب. غير أنّ السوريين كأفراد أصرّوا على ألّا يهزمهم هذا الغياب، فأنتجوا أفلامًا قليلة بعددها قياسًا إلى كمّ الأحداث والحكايات والخيبات والانكسارات. وكان من ضمنها ما عرضته تظاهرة أفلام الثورة السورية، فوق أرض لم تخرج حتى الآن من تحت الأنقاض، لكنها كانت ضرورة لتذكير السوريين، وتذكير العالم معهم بما جرى لهم، وأن يروا أنفسهم الآن ناجين، أحياء، قادرين على العيش بحرية أوسع، وأن تحثّهم على الخروج من تحت الأنقاض ليحكوا للتاريخ شيئًا مختلفًا، وتجعلهم يتساءلون، ربما: ما الذي سوف تصوّره الأفلام القادمة؟ وما الذي ستحكيه هي والمسارح والموسيقى والروايات والمسلسلات التلفزيونية في المستقبل عنّا؟
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية