«نبض الخليج»
تحدَّث الفيلسوف اليوناني أفلاطون في كتابه “الجمهورية” عن صورة رمزية جسَّدت العلاقة بين الحقيقة والوهم، وبين المعرفة والجهل، وبين الحرية والعبودية الفكرية عبر أسطورة الكهف.
ففي هذا الكهف يعيش السجناء منذ ولادتهم داخل مكان مظلم، مقيّدين لا يرون من العالم سوى ظلال تتحرَّك على جدار أمامهم، فيظنّونها الحقيقة الكاملة. لكن عندما يتمكَّن أحدهم من التحرّر والخروج إلى ضوء الشمس، تكون صدمته الأولى بالضياء ساحقة، قبل أن يبدأ بالتدرّج في اكتشاف الوجود الحقيقي. هنا يطرح أفلاطون تساؤلاً جوهرياً: هل يستطيع الإنسان أن يتحمَّل عبء الحقيقة بعد أن اعتاد الظلال؟ وإذا أسقطنا هذا السؤال على الحالة السورية بعد سقوط النظام الاستبدادي، فهل يمكن القول إنَّ السوريين خرجوا حقاً من كهفهم، أم أنَّ الخوف من الضوء سيقود بعضهم إلى التعلّق بالماضي؟
لقد كان النظام بمثابة صانع الظلال الذي يوجّه الإدراك العام من خلال إعلام موجَّه ومناهج تعليمية منحازة وتاريخ معادٍ إنتاجه؛ ليمنح شرعية مصطنعة للسلطة.
تحمل رموز أسطورة الكهف معانيَ عميقة تتجاوز حدود الفلسفة القديمة؛ فالكهف يمثّل عالم الوهم والجهل، وبالتالي يكتفي السجناء فيه بالمألوف، ولا يتجاوزون الصور الزائفة التي تُقدَّم إليهم على أنّها واقع، من خلال الظلال المزيّفة والمشوَّهة بواسطة النار، مصدر التضليل. فيكون الخروج من الكهف رمزاً لرحلة التنوير الطويلة التي تتطلّب شجاعة وإرادة للوصول إلى الحقيقة النهائية التي لا يدركها إلا من امتلك شجاعة مواجهة النور. ومن خلال هذه الرموز يظهر أنّ التحرّر ليس حدثاً آنياً بل عملية معقّدة ترافقها ارتباكات وصعوبات وجودية وفكرية، كما هو الحال في التجربة السورية بعد التحرّر، حيث يشبه الوقوف أمام “شمس الحقيقة” المواجهة الصعبة التي لا تحتملها العيون التي طالما اعتادت الظلال.
إذا نظرنا إلى حال سوريا في ظلِّ النظام الاستبدادي نجد أنَّ صورة الكهف تتجلَّى بوضوح؛ فقد عاش الشعب عقوداً طويلة أسيراً لسرديات رسمية مُسيطر عليها، محرومًا من حرية التعبير والفكر، خاضعًا لسلطة صاغت وعيه وفق ما يخدم استمراريتها. لقد كان النظام بمثابة صانع الظلال الذي يوجّه الإدراك العام من خلال إعلام موجَّه ومناهج تعليمية منحازة وتاريخ معادٍ إنتاجه؛ ليمنح شرعية مصطنعة للسلطة. وبذلك تحوّلت الحياة اليومية إلى وجود داخل الظلال، حيث بدا الوهم وكأنَّه الحقيقة، والاستقرار الزائف وكأنَّه أمان.
ومع اندلاع الثورة وما تبعها من سقوط النظام، دخل السوريون لحظة تشبه خروج السجين من الكهف؛ فقد انكسرت السلاسل التي كبَّلتهم، وانكشف زيف الظلال التي اعتادوها، غير أنّ هذه الخطوة لم تكن نهاية الرحلة، فالتحرّر المفاجئ من الظلام ترافق مع صدمة قاسية، تماماً كما يواجه السجين الخارج صعوبة في التكيّف مع نور الشمس. وقد تجلّت هذه الصدمة في الفراغ السياسي، وفي الانقسامات الاجتماعية الحادّة، وفي تضارب الرؤى بين مختلف القوى حول هوية الدولة ومستقبلها، والأسوأ أنَّ بعض الأصوات راحت تلوّح بالعودة إلى الماضي، معتبرةً أنَّ “كهف الاستبداد” رغم ظلمته قدَّم نوعاً من الأمان مقارنة بالمجهول الذي يفرضه الحاضر. وهذه الصدمة ليست حالة فريدة في التجربة السورية؛ فقد عرفتها شعوب أخرى بعد تحولات كبرى، ففي أوروبا الشرقية عقب انهيار الأنظمة الشيوعية واجه الناس فجأة فراغاً سياسياً واقتصادياً أوقعهم في ارتباك مماثل، وفي جنوب أفريقيا بعد الأبارتهايد برز التوتر نفسه بين الرغبة في العدالة والخوف من تفكّك المجتمع. إنَّ الذاكرة الجمعية المثقلة بالقمع غالباً ما تتحوَّل إلى عائق أمام استيعاب الحاضر، إذ يبقى الماضي حاضراً في وعي الناس بطريقة تجعلهم يميلون إلى إعادة إنتاجه، ولو في أشكال جديدة.
يتّضح أنَّ الخروج من الكهف لا يضمن بالضرورة الوصول إلى النور؛ فالتحرّر من قيود الاستبداد قد يكون أسهل من مواجهة الحقيقة العارية التي تعقبه.
هنا تتّضح التحديات التي تعترض الطريق بعد التحرّر. أول هذه التحديات يكمن في مواجهة جرائم الماضي عبر آليات العدالة الانتقالية، وهي مواجهة مؤلمة لكنَّها ضرورية من أجل تجاوز إرث الظلال؛ إذ إنَّها لا تقتصر على محاكمة الجناة، إنّما تشمل إنشاء لجان حقيقة، وتعويض الضحايا، وإصلاح المؤسسات الأمنية والقضائية. هذه الآليات ضرورية لإحقاق الحق ومنع عودة السوريين إلى ظلال الماضي. ثمَّ تأتي الحاجة إلى إعادة بناء وعي جمعي جديد يفكّك البنية الثقافية والسياسية التي كرّسها الاستبداد، ويعيد تعريف القيم الوطنية على أسس الحرية والكرامة. كما يبرز تحدّي إعادة بناء الهوية الوطنية على أسس جامعة تتجاوز الانقسامات الطائفية والأيديولوجية التي غذّاها الاستبداد لعقود، وهو ما يجعل النقاش حول العقد الاجتماعي الجديد محوراً لا يمكن تجاوزه. غير أنّ هذه العملية تفتقر غالباً إلى “المرشد الفلسفي” الذي تحدّث عنه أفلاطون، أي ذلك الذي خرج من الكهف وعاد ليقود الآخرين نحو النور، مواجهاً خطر الانقسام العميق، إذ لم يخرج الجميع من الكهف في الوقت نفسه، وبعضهم ما زال حبيس الأوهام القديمة، الأمر الذي يجعل توحيد الصف الوطني مهمة معقّدة ومصيرية.
في الختام، يتّضح أنَّ الخروج من الكهف لا يضمن بالضرورة الوصول إلى النور؛ فالتحرّر من قيود الاستبداد قد يكون أسهل من مواجهة الحقيقة العارية التي تعقبه. إنَّ سقوط النظام البائد خطوة تاريخية فارقة في حياة السوريين، لكنَّها لا تكفي وحدها لتحقيق الانتقال إلى الحرية. التحدي الحقيقي يكمن في قدرة الشعب على بناء وعي جديد يتجاوز أوهام الماضي، ويؤسّس لعقد اجتماعي قائم على الحرية والعدالة والكرامة. ويبقى السؤال الفلسفي والسياسي معاً مفتوحاً: هل سيتمكّن السوريون من مواجهة شمس الحقيقة والاستمرار في طريق التنوير، أم أنَّ ظلال الكهف ستظلّ تلاحقهم في ذاكرتهم الجماعية وتاريخهم القريب؟
شارك هذا المقال
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية