«نبض الخليج»
مع انقشاع غبار الحرب وبدء المجتمعات الخارجة من النزاع بالبحث عن توازن جديد، تبرز منظمات المجتمع المدني بوصفها أحد أهم الفاعلين في عملية إعادة البناء الاجتماعي والسياسي.
هذه المنظمات، التي غالباً ما تشكّلت أو نشطت في ظروف صعبة، تجد نفسها أمام مسؤولية مضاعفة: فمن جهة، المساهمة في تضميد الجراح الاجتماعية وترميم النسيج الوطني، ومن جهة أخرى، القيام بدور رقابي على السلطة الجديدة لضمان عدم تكرار دوامة الاستبداد أو الفساد. وبين هذين الدورين تواجه تحديات كبرى قد تحدّ من قدرتها على التأثير الفعلي، لكنها في الوقت ذاته تفتح أمامها أبواباً لإمكانية المساهمة في صناعة مستقبل أكثر عدلاً ومشاركة.
تترك الحروب وراءها مجتمعات ممزّقة بالانقسامات الطائفية أو العرقية أو الجغرافية، فيما تعمل منظمات المجتمع المدني كجسور للحوار بين المكونات المختلفة، عبر مبادرات المصالحة والعدالة الانتقالية، وتنظيم لقاءات محلية، وإطلاق حملات لتعزيز خطاب المواطنة. فتساعد هذه الجهود على خلق فضاء مشترك يتجاوز الانتماءات الضيقة لصالح هوية وطنية جامعة.
التمويل الدولي يساعد هذه المنظمات على الاستمرار، لكنه في الوقت نفسه يخلق جدلاً حول الاستقلالية، وقد تواجه المنظمات المعنية اتهامات بالارتهان للأجندات الخارجية، ما قد يضعف مصداقيتها أمام المجتمع المحلي ويجعلها عرضة للاستهداف السياسي والإعلامي.
ما زالت الخدمات الأساسية في سوريا مثل التعليم والصحة والإغاثة في حالة هشاشة، وغالباً ما يقع على عاتق المنظمات المدنية سدّ فجوة غياب أو ضعف الدولة؛ فتدير مراكز تعليمية مؤقتة، أو تقدّم الدعم النفسي للناجين، أو تسهم في إعادة تشغيل العيادات والمستشفيات، فتمنح هذه المبادرات المجتمع أملاً ملموساً بأن الحياة الطبيعية يمكن أن تعود تدريجياً.
ومن خلال ورش العمل والمنتديات وحملات التوعية، تعلّم منظمات المجتمع المدني الأفراد معنى المشاركة والمساءلة، وتعمل على إعادة إحياء فكرة أن المواطن ليس مجرد متلقٍّ للقرارات، بل شريك في صناعتها، وهذا التحوّل الذهني يعدّ أحد ركائز الديمقراطية المستدامة.
إن أحد أهم أدوار المجتمع المدني يتمثل في ممارسة الرقابة على السلطة السياسية الناشئة بعد التحرير. فعن طريق منظمات الشفافية والرقابة على الانتخابات ومراكز الدراسات الحقوقية، تستطيع هذه الكيانات تسليط الضوء على أي تجاوزات أو محاولات للهيمنة من قبل السلطة الجديدة.
وقد تُرسّخ قيم المحاسبة في غياب تقاليد راسخة للمساءلة، إذ تصبح المنظمات المدنية صوت المجتمع في مواجهة الفساد أو الاستغلال، من خلال تقاريرها الدورية، ومؤشرات الفساد، وبياناتها العلنية؛ ذلك أنها تعدّ أدوات ضغط على المسؤولين ليبقوا تحت نظر الرأي العام.
في كثير من الدول الخارجة من النزاعات، تُعاد كتابة الدستور أو تُعدّل القوانين الجوهرية، وهنا يكون للمجتمع المدني دور أساسي في تقديم مقترحات، أو تنظيم جلسات تشاورية، أو حملات مناصرة لضمان أن تعكس التشريعات الجديدة قيم العدالة والحرية والمساواة.
لكن الواقع ليس وردياً بالقدر الذي نتمناه، فقد يواجه المجتمع المدني تحديات كثيرة، أهمها هشاشة البنية المؤسسية. ولأن كثيراً من منظمات المجتمع المدني في بيئات ما بعد الحرب تعمل بموارد محدودة وتعتمد على جهود تطوعية غير مستقرة في غياب التمويل المستدام وضعف التدريب الإداري، فإن ذلك يجعلها عرضة للانهيار أو فقدان الفعالية مع مرور الوقت.
قد تنظر السلطات الجديدة بعين الريبة أيضاً إلى المنظمات المدنية وتعتبرها تهديداً لشرعيتها، لذلك قد تفرض قيوداً على تسجيل الجمعيات أو تحدّ من أنشطتها أو تضع قوانين فضفاضة تُستخدم لإسكاتها، وهنا يتجلّى التحدي بين الرغبة في الاستقلالية وخطر التضييق والإقصاء.
ومثلما يتأثر المجتمع بالانقسامات، كذلك تتأثر المنظمات المدنية، فقد تنشطر على أسس سياسية أو مناطقية، مما يضعف قدرتها على تشكيل جبهة موحّدة. إضافة إلى ذلك، قد تواجه أزمة ثقة من جانب الجمهور إذا ما ارتبطت صورتها بالجهات المانحة الأجنبية أو تحوّلت إلى أداة لصراعات النخب.
فالتمويل الدولي يساعد هذه المنظمات على الاستمرار، لكنه في الوقت نفسه يخلق جدلاً حول الاستقلالية، وقد تواجه المنظمات المعنية اتهامات بالارتهان للأجندات الخارجية، ما قد يضعف مصداقيتها أمام المجتمع المحلي ويجعلها عرضة للاستهداف السياسي والإعلامي.
إن منظمات المجتمع المدني ليست عصا سحرية قادرة على حلّ كل المشكلات التي تتركها الحروب وراءها، لكنها بلا شك عنصر لا غنى عنه في أي عملية تحوّل ديمقراطي أو إعادة بناء اجتماعي.
إن بيئة ما بعد الحرب معقدة للغاية؛ فالدمار الواسع، والبطالة، والفقر، وانتشار السلاح، كلها عناصر تجعل عمل المجتمع المدني محفوفاً بالمخاطر. قد يتعرض العاملون فيه للتهديد أو العنف، ما يحدّ من قدرتهم على الوصول إلى الفئات الأكثر احتياجاً.
وعلى الرغم من هذا وذاك، يبقى المجتمع المدني أحد أكثر مصادر الأمل بعد التحرير، فهو الفضاء الذي يمكن أن يجمع الأفراد حول قيم مشتركة، ويعيد لهم الشعور بالقدرة على التأثير. لكن نجاحه مرهون بشروط أساسية مثل تعزيز الاستقلالية ببناء نماذج تمويل محلية، وتطوير شراكات مع القطاع الخاص الوطني لتقليل الاعتماد على الخارج، والعمل على تأهيل الكوادر، وبناء القدرات بتدريب كوادر المنظمات على الإدارة والحوكمة وآليات التفاوض لزيادة فعاليتها على المدى الطويل.
وهذا بالطبع يتطلّب تجاوز الانقسامات وبناء تحالفات واسعة تضم جمعيات محلية صغيرة وكبيرة، بما يعزز الصوت الجماعي وإيجاد قنوات مؤسسية للتعاون مع السلطات دون التماهي معها، بما يحفظ استقلالية المجتمع المدني ويضمن له مساحة عمل، إضافة إلى تعزيز الشفافية في عمل المنظمات ونشر نتائج أنشطتها بشكل دوري لكسب ثقة الناس، الذين هم أساس الشرعية الحقيقية.
لم تكن سوريا وحدها من واجه مثل هذا الامتحان المعقّد بعد التحرير؛ ففي البوسنة والهرسك مثلاً، لعبت منظمات المجتمع المدني بعد اتفاقية دايتون (1995) دوراً حاسماً في إعادة بناء الثقة بين المكوّنات القومية والدينية. وعلى الرغم من استمرار الانقسامات السياسية، فإن المبادرات الصغيرة مثل ورش العمل المشتركة بين الطلاب والمشاريع الاقتصادية المحلية أسهمت في خلق فضاءات لقاء وتعاون أعادت شيئاً من الأمل للمجتمع. وفي العراق بعد 2003 ظهرت آلاف الجمعيات الأهلية التي حاولت سدّ فراغ الخدمات العامة، لكنها اصطدمت بمشكلات التمويل والانقسام السياسي، وهو ما يقدّم درساً عن خطورة تحوّل المجتمع المدني إلى ساحة صراع نفوذ بدل أن يكون مساحة للمواطنة.
ليس الطريق سهلاً ولا ممهّداً، لكنه ليس مستحيلاً. وفي السياق السوري، شهدت بعض المحافظات في الأشهر الأخيرة فعاليات تبرعات محلية نظّمتها مبادرات شبابية وجمعيات خيرية لدعم الأسر المتضررة من الحرب وإعادة تأهيل المدارس المتضررة، ما أوضح أن المجتمع قادر على إنتاج طاقة تضامن داخلية حتى في ظل شحّ الموارد، وأن فكرة الاعتماد على الذات يمكن أن تكون نقطة انطلاق لمرحلة جديدة من العمل المدني.
إن منظمات المجتمع المدني ليست عصا سحرية قادرة على حلّ كل المشكلات التي تتركها الحروب وراءها، لكنها بلا شك عنصر لا غنى عنه في أي عملية تحوّل ديمقراطي أو إعادة بناء اجتماعي، والرهان الأكبر اليوم على قدرتها على أن تتحوّل من مجرد جهات إغاثية إلى مؤسسات فاعلة تراقب وتساهم وتقود مسارات المشاركة الشعبية، لتحقيق مستقبل أكثر عدلاً. غير أن التحديات التي تفرضها بيئة ما بعد الحرب تجعل الامتحان حقيقياً يتضح فيه مدى نضج هذه المنظمات وقدرتها على لعب دور محوري في صياغة ملامح الغد من عدمه.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية