لم يعد التعفّن وصفًا يقتصر على الطعام الفاسد أو الأشياء التي طالها الإهمال، بل أصبح ينطبق على العقول التي استسلمت لسطحية السوشال ميديا. إن العقل الذي خُلق ليكون أداة للتفكير والتمييز، أصابه الركود والكسل حين اكتفى صاحبه بجرعات يومية من مقاطع هزلية أو صراعات لفظية أو أخبار زائفة، حتى صار عقله مثل مخزن مهجور تتراكم فيه النفايات دون تنظيف.
حين يُستبدل الفكر بالـ “ترند”، والبحث عن الحقيقة بعدد “المشاهدات”، والجدية بالهزل الرخيص؛ يبدأ العقل في الذبول. يتوقف عن النقد، ينسى القراءة، يعجز عن التركيز، ويُصاب بما يشبه التآكل البطيء الذي يترك فراغًا داخليًا لا يُملأ إلا بالمزيد من التفاهة.
وليس الأمر في الترفيه البسيط أو الضحكة العفوية، فهي جزء طبيعي من حياة الإنسان، بل المشكلة في تحويلها إلى نمط عيش متواصل، يُسقط قيمة الوقت، ويقتل ملكة التفكير، ويجعل صاحبه عبدًا لِما يُقدَّم له دون أن يسأل: من؟ ولماذا؟ وكيف؟
هذا التعفّن له آثار كارثية:
جيل يعجز عن الحوار العميق لأنه اعتاد الجواب السريع المختصر.
عقول مشغولة بالقشور، غير قادرة على الغوص في جوهر القضايا.
أفراد يتشكل وعيهم من مقاطع لا تتجاوز ثوانٍ، بدل أن يتشكل من كتاب أو تجربة أو نقاش حقيقي.
إن إنقاذ العقل يبدأ من تنظيفه:
بالعودة إلى القراءة والتأمل.
بفلترة ما نستهلكه على هذه المنصات.
باختيار المحتوى الذي يضيف لا الذي ينقص.
وبالتحرر من إدمان “التمرير المستمر” الذي يسرق العمر دون أن نشعر.
فالعقل إن لم نغذّه بما ينفع، فسوف يتعفّن بما يضر، وإن لم نستخدمه فيما خُلق له فسوف يصدأ حتى يبهت ضوءه.