«نبض الخليج»
يكثر الحديث عن المجتمع المدني هذه الأيام، خاصّة في البلدان التي خاضت شعوبها تجارب التغيير السياسي عبر الثورات، مثل مصر وسوريا وليبيا واليمن وتونس. ويتمّ تحميل المفهوم أكثر مما يحتمل، وكأنّه بات الحلّ السحري لمعالجة مشاكل هذه البلدان.
من أجل هذا، لا بدّ من توضيح المفهوم قليلًا عبر تبيان سياق نشوئه التاريخي وتطوّره، والعودة إلى الواقع مجددًا لفهم طبيعة مساهمته في حياة هذه المجتمعات، أو بعضها على الأقل.
بدأت فكرة المجتمع المدني بالظهور في العصور الوسيطة في أوروبا، وقد ترافقت مع التحوّلات الجذرية التي بدأت تصيب المجتمعات الأوروبية مع الانتقال من سيادة نمط الإنتاج المعتمد على الإقطاع إلى نمط الإنتاج الرأسمالي، أي من خلال نشأة الطبقة البرجوازية وما يرافقها من طبقة العمّال المأجورين، مقابل طبقة الملاّك وما يرافقها من طبقة الأقنان وبقايا مجتمع العبودية. يمكن القول ببساطة إنّ مفهوم المجتمع المدني هو التعبير الاجتماعي عن التحوّل إلى عصر المدينة والمدنية من عصر الريف، وما يتبع ذلك من تغيّرات كبيرة في أنماط التفكير والسلوك والعادات والثقافات.
الأدوار التي اضطلع بها المجتمع المدني منذ نشأته كثيرة ومتعدّدة، لكنّ من المهمّ لنا تأكيد أنّ مهامه تختلف جذريًا في بلادنا التي لم تساهم في إنتاج الديمقراطية بذاتها كأسلوبٍ للحكم.
كانت مساحة المجتمع المدني وسيطة بين حيّز الدولة الذي تشغله في المجال العام والذي تحكمه القوانين، وبين حيّز العائلة الذي يشغل المجال الخاص، والذي كان آنذاك خارج سلطة الدولة وقوانينها. ويعتبر الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبس أنّ هذا المفهوم ليس مفصولًا عن الدولة منذ نشأته، بل هو التنفيذ الواقعي لانتقال مبدأ السيادة من السماء، أي الحكم بموجب مبدأ الحق الإلهي، إلى الأرض، أي الحكم بموجب عقدٍ اجتماعي يرتضيه الأفراد في مجتمعهم المعيّن. بينما يرى مفكرون آخرون مثل جون لوك أنّ المجتمع المدني يقوم على الأفراد لا على الدولة، ويرى مونتسكيو ودي توكفيل في المجتمع المدني حلقةً وسيطة بين الدولة والأفراد تمثّل الحيّز الأخلاقي المستقل بين حيّز العائلة التراحمي وحيّز الدولة القانوني.
في كتابه المعنون بـ «المجتمع المدني، دراسة نقدية» الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يرى الدكتور عزمي بشارة أنّ:
“المجتمع المدني وجد تعبيره السياسي والقانوني الأول في إعلان حقوق الإنسان والمواطن في أعقاب الثورة الفرنسية، حيث تحوّل عمليًا إلى فكرة المواطنة بمعناها الحديث، أو حيث بدأ تاريخ فكرة المواطنة المعاصر، التي ما فتئت تتطوّر منذ ذلك الحين. ومنذ الثورة الفرنسية والتحوّلات المتاخمة لها في أميركا وبريطانيا، والمجتمع المدني يمرّ متوقفًا عند محطاتٍ عديدة. ومحطّته الحالية منذ ثمانينيات القرن الماضي، هي واحدة من المراحل التي ستؤدي إلى فرزٍ جديدٍ بين عناصره المكوّنة، يتمّ بعده إعادة إنتاج وحدة المجتمع المدني على درجةٍ أعلى من التمايز والتركيب، وعلاقاتٍ أكثر غنى من مركّباته.”
والحقيقة أنّ الأدوار التي اضطلع بها المجتمع المدني منذ نشأته كثيرة ومتعدّدة، لكنّ من المهمّ لنا تأكيد أنّ مهامه تختلف جذريًا في بلادنا التي لم تساهم في إنتاج الديمقراطية بذاتها كأسلوبٍ للحكم، أو لم تستطع إنجاز مرحلة التحوّل الديمقراطي، عن مهامّه في المجتمعات الغربية التي نشأ المفهوم فيها واقعًا وتطوّر مع الزمن والممارسة.
فالمجتمع المدني وفق المفهوم السائد له حاليًا، وبسبب ارتباطه الوثيق بتشكيل الأمّة في الدولة القائمة على المواطنة، يؤثّر في شكل هذه المواطنة ويتأثّر بها. العلاقة متعدّية وجدلية بين هذه المفردات جميعها. ومهامّ المجتمع المدني في بلادنا في الوقت الراهن تختلف عنها في المجتمعات الغربية، فهو يحمل على عاتقه مشروع التحوّل الديمقراطي. إنّه مرتبط ارتباطًا لا انفصام لعروته مع السياسة بمفهومها الواسع، فهو جزء من الحيّز العام الذي تشغله الدولة، وجزء من الحيّز الخاص (الحيّز الأهلي) الذي تتخلّى عنه أيضًا.
لعب المجتمع المدني في أوروبا أواسط ثمانينيات القرن العشرين أدوارًا حاسمة في الخلاص من ديكتاتورية الحزب الواحد، وفي بولندا على سبيل المثال، كانت الكنيسة إحدى الروافع الأساسية للمجتمع المدني إلى جانب نقابات العمّال. هكذا ساهم المجتمع المدني في تلك البلاد، وخلال تلك المرحلة، بالتحوّل الديمقراطي من الحكم الشمولي إلى الحكم الديمقراطي.
والمجتمع المدني في الديمقراطيات الغربية يلعب دورًا مُخفّفًا لبيروقراطية النخبة، ومُمدّدًا لتركيز عملية صنع القرار، فهو الحلقة الوسيطة بين البرلمانات والحكومات والأفراد. فمن خلال الاتحادات الطوعية والجمعيات والنقابات، يساهم في توزيع السلطة عبر مسارب كثيرة ليحقق التوازن بين الفئات المجتمعية.
يمكن القول ببساطة إنّ ساحة فعل المجتمع المدني هي تلك التي يساهم فيها بعملية بناء الديمقراطية في الدول التي لم تُنجز هذا الانتقال، وهي ذات الساحة التي عمل فيها عند نشوئه في أوروبا.
يشمل مفهوم المجتمع المدني الآن المبادرات الاجتماعية الذاتية، والمنظمات غير الحكومية (NGOs)، والتنظيمات النسوية والبيئية، والاتحادات النقابية والطوعية، ومبادرات السلم الأهلي، وغيرها الكثير من المؤسسات التي تقوم على أساسٍ تعاقديٍّ طوعيٍّ حرّ، لتحقيق أهدافٍ بعيدةٍ عن الربح وعن السلطة، وذلك عبر استهداف تغيير السياسة والتأثير في المجتمع، أو تغيير أنماط التفكير المجتمعية، ويتمّ ذلك بأساليب ديمقراطية من خلال الحوار العقلاني وتبادل الرأي والتفاهمات على المشتركات.
لا يمكن تصوّر اتحاداتٍ نقابيةٍ عمّاليةٍ أو مهنيةٍ غير منخرطة بالسياسة، فالإضرابات وعمليات التفاوض مع الحكومات والدفاع عن حقوق أعضائها هي سياسة بالمعنى المباشر.
حضور المجتمع المدني مرتبطٌ إذن بحضور الدولة، وقوّته تنبع من قوّتها لا من ضعفها. وعندما تتفكك الدولة وتضعف مؤسساتها لا ينشأ مجتمعٌ مدنيٌّ قويٌّ قادرٌ على الحلول محلّها، بل تنشأ عصبيّات أوليّة تُرجع المجتمع إلى عهد ما قبل الدولة، أي تعود لبناء أشكالٍ من التنظيم الاجتماعي البدائية القائمة على العلاقات القبلية أو الدينية أو الطائفية. وهذه ليست مجتمعًا مدنيًا، بل هي مجتمعٌ أهليٌّ يُفعّل قوانينه الذاتية للتحكّم بشريعة الغاب التي لا بدّ وأنّها ستسود عند انفراط عقد القانون وانهيار سيادته. تجارب الدول التي مرّت بحروبٍ أهلية أو بثوراتٍ تثبت ذلك، فلبنان مثالٌ بعيدٌ لكنّه مستمرّ إلى اليوم، واليمن وسوريا مثالان معاصران.
مهامّ المجتمع المدني في البلاد التي خرجت من ثوراتٍ ضدّ الاستبداد أو من حروبٍ أهلية كثيرة ومتشعّبة، لكنها تنطلق جميعها من جذرٍ واحد هو المساهمة في بناء الديمقراطية، أو بالأحرى التحوّل الديمقراطي في الحكم الذي كان محلّ ثورةٍ أو حربٍ أهلية.
السياسة، بوصفها طريقة حلّ الخلافات وأداة تحقيق المشاركة في الثروات من خلال المشاركة في الحكم، هي العنصر الأولي الذي لا يمكن أن يبتعد عنه المجتمع المدني، فهي الرافعة لعمله والأساس لوجوده. إنّ محاولة حصر المجتمع المدني بالمنظمات الحقوقية أو الإغاثية أو البيئية أو العاملة في مجالات الفن والأدب والثقافة لإبعاده عن السياسة، هي محاولات بائسة تدعو إليها القوى السياسية التي تريد احتكار الشأن العام بيديها.
لا يمكن تصوّر اتحاداتٍ نقابيةٍ عمّاليةٍ أو مهنيةٍ غير منخرطة بالسياسة، فالإضرابات وعمليات التفاوض مع الحكومات والدفاع عن حقوق أعضائها هي سياسة بالمعنى المباشر. كذلك فإنّ حركات السلام أو منظمات الدفاع عن البيئة أو حقوق الإنسان أو الحركات النسوية تمارس السياسة من أوسع أبوابها، فنقد الذكورية في احتكار الوظائف أو المهام أو في ممارسة التشريع من وجهة نظرٍ أحادية هو سياسة محضة.
إنّ مهامّ المجتمع المدني كبيرة ومهمّة وحاسمة، إذا ما كان هذا المجتمع مدركًا لذاته محقّقًا لها.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية