جدول المحتويات
«نبض الخليج»
في حيَّي باب توما وباب شرقي، تستيقظ المدينة على أصوات الباعة وضجيج المارة منذ ساعات الصباح الأولى. تتحرك الحياة في الأزقة الضيقة بإيقاع مألوف، تختلط فيه رائحة القهوة بأحاديث الجيران وضحكات الطلاب المتجهين إلى مدارسهم وجامعاتهم. تمتد الحركة بلا انقطاع من الصباح حتى الليل، حين تبدأ المدينة فصلاً آخر من حياتها، مختلفاً عن نهارها الصاخب، لكنه يحمل الدفء ذاته بين جدرانها القديمة.
مساء كل يوم، يجلس رجل ستيني في محلّه الصغير ويصدح من محله صوت أم كلثوم. يعرف كل سكان باب توما وباب شرقي صاحب المحل المذكور، حتى الزوار الذين يقصدون حديقة القشلة يعرفون العم أبو وفيق. لا تبدو في المشهد أحداث كبيرة، لكن تفاصيله اليومية البسيطة قد تحمل لأهالي المنطقة معنى الاستمرار بعد سنوات من الخوف والحروب والتغيّرات، فالحياة لم تتوقف، بل ما زالت مستمرة.
حين يصبح الجيران مرآة لبعضهم
أمام دكان صغير في باب توما، يجلس أبو وفيق، رجل في الستين من عمره، يحمل ذاكرة المكان كأنها مطبوعة في عينيه. أمامه شارع يعجّ بالناس، تتداخل أصوات الباعة مع وقع خطوات المارة وأصوات الأطفال الذين يركضون بين الأزقة.
يقول أبو وفيق لموقع تلفزيون سوريا: نحن نعيش هنا منذ كنت صغيراً، قبل أن أكبر وأتزوج ويصبح لديّ أولاد، ثم يخفض صوته مشيراً إلى بيوت الجيران: عشنا دائماً إلى جانب جيراننا المسيحيين كالأهل والإخوة.
ويتابع: بعد سقوط النظام المخلوع لم نشعر بالخطر، فهذه المنطقة آمنة والحمد لله، لكن في داخلنا شعور بالمسؤولية، فعندما تحدث مشكلة أو تجاوز في أي مكان، نشعر أن من واجبنا حماية جيراننا.
ثم يبتسم بخجل وهو يشير إلى منزله القريب من بيوت الجيران قائلاً: “صرت أطلب من زوجتي أن تطمئن على جارتنا المسيحية الأرملة أكثر من قبل، وكأن في داخلنا إحساساً نابعاً من رفضنا لما يُرتكب من جرائم وانتهاكات باسمنا”. وفي ختام حديثه، ينظر إلى الحي المزدحم ويقول: “نحن نحب بعضنا، كنا وسنبقى دائماً جيراناً وأهلاً”.
نهار القيمرية.. قلب المدينة النابض
القيمرية لا تهدأ. منذ الصباح، تتعالى الأغاني من المحال وتختلط برائحة القهوة والطعام والورد والعطور القديمة. في الزوايا وجوه كثيرة تبتسم وتساوم وتتحاور. وفي المساء، يجلس رجل ستيني قرب الجدار ويغني لعبد الحليم. يلتف الناس حوله، بعضهم يشاركه الغناء، وبعضهم يكتفي بالاستماع. صوته لا يطلب التصفيق، بل يمنح الشارع طابعه المختلف والخاص.
في هذا الضجيج الدافئ، يبدو التعايش عادة يومية لا تحتاج إلى شعارات. الناس هنا يدركون أن الغناء المشترك هو شكل من أشكال المقاومة، ولا أحد يسأل عن طائفة المغني أو مذهبه، بل كل ما يعنيهم أن يكون مسالماً، محباً للشام وهوائها.
ديانا.. والخوف الذي “لا يسكن هنا”
في مقهى يطل على شارع ضيق في باب شرقي، تجلس ديانا، طالبة جامعية من الساحل، ترتشف قهوتها ببطء وتقول وهي تراقب الشارع عبر الزجاج: “قد أشعر بالخوف في أي مكان في العالم، إلا هنا. هنا يمرّ الشرّ ولا يترك أثراً”.
بين أصوات الطلاب وضجيج الحافلات الصغيرة، تضيف لموقع تلفزيون سوريا: “كانت أختي الكبرى تعيش في هذا الحي منذ سنوات، عندما كانت القذائف تتساقط على دمشق، وكانت تقول إنها تشعر بالأمان رغم كل شيء. لم أفهمها حينها، لكنني أدركت ذلك عندما عشت هنا بنفسي”.
تنظر ديانا بعينين هادئتين وتقول: “دمشق مدينة غريبة، رغم كل ما مرّ عليها من حروب ومآسٍ، يستحيل أن يشعر أحد بالخوف فيها”.
أم أمين.. بيت واحد يتسع للجميع
في أحد البيوت القديمة المتلاصقة في باب توما، تجلس أم أمين في مطبخها، وحولها تصطف الغرف المستأجرة. تعبق رائحة القهوة في صباح الجمعة الهادئ بينما تبقى أصوات الشارع نابضة بالحياة.
تقول وهي تغلي القهوة: “أؤجر الغرف في بيتي منذ نحو عشر سنوات، أعيش من مردودها وأتسلّى بوجود الناس حولي. جاء إلى هذا البيت أشخاص من خلفيات متعددة، ولم يحدث يوماً خلاف طائفي أو اعتداء بين أحد منهم”.
تضحك بخفة وتتابع: “أحياناً يختلفون على الماء أو دور الحمّام، لكنها مشكلات بسيطة لا تتجاوز ذلك”.
ثم تشير إلى أحد الشباب المارين وتقول: “حالياً في بيتي مسلمون ومسيحيون وشاب درزي أيضاً. ليلة الخميس كانوا يسهرون معاً ويتحدثون عن الطائفية في البلد، يتجادلون قليلاً ويمزحون كثيراً، لكنهم لا يختلفون أبداً”.
ترفع صوتها مازحة ليصل إلى الشبان: “اختلفوا فقط على أي نوع من المتة أطيب، وفي النهاية شرب كلٌّ نوعه المفضل”.
ويردّ نزار، أحد سكان البيت، مبتسماً: “ما تفرّقه الحروب تجمعه المتة، لو كانت كل سوريا تعيش كما نعيش هنا، لكنا بألف خير”.
في الليل… صوت أم كلثوم يكشف التناقضات
عندما يهبط المساء، يصدح صوت أم كلثوم من محل صغير في الزاوية، تتسلل أغانيها بين حجارة الأزقة. تمرّ نور، شابة في الخامسة والعشرين، من هناك كل مساء بعد عملها وتقول بصوت منخفض: “أشعر بالأمان هنا رغم أن عملي بعيد عن منزلي، أحياناً تراودني المخاوف في الطريق ونظرات الناس تثير قلقي”.
تضيف بعد لحظة صمت: “أشعر وكأن الناس في الشارع يعرفونني، لا أدري لماذا”.
ثم تتابع بصدق: “لم أعد أرغب في الحديث عن البلد أو سماع النقاشات حوله، كل ما أريده هو أن تُباع أرض عائلتي وأسافر بعيداً”.
وتختم بنبرة هادئة: “لم أعد أشعر بالانتماء إلى أي شيء، أريد فقط الخروج من هذا السجن الكبير”.
مع غروب شمس الجمعة، يجلس عامر، شاب في الثامنة والعشرين، على الرصيف أمام محل السندويشات، ممسكاً كوب لبن وسندويشة سجق، فيما تُحضّر له أخرى “بالطلياني والقشقوان” في الداخل. تقترب منه القطط تتناوب على فتات الخبز، فيبتسم قائلاً: “انظري إلى الشارع، مزدحم لكنه مألوف، لا أحد غريب، لا أحد تائه”.
يرتشف من كوبه ويضيف وهو يطعم القطط: “أما دمشق، فهي كما هي دائماً. أمي مريضة قليلاً بسبب تبدّل الطقس، اتصلت بها قبل قليل فأخبروني أنها نائمة”.
هكذا يختار عامر نهاية للتقرير بمجازه هو، حيث تستحضر ذاكرته أمه المريضة على خلفية حديثنا عن حياة الشام اليومية.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية

