«نبض الخليج»
عن دار (Le Lys Bleu Éditions) الفرنسية، صدرت للكاتب السوري سيف الدين أتاسي الطبعة الفرنسية من كتابه “شخابيط على الجدران”. وقبل أيام، أعلنت دار كنعان للدراسات والنشر الدمشقية عن صدور كتابٍ مشترك يجمع بين أتاسي والكاتب حسين محمد خاطر بعنوان “ذاكرة تمطر سماءً”. وبذلك تصبح سيرته الإبداعية سبع مؤلفات، يجمع بينها أنها كُتبت جميعها في المنفى، وأنها تقوم على نمط فني محدّد بات شائعًا في الأوساط الإبداعية، هو الكتابة القصيرة أو النصوص البرقية، التي تتعدد تسمياتها بشكلٍ استنسابي بين النقاد.
في السنوات الأخيرة، أخذت هذه الكتابة الوجيزة — والتي نقترح تسميتها هنا بـ “التدوينات الومضية” — مكانها في المشهد الثقافي الجديد الذي صاغته وسائل التواصل الاجتماعي. إذ لم تعد الكتابة الأدبية حكرًا على الأجناس الكبرى كالقصيدة والرواية والمقالة المطوّلة، بل صارت ممكنة في بضعة أسطر تُنشر على “فيسبوك” أو “إكس” (تويتر سابقًا). هذا التحوّل لا يمكن اعتباره مجرد تبدّل في الشكل، بل هو انعكاس لتحوّلٍ أعمق في طبيعة الفضاء العام ذاته، الذي بات أكثر تفاعلية وأقرب إلى فكرة الديمقراطية الرقمية في تداول المعنى.
تجربة سيف الدين أتاسي مثال واضح على هذا التحول. فهو لم يكتب نصوصًا أدبية طويلة، بل اختار أن يباشر الكتابة في شكل منشورات قصيرة تجمع بين الملاحظة والتأمل والمفارقة. هذه الكتابة ليست “خواطر” بالمعنى التقليدي، بل هي فعل لغوي يقوم على الاقتصاد في العبارة، وعلى تحويل اليومي إلى سؤال أو لمعة فكرية. لكنها أيضًا — وهذا هو الأهم — تنتمي إلى فضاء مفتوح يتيح للقارئ أن يتفاعل، أن يعلّق، أن يشارك في توليد المعنى، لا أن يظل متلقيًا سلبيًا.
***
في بدايات الإنترنت، وبعد مرحلة مجموعات الرسائل البريدية، أتت المدونات الشخصية (Blogger) لتمثّل منصّة للكتابة الطويلة والمفصّلة، فكانت أشبه بمجلّات فردية تحتضن النصوص والآراء. ومع توسّع شبكات التواصل الاجتماعي، تغيّر شكل الخطاب الرقمي: تقلّص النص، تسارع الإيقاع، وتحوّل الكاتب من متأملٍ منعزل إلى مشاركٍ في سيلٍ مفتوح من الرسائل والمنشورات. هنا نشأت الكتابة الومضية في شكلها الراهن، لا بوصفها نقيضًا للكتابة العميقة، بل كاستجابة طبيعية لإيقاع جديد في تلقي المعنى.
إن منشورًا قصيرًا على “فيسبوك” قد يُحدث اليوم الأثر ذاته الذي كانت تُحدثه مقالة مطوّلة قبل عقدين. والسبب في ذلك أن الوسيط نفسه تغيّر: فبدل أن تكون الكتابة فعلًا أحادي الاتجاه، أصبحت تفاعلية، يشارك القارئ في إكمالها أو مناقضتها أو إعادة تأويلها. وبذلك تحوّلت الكتابة من ملكية فردية إلى ممارسة جماعية، ومن خطاب مغلق إلى فضاء تداولي حر.
من هنا تكتسب تجربة سيف الدين أتاسي معناها الأوسع. فهي لا تُقدَّم بوصفها نموذجًا أدبيًا محضًا، بل بوصفها شكلًا من أشكال المشاركة الثقافية التي تتيح للكاتب أن يتفاعل مباشرة مع قرّائه، دون وساطة دار نشر أو هيئة تحرير. كل منشور لديه يتحول إلى ساحة نقاش صغيرة، يتبادل فيها الناس الآراء والانطباعات. وهكذا تصبح الكتابة نفسها نوعًا من الحوار الاجتماعي المفتوح، لا مجرّد عرضٍ للذات.
الكتابة التي يمارسها سيف الدين أتاسي ليست مجرد تدوينات شخصية، بل ممارسة لغوية تشهد على تحوّل الكتابة من خطابٍ مؤسسي إلى فعل اجتماعي حر
هذا الشكل من التعبير يعكس أيضًا تحوّلًا في مفهوم “الكاتب” نفسه. لم يعد الكاتب شخصية نائية تنتج نصوصًا معزولة في برجها، بل أصبح جزءًا من حركة تواصل حيّة. إنه يكتب ويُعاد إنتاج نصّه لحظيًا عبر التعليقات والمشاركات، فتتوزع السلطة الرمزية للكتابة بين الجميع. وبذلك يمكن القول إن التدوين الوجيز هو أحد مظاهر دمقرطة الكتابة في زمن الشبكات: أي انتقالها من الفضاء النخبوي إلى التداول الشعبي، ومن الكتاب الورقي إلى الشاشة اليومية، ومن خطاب العمق الأكاديمي إلى بلاغة الحياة العادية.
ورغم ما يرافق هذا التحوّل من أخطار التبسيط أو التسرّع، فإنه يفتح أفقًا جديدًا للفكر والثقافة، حيث يمكن للجملة القصيرة أن تؤدي وظيفة تأملية أو نقدية أو وجدانية بكفاءة لا تقل عن النص المطوّل. إن التحدي الحقيقي اليوم ليس في طول النص، بل في قدرته على البقاء في ذهن المتلقي، وعلى أن يفتح حوارًا بدل أن يُغلق المعنى.
من هنا يمكن النظر إلى الكتابة التي يمارسها سيف الدين أتاسي بوصفها جزءًا من هذا السياق الواسع: ليست مجرد تدوينات شخصية، بل ممارسة لغوية تشهد على تحوّل الكتابة من خطابٍ مؤسسي إلى فعل اجتماعي حر. إنها كتابة تُعيد للغة حضورها في الحياة اليومية، وتذكّرنا بأن الكلمة — مهما قصرت — لا تزال قادرة على أن تخلق أثرًا وتبني معنى بين الناس.
يتحدث أتاسي إلى قارئه كما لو كان يحدّثه في مقهى: لا يتصنّع، ولا يستغرق في أدبية النص، بل يتحرك بين اليومي والإبداعي. وفي تلقّي المكتوب هنا، لا يُستغرب أن لا يتفاعل قارئ ما، في حين يستغرق آخر في التأمل، وينتقل من فكرةٍ أولى إلى ثانية، وهكذا. هذا هو نمط الكتابة المقترَح هنا، وهو جزء من التحول الكبير الذي أحدثته شبكات التواصل الاجتماعي في آليات الكتابة والتلقي معًا. هكذا تبدو الكتابة الومضية اليوم — لا كترفٍ لغوي، بل كتمرينٍ على الحرية، يربط بين الكلمة والحياة في لحظتها الآنية. شكل جديد من القول، يُعيد للمعنى حقّه في أن يكون مشاعًا بين الجميع.
شارك هذا المقال
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية