جدول المحتويات
«نبض الخليج»
تأتي وثيقة “العيش المشترك” التي أصدرتها جماعة الإخوان المسلمين في سوريا في أكتوبر/تشرين الأول 2025 في لحظةٍ بالغة الحساسية من تاريخ البلاد، بعد سقوط نظام الأسد وبداية مرحلة إعادة بناء الدولة والمجتمع.
الوثيقة تبدو، للوهلة الأولى، بيانًا وطنيًا جامعًا يدعو إلى تجاوز الانقسامات، وإرساء أسس السلم الأهلي، والاعتراف بالتعددية الدينية والعرقية. لكن قراءةً متأنية تكشف أنها ليست نصًا قيميًا فحسب، بل أيضًا وثيقة سياسية تعبّر عن تحوّل في لغة الجماعة.
من هنا ينبع السؤال المركزي لهذه القراءة:
هل تمثل الوثيقة تحوّلًا فكريًا حقيقيًا نحو مشروع وطني مدني؟ أم أنها تعبّر عن “عودة ناعمة” للجماعة إلى الحياة العامة عبر بوابة المجتمع المدني وبخطابٍ أكثر قبولًا؟
هذا التركيز ليس تفصيلًا عابرًا، بل يعكس إدراك الجماعة أن المجتمع المدني هو بوابة العودة الأكثر أمانًا وشرعية إلى المجتمع السوري.
ملامح الخطاب الجديد
تُظهر الوثيقة تحوّلًا واضحًا في اللغة المستخدمة مقارنةً بأدبيات الإخوان السابقة. فقد غابت تقريبًا مفردات مثل “التمكين” و”الحاكمية” و”المشروع الإسلامي”، لتحلّ محلها مفاهيم مدنية وإنسانية مثل: العيش المشترك، العدالة، المواطنة، الأخوّة الإنسانية، الدولة الديمقراطية، سيادة القانون.
وتُقدَّم الآيات القرآنية بوصفها مرتكزًا للقيم الإنسانية العامة، لا كمرجعية تشريعية ملزمة للدولة.
هذا التحوّل اللغوي يعكس انتقالًا من الخطاب الدعوي إلى الخطاب القيمي، ومن المرجعية الإسلامية المغلقة إلى المرجعية الإنسانية المفتوحة.
وهو تحوّل يمكن أن يُقرأ على مستويين:
-
إمّا أنه مراجعة فكرية حقيقية استوعبت الجماعة من خلالها دروس الفشل السياسي.
-
وإمّا أنه تحوّل تكتيكي يهدف إلى تليين الخطاب بما يناسب المناخ السوري والدولي الجديد.
المجتمع المدني كأداة مركزية
تخصّص الوثيقة مساحة واسعة للحديث عن منظمات المجتمع المدني، وتمنحها دورًا محوريًا في بناء الهوية السورية المشتركة، وإطلاق مبادرات الحوار الوطني والمصالحة، ونشر ثقافة التعايش، وإنتاج خطاب إعلامي وفني هادف.
هذا التركيز ليس تفصيلًا عابرًا، بل يعكس إدراك الجماعة أن المجتمع المدني هو بوابة العودة الأكثر أمانًا وشرعية إلى المجتمع السوري.
فالعمل المدني يسمح لها بإعادة نسج العلاقات المجتمعية بعد عقودٍ من القطيعة، واستعادة الثقة من خلال نشاطات خدمية وثقافية وتعليمية، والظهور في الحياة العامة من دون الاصطدام بالسلطات الجديدة أو إثارة حساسية القوى الأخرى.
وبهذا المعنى، يصبح المجتمع المدني وسيلة استراتيجية ناعمة للعودة أكثر منه هدفًا بحد ذاته.
البعد الاستراتيجي والبعد التكتيكي
يمكن تمييز مستويين في الوثيقة:
-
البعد الاستراتيجي: محاولة الجماعة إعادة تعريف ذاتها كفاعل وطني مدني ذي مرجعية قيمية، لا كحركة إسلامية تسعى إلى السلطة. وهذا تحوّل طويل الأمد قد يعكس استجابة حقيقية للتغيرات في البيئة السياسية والاجتماعية السورية والعربية.
-
البعد التكتيكي: استخدام خطاب العيش المشترك والعمل المدني كأداة لإعادة التموضع الاجتماعي والسياسي. فالجماعة تدرك أن العودة المباشرة إلى السياسة لن تكون مقبولة، لذا تختار طريقًا تدريجيًا وهادئًا يعيدها إلى المجتمع أولًا، على أمل أن يُمهّد لحضورٍ سياسي لاحق.
الوثيقة لا تنفي أحد البعدين، بل تبقي الباب مفتوحًا بينهما؛ فهي لا تتخلى عن المرجعية الإسلامية تمامًا، لكنها تعيد تأطيرها داخل مفاهيم المواطنة والعدالة والتعددية.
يمكن القول إن الوثيقة تعبّر عن تحوّل تكتيكي بملامح استراتيجية: ليست قطيعة فكرية تامة مع الماضي، لكنها تشير إلى اتجاهٍ إصلاحي تحاول الجماعة تثبيته على المدى الطويل.
بين التحوّل الحقيقي والسياسة المرحلية
يبقى السؤال الحاسم: هل يعكس هذا التحوّل في الخطاب تغييرًا جوهريًا في البنية الفكرية للجماعة، أم أنه سياسة مرحلية لتكييف الخطاب مع الواقع الجديد؟
هناك مؤشرات في الاتجاهين:
-
دلائل التحوّل الحقيقي: القبول الصريح بمبدأ فصل السلطات، حرية الاعتقاد، التعددية السياسية، حصر السلاح بيد الدولة، وتمكين المرأة والشباب.
-
دلائل السياسة المرحلية: غياب تحديدٍ واضح لموقع الشريعة في النظام القانوني، والتركيز المفرط على المجتمع المدني من دون توضيح العلاقة بين العمل المدني والحزبي، وطغيان اللغة الأخلاقية العامة التي قد تُستخدم لتلميع الصورة أكثر من كونها التزامًا فكريًا جديدًا.
من ثمّ، يمكن القول إن الوثيقة تعبّر عن تحوّل تكتيكي بملامح استراتيجية: ليست قطيعة فكرية تامة مع الماضي، لكنها تشير إلى اتجاهٍ إصلاحي تحاول الجماعة تثبيته على المدى الطويل.
بين دعوة الحلّ ومسار الاندماج المدني
بوصفي أحد من كتبوا سابقًا حول الدعوة إلى حلّ جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، كنت قد نشرت في أغسطس/آب 2025 مقالًا بعنوان “حلّ جماعة الإخوان المسلمين في سوريا.. دعوة صحيحة في توقيت خاطئ” على موقع تلفزيون سوريا، رددتُ فيه على مقالٍ للدكتور أحمد موفق زيدان في موقع الجزيرة، دعا فيه الجماعة إلى حلّ نفسها استجابةً لمقتضيات المرحلة الانتقالية.
يومها قلت إنّ الفكرة صحيحة من حيث المبدأ، لكنها خاطئة التوقيت، لأنها قد تُفسَّر كإقصاءٍ سياسي لا كمراجعةٍ فكرية.
ورأيت أن الخيار الأنسب هو التحوّل الطوعي للجماعة من كيانٍ تنظيمي مغلق إلى فاعلٍ وطني مدني منفتح على الشأن العام.
اليوم، وبعد صدور وثيقة العيش المشترك، أجد أنها جاءت، سواء بقصدٍ مباشر أم استجابةٍ ضمنية للمناخ السياسي والفكري العام، تعبيرًا عمليًا عن جوهر تلك الدعوة: لا الحلّ القسري، بل التحوّل المدني الهادئ.
فالجماعة تتبنى لغةً جديدة، إنسانيةً وقيمية، وتضع المجتمع المدني في قلب مشروعها، بما يشير إلى استعدادها للاندماج في المجال العام عبر أدوات ثقافية ومدنية بدلًا من الأطر الحزبية التقليدية.
بهذا المعنى، تمثل الوثيقة الشقّ العملي من الحوار الفكري الذي دار حول مستقبل الجماعة: زيدان دعا إلى الحلّ، وأنا دعوت إلى التحوّل، وها هي الجماعة تخطو خطوةً في ذلك الاتجاه، محاولةً أن تعيد تعريف وجودها داخل المجتمع السوري كفاعلٍ مدنيٍّ أخلاقي، لا كتنظيمٍ سياسيٍّ مغلق.
تمثل الوثيقة مزيجًا من التحوّل الفكري والاستراتيجية البطيئة للعودة: تحوّل فرضه الواقع، واستراتيجية تحاول التماهي معه.
خاتمة
تمثل وثيقة “العيش المشترك” منعطفًا مهمًا في مسار جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، لأنها تجمع بين الخطاب الوطني المدني والطموح للعودة إلى قلب المجتمع.
إنها وثيقة إعادة تعريف بقدر ما هي إعلان نوايا: تحاول الجماعة عبرها أن تقدّم نفسها كجزءٍ من الحلّ الوطني، لا كمكوّنٍ أيديولوجي من الماضي، مستخدمةً أدواتٍ جديدة (المجتمع المدني، الخطاب الإنساني، قيم المواطنة) بدل أدواتها القديمة (الدعوة، التنظيم، الحاكمية).
لكن نجاح هذا التحوّل يبقى رهينًا بمدى صدق الجماعة في تبنّي المواطنة المتساوية فعلًا لا قولًا، وبقدرتها على العمل داخل المجتمع المدني بشفافيةٍ وشراكةٍ حقيقية، لا عبره كواجهةٍ بديلةٍ للعمل التنظيمي.
في المحصّلة، تمثل الوثيقة مزيجًا من التحوّل الفكري والاستراتيجية البطيئة للعودة: تحوّل فرضه الواقع، واستراتيجية تحاول التماهي معه.
إنها، في آنٍ واحد، دعوة إلى العيش المشترك… ومحاولة للعودة والمشاركة من قلب المجتمع السوري.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية