«نبض الخليج»
يُعدّ انتخاب زهران ممداني عمدةً لمدينة نيويورك حدثاً لافتاً في المشهد السياسي الأميركي، ليس فقط لأنه أول مسلم من أصول جنوب آسيوية يتولى هذا المنصب، بل لأن خلفيته السياسية ومواقفه السابقة تثير أسئلة حساسة حول كيفية تعامل الحكومات الجديدة في الشرق الأوسط، ولا سيّما الحكومة السورية الانتقالية، مع شخصيات غربية تحمل رؤى منحازة في ملفات محلية شديدة التعقيد.
فممداني الذي وُلد ونشأ في بيئة متعددة الثقافات، بنى مسيرته السياسية على خطاب تقدمي يرفع شعارات العدالة الاجتماعية ومناهضة التمييز، لكنه في الوقت نفسه اتخذ مواقف مثيرة للجدل حين تعلّق الأمر بالملف السوري، حيث دافع في أكثر من مناسبة عن سرديات تتماهى مع خطاب النظام السوري وحلفائه الإقليميين.
ولد زهران ممداني عام 1991 في أوغندا لأسرة هندية الأصل هاجرت لاحقاً إلى الولايات المتحدة. نشأ في مدينة نيويورك ودرس العلوم السياسية في جامعة نيويورك، قبل أن ينخرط في العمل المجتمعي والحقوقي ضمن أوساط الشباب والمهاجرين. تأثر بخطاب اليسار التقدمي داخل الحزب الديمقراطي، فعمل على قضايا العدالة العرقية والإسكان العام والضرائب على الأثرياء. انتُخب في عام 2020 عضواً في مجلس الولاية عن مقاطعة كوينز، حيث عُرف بخطابه القاطع ضد العنصرية وبمواقفه المؤيدة لحركات مناهضة إسرائيل مثل BDS ، كما دعم حملات بيرني ساندرز للرئاسة، وشارك في مظاهرات ضد ما وصفه بـ”الحروب الأميركية في الشرق الأوسط”. ومع صعوده السياسي، اكتسب ممداني قاعدة جماهيرية واسعة بين الأقليات، خصوصاً المسلمين واليساريين الشباب، إلى أن فاز بمنصب عمدة نيويورك في انتخابات 2025، حاملاً معه خطاباً تقدمياً جريئاً، لكنه أيضاً محاط بالكثير من الجدل.
من الضروري أن تدرك دمشق الجديدة أن التواصل مع كلا الحزبين (الديمقراطي والجمهوري)، هو ركيزة للاستقرار في العلاقات مع واشنطن.
لم يكن موقف ممداني من الثورة السورية محايداً أو متوازناً. فحين كان العالم يشهد على المجازر التي ارتكبها نظام الأسد بحق المدنيين، وعندما أثبتت التحقيقات الأممية استخدام الأسلحة الكيميائية في الغوطة وخان شيخون ودوما، لم يتوانَ ممداني عن التشكيك في مسؤولية النظام عنها، مكرراً الخطاب ذاته الذي روّجت له موسكو وطهران في المحافل الدولية. ويعود أول ظهور علني لهذا الموقف إلى عام 2013، عقب الهجوم الكيميائي الأكبر في الغوطة الشرقية، حين نشر ممداني عبر حسابه على منصة “إكس” (تويتر سابقاً) مقالاً من موقع Warscapes يشكك في مسؤولية النظام السوري ويصف الاتهامات الغربية بأنها “سردية جاهزة للتدخل العسكري”.
هذا الموقف الذي تبناه في ذروة المأساة الإنسانية أثار موجة غضب واسعة داخل أوساط الجالية السورية في نيويورك، إذ رأى فيه كثيرون تبريراً ضمنياً لاستخدام السلاح المحظور ضد المدنيين، بل ودفاعاً عن النظام تحت غطاء “رفض التدخل الخارجي”.
وفي الأعوام اللاحقة، واصل ممداني هذا النهج في مداخلاته الإعلامية، معتبرًا أن “الحديث عن تورط النظام السوري في الهجمات الكيميائية يحتاج إلى أدلة قاطعة”، وأن “الولايات المتحدة تستخدم الملف الإنساني ذريعة للتدخل العسكري”، وهو الموقف الذي قوبل بانتقادات شديدة من شخصيات سورية وعربية وحقوقية اعتبرت أن ممداني يتبنى سرديات الأنظمة الاستبدادية حين تتقاطع مع عدائه للسياسات الأميركية، متجاهلاً الكلفة الإنسانية الفادحة التي دفعها السوريون ثمناً لهذا الإنكار.
ممداني، القادم من جناح الحزب الديمقراطي التقدمي، اشتهر بدعمه لحركات تعتبر نفسها مناهضة للإمبريالية، غير أن هذا التوجه قاده في أحيان كثيرة إلى التقاطع مع مواقف قوى محسوبة على محور إيران. فقد دعم علناً الاتفاق النووي الإيراني عام 2015، ورفض تصنيف الحرس الثوري منظمة إرهابية، مبرراً ذلك بأنه “نتيجة لتضخيم إعلامي أميركي يسعى لتبرير العقوبات على الشعوب لا على الأنظمة”. ومن هذا المنطلق، بدا متفهماً لا بل حتى متعاطفاً مع الدور الإيراني في الشرق الأوسط، متجاهلاً ما تسبب به هذا الدور من مآسٍ إنسانية في سوريا والعراق واليمن. هذه المواقف لم تكن عابرة، بل جزء من رؤية أوسع لدى شريحة من السياسيين الأميركيين اليساريين، ترى في كل خصم لواشنطن ضحية للهيمنة الغربية، ولو كان نظاماً مسؤولاً عن مئات آلاف القتلى وملايين المهجرين.
لكن المشهد اليوم تغيّر. فزهران ممداني لم يعد ناشطاً في حملات طلابية أو نائباً في برلمان محلي، بل أصبح عمدة لمدينة تُعد من أهم المراكز السياسية والإعلامية في العالم. وصوته اليوم لن يبقى محصوراً في دوائر التقدميين أو المنصات الرقمية، بل سيؤثر في المزاج العام الأميركي تجاه قضايا الشرق الأوسط، وسوريا على وجه الخصوص. ومن هنا تأتي أهمية السؤال: كيف
على الحكومة السورية الانتقالية أن تتعامل مع شخصية كهذه، تحمل إرثاً سياسياً مثقلاً بالانحياز، ولكنها تملك اليوم موقعاً مؤثراً في صنع الرأي الأميركي؟
الجواب: لا يكمن في القطيعة أو في الرد بالمثل. فالحكومة السورية الانتقالية، وهي تسعى لاستعادة موقع سوريا في النظام الدولي بعد سنوات من العزلة والنزاع، تحتاج إلى بناء سياسة خارجية واقعية قائمة على المصالح لا العواطف، وعلى الانفتاح لا الاصطفاف. ورغم أن ممداني تبنّى مواقف خاطئة ومجافية للحقيقة حول الثورة السورية، إلا أن منصبه اليوم يمنحه وزناً يجب التعامل معه ببراغماتية عالية. فالسياسة في الولايات المتحدة لا تُختصر في موقف فرد أو حزب، بل هي شبكة معقدة من المؤسسات والتوازنات، والحكومة السورية الجديدة لا يمكنها أن تراهن على طرف دون آخر.
من الضروري أن تدرك دمشق الجديدة أن التواصل مع كلا الحزبين (الديمقراطي والجمهوري)، هو ركيزة للاستقرار في العلاقات مع واشنطن. فالانحياز لطرف على حساب الآخر يجعل الملف السوري رهينة لتقلبات الانتخابات الأميركية. لذلك، من الحكمة أن تُبنى قنوات تواصل مؤسسية ومستدامة مع مختلف الفاعلين في المشهد الأميركي، بمن فيهم شخصيات مثل زهران ممداني، رغم سجلهم الجدلي. الهدف ليس كسب ودّهم الشخصي، بل ضمان أن يكون صوت سوريا الجديدة حاضراً في كل المنابر، حتى تلك التي كان يُنظر إليها سابقاً بعين الريبة أو العداء.
إن التعامل مع شخصيات ذات مواقف رمادية تجاه الثورة السورية يجب أن يستند إلى قاعدة المصلحة الوطنية العليا، ولكن من دون أن يعني ذلك التغاضي عن جراح الماضي أو التنازل عن حق السوريين في المحاسبة والعدالة.
كما يجب أن تُدار العلاقة مع ممداني بذكاء سياسي، يقوم على تقديم رواية سورية مدعومة بالحقائق والوثائق، وليس عبر خطاب دفاعي أو عاطفي. يمكن للحكومة الانتقالية أن تدعو مثل هذه الشخصيات لزيارة المناطق التي شهدت جرائم النظام، والاطلاع على برامج العدالة الانتقالية وإعادة الإعمار، بهدف تحويل المعرفة النظرية لديهم إلى فهم واقعي للمأساة السورية. فالتجربة أثبتت أن كثيراً من الساسة الغربيين الذين تبنّوا مواقف خاطئة غيّروا وجهة نظرهم حين واجهوا الحقائق على الأرض.
في المقابل، ينبغي الحذر من تحويل الخلافات السابقة إلى معارك إعلامية أو حملات مضادة، لأن ذلك يُعيد الخطاب السوري إلى دائرة الاصطفاف القديمة التي استنزفت طاقته لسنوات. سوريا الجديدة لا تحتاج إلى خصوم جدد، بل إلى شركاء محتملين يمكن توجيههم نحو فهم أفضل لجوهر القضية السورية. لذلك، من الأفضل أن ينظر إلى زهران ممداني، لا كشخصية معادية، بل كحالة سياسية معقدة يمكن احتواؤها بالتواصل الذكي والدبلوماسية الهادئة.
في نهاية المطاف، إن التعامل مع شخصيات ذات مواقف رمادية تجاه الثورة السورية يجب أن يستند إلى قاعدة المصلحة الوطنية العليا، ولكن من دون أن يعني ذلك التغاضي عن جراح الماضي أو التنازل عن حق السوريين في المحاسبة والعدالة. فالمصلحة الوطنية لا تُقاس فقط بمدى الانفتاح، بل أيضاً بقدرة الدولة على صون سيادتها واحترام إرادة شعبها الذي قدّم تضحيات جسيمة من أجل حريته. إن السياسة الخارجية للحكومة السورية الانتقالية مطالبة بأن توازن بين البراغماتية الضرورية والانضباط المبدئي، بحيث تنفتح على الجميع من موقع الندّية لا من موقع التنازل، وتتعامل بمرونة تحفظ مصالحها دون المساس بثوابتها الأخلاقية والوطنية. فالثورة لم تكن فعلاً انفعالياً، بل مشروع كرامة وسيادة، ومن الطبيعي أن تمتد هذه
الروح إلى علاقات سوريا الجديدة مع العالم. بهذه المقاربة وحدها يمكن لدمشق أن تُعيد تعريف صورتها في الخارج، دون أن تفقد احترام الداخل ولا صوت الشارع الذي صنع تحولها.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية