«نبض الخليج»
في قلب العاصمة الفرنسية باريس، حيث تتربع “كوليج دو فرانس” على جذور قرون من الفكر والتنوير، وحيث يُفترض أن تظل هذه المؤسسة معبداً للعقل الحر، لا يخضع للسلطة ولا يُطوّع للسياسة، حدث مؤخراً في هذه الكلية، ما لم يكن متوقعاً منها، وهو إلغاء استضافتها لمؤتمر “فلسطين وأوروبا: ثقل الماضي والديناميات المعاصرة”، الذي نظّمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في باريس (CAREP)، بالتعاون مع كرسي التاريخ المعاصر للعالم العربي في “كوليج دو فرانس”.
وكان من المقرر أن يُعقد المؤتمر يومي 13 و14 تشرين الثاني/نوفمبر 2025، بمشاركة نخبة من الباحثين من جامعات أوروبية وأميركية وعربية، ويفتتحه المفكر عزمي بشارة بمحاضرة حول جذور المسألة الفلسطينية في السياق الأوروبي، إلى جانب مداخلة هنري لورنس حول تاريخ علاقة أوروبا بفلسطين.
هذا الإلغاء كشف مدى هشاشة هذا الإرث الأكاديمي حين يواجه ضغط السلطة، حيث رضخت إدارة الكلية، تحت ضغوط مباشرة من وزير التعليم العالي الفرنسي فيليب باتيست، وألغت احتضان المؤتمر في مدرجها العريق، في سابقةٍ كشفت حدود “الحرية الأكاديمية”، حين تصطدم بجدار السياسة وخوف المؤسسة من الرأي الأخر.
ما الذي يبقى من إرث فوكو وبورديو، حين يصبح الحرم الأكاديمي ساحةً لرقابةٍ ناعمة تُمارس باسم “الحياد” و”التوازن”، بينما هي في جوهرها خضوع للسلطة والضغط الإعلامي المنحاز؟
فما الذي يعنيه أن تخضع واحدة من أعرق الجامعات الأوروبية، التي قامت على فكرة تحرر الفكر من كل وصاية، لإملاءات سياسية تُملى عليها من خارج أسوارها؟
وما الذي يبقى من إرث فوكو وبورديو، حين يصبح الحرم الأكاديمي ساحةً لرقابةٍ ناعمة تُمارس باسم “الحياد” و”التوازن”، بينما هي في جوهرها خضوع للسلطة والضغط الإعلامي المنحاز؟
لكن هذه ليست مجرد حادثة عابرة؛ إنها مرآة عميقة لانحراف المعنى الأكاديمي ذاته، حين يتحوّل الفكر إلى وظيفة في جهاز الدولة، وحين يُطلب من الجامعة أن تصمت باسم “الحياد” بينما المطلوب منها أن تكون منسجمة مع الضمير الانساني.
وبهذا الإلغاء تبرز المفارقة الكبرى: “كوليج دو فرانس”، التي أنجبت ميشيل فوكو صاحب “تاريخ الجنون” و”المراقبة والمعاقبة”، تعيد تمثيل ما حذّر منه فوكو بالضبط، أي تسلل السلطة إلى بنية المعرفة، لأنّ السلطة لا تعمل بالعنف فقط، بل بالتصنيف، بالمنع، بالتأطير، وبخلق ما يُقال وما لا يُقال.
في “كوليج دو فرانس” كان ميشال فوكو يعلّم طلابه أنّ السلطة ليست سجناً، بل شبكة دقيقة تتسلّل إلى اللغة والمعرفة والوعي، وأنّ الهيمنة تبدأ حين يُملى على الناس ما يحقّ لهم أن يقولوه وما يجب أن يصمتوا عنه.
ولو عاد فوكو اليوم إلى قاعة مدرجه، لرأى مؤسسته نفسها وقد وقعت في الفخ الذي أمضى عمره في تفكيكه لأنّ قرار الإلغاء ليس حدثاً إدارياً، بل تجسيد لفكره عن انحراف المعرفة حين تُطوّقها السلطة، ولذلك تبدو المفارقة فادحة:
من داخل الجدران التي بشّرت بتحرير الخطاب من رقابة الدولة، تُمارَس اليوم رقابة الدولة باسم الخطاب الأكاديمي، فحين تُمنع ندوة علمية لأنها تتناول فلسطين -وهي من أكثر قضايا القرن وضوحاً أخلاقياً- فإن السلطة لا تُمارس قمعاً مباشراً، بل تُعيد تعريف المسموح معرفياً، تُعيد ترتيب اللغة لتجعل من “الموضوع الفلسطيني” تهديداً أكاديمياً، ومن الباحث “مشتبه به”.
أما بيير بورديو، الذي كان أحد رموز هذا الصرح، فقد كتب عن “العنف الرمزي”، ذلك العنف الذي يُمارس بلا سوط ولا سجن، لكنه يفرض نفسه من خلال ما يُعدّ طبيعياً، وما فعله الوزير الفرنسي هو ممارسة للعنف الرمزي بعينه: فرض تصور سياسي باعتباره “موقفاً إدارياً طبيعياً”، وتحويل الخضوع إلى إجراء بيروقراطي.
وبهذا، تتحول الجامعة إلى أداة لتكريس الهيمنة، لا لتحليلها، ويتحوّل الأكاديمي، الذي كان في يومٍ ما ضميرًا ناقدًا للمجتمع، إلى موظفٍ مطيع يتجنب كل ما يثير “الحساسية السياسية”، وكل ما يقترب من الحقيقة.
إنّ ما حدث لا يمكن فصله عن السياق الأوسع لإعادة ترسيخ الرواية الصهيونية في الفضاء الغربي بعدما اهتزت، وعن تحالف الإعلام والسياسة في شيطنة كل ما هو عربي وفلسطيني، حيث أصبح الدفاع عن فلسطين يُعامل كـ”خطر على التوازن الأكاديمي”، مع العلم أن قضية فلسطين لم تعد مجرد قضية شعبٍ محتلّ، بل أصبحت اختباراً للضمير العالمي، وفي هذه الحالة، اختباراً للضمير الأكاديمي الأوروبي: هل ما زال قادراً على قول الحقيقة حين تمس مصالح السلطة؟
إن الأكاديمية التي تخاف من الحقيقة لم تعد أكاديمية، بل مكتباً للعلاقات العامة باسم السلطة، ويجب أن يكون واضحاً، إنّ الحرية الأكاديمية ليست شعاراً يُرفع في مؤتمرات البروتوكول، بل فعل مقاومةٍ مستمرّ ضد ضغط الأيديولوجيا وضجيج الإعلام.
والمؤتمر الذي أُلغي لم يكن دعوةً إلى الكراهية، بل محاولة لاستعادة الحوار بين أوروبا وضميرها، بين ماضيها الكولونيالي وحاضرها الملتبس تجاه فلسطين.
إلغاء هذا الحوار يعني أن أوروبا لم تتعلم بعد كيف تواجه صورتها في المرآة، وأن التنوير الذي بشّرت به قد انسحب بهدوءٍ مريع إلى حيث الظلال.
لكن الفكر، كما التاريخ، لا يُلغى بقرار وزاري، فالفلسفة التي خرجت من هذه القاعات -من فوكو إلى بورديو- تعرف أن الحرية، وإن أُقصيت من المباني، تعود لتسكن في الوعي، في الكلمة، في الموقف
ربما لا نملك أن نغيّر قرار كليةٍ خضعت لضغطٍ سياسي، لكننا نملك أن نحمي المعنى الذي انطفأ فيها، أن نذكّرها، من خارج أسوارها، أن الحرية ليست ترفاً بل واجباً، وأن الفكر الذي يخاف السلطة يصبح هو نفسه سلطة أسوأ.
واليوم، يُمتحَن هذا الإرث في قاعاتٍ خافتة في باريس، حيث جرى محاولة إسكات كلمةٍ كانت تريد أن تقول شيئاً عن العدالة، لكن الفكر، كما التاريخ، لا يُلغى بقرار وزاري، فالفلسفة التي خرجت من هذه القاعات -من فوكو إلى بورديو- تعرف أن الحرية، وإن أُقصيت من المباني، تعود لتسكن في الوعي، في الكلمة، في الموقف.
ما حدث في باريس ليس مجرد قرارٍ إداريّ بإلغاء مؤتمر أكاديمي، بل علامة على مرضٍ أعمق: عجزُ العقل عن أن يكون حرّاً حين يُختبر على أرض الواقع، ما حدث هو إعلان انتصار الخوف على الفلسفة، والرقابة على الجرأة، والمصلحة على الضمير.
لكنّ التاريخ لا يرحم المؤسسات التي تساوم على وعيها، لأنّ من يخسر حريته الفكرية لن يعوّضها بأي وسامٍ أو تمويلٍ أو سمعةٍ أكاديمية، لأن الحرية ليست ترفاً نمارسه حين يسمح المناخ السياسي، بل عبءُ الوعي نفسه، وحين تختار جامعة بحجم “كوليج دو فرانس”، الصمت خوفاً من كلمة “فلسطين”، فإنها لا تحمي حيادها، بل تخون معنى الحرية الذي صنع اسمها.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية