«نبض الخليج»
هل يمكن للإنسان أن يعيش من دون ضِرس العقل؟ هذا سؤالٌ طرحته على نفسي حين اقترح عليَّ أحد أطباء الأسنان أن أخلعه بعد أن لقيتُ من ألمه الأمرَّين. ولكن كيف للإنسان أن يتخلى – طوعًا أو كرهًا – عن البرهان العَظْمي على بداية بلوغه – بل عن آخر دليل على تمتعه بالعقل؟ ومما زاد في تعلقي بضِرس العقل هذا أن أهل الإنجليزية يسمونه سِنَّ الحكمة، وهؤلاء القوم لا يفرِّقون بين السِّن والضِّرس. أما نحن فقد تفنَّن أجدادُنا في تسمياتها: طَواحِن، ضَواحِك، نَواجِذ، أرْحاء، أُرَّم. كما أن الله تعالى يقول ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾. فكيف إذن أتخلى عما آتاني الله، وأستمع إلى مخلوق يرى أنه لا فائدة من أضراس العقل بدعوى أنها أكثرُ عرضةً للنَّخْر من غيرها، ولا تُسْتخَدم في طحن الطعام، ويصعب تنظيفها، وليس لها أي وظيفة جمالية؟ صحيحٌ أنه من المستحيل أن يرى مخلوقٌ آخِرَ بَيْدقٍ في صفِّ العسكر في فمك ما لم يَحْكِ لك أحدُهم طُرفةً تجعلك تقعُ على قَفاك من الضحك وتفحصُ الأرضَ بقدميك – كما تقول كتبُ تراثنا – لكن هذا لا يُسوِّغ خلعَ الضِّرس الوحيد الذي ارتبط اسمه بالعقل.
هناك سبب آخر – سبب نفسي في الحقيقة – يجعلني أتمسك بأضراس العقل حتى وإن كانت مؤلمة. فقد نبتت لي وأنا في السادسة عشرة من عمري، في حين أنها عمومًا لا تنبت عند العوام – أو الرِّعاع – قبل السابعة عشرة إلا في حالات نادرة. بل في بعض الأحيان – النادرة أيضًا – لا تنمو قبل سن الخامسة والعشرين. إذن، خصَّني خالِقي بضِرس العقل قبل سائر خلقه، وهذا المخلوق الفاني، الذي يسمي نفسه طبيب أسنان، يريدني أن أُفارق هذه الهِبةَ الرَّبَّانيةَ التي رافقتني عددًا من السنين.
لكن عليَّ أن أعترف – وهو شيءٌ لم أفعله من قبل – أن ظروف اكتشافي لأضراس العقل لدي ليست مما يفتخر به شخص متعلم مثلي. إذ لم أسمع بشيءٍ اسمه أضراس العقل إلا بعد أن أخذني والدي – رحمه الله وغفر له – إلى قُرباطي في الماگف (سوق الغنم) شمالَ مدرسة الصناعة بالرقة، فقال لي هذا: “لا تخاف. طالعة لك ضراس العقل.” فرحتُ يومها فرحًا أنساني الألمَ وعارَ أن يُعاينني – أنا التلميذ النجيب في المدرسة – قرباطيٌّ في الماگَف على أطراف المدينة لا طبيبُ أسنانٍ في عيادة محترمة في وسطها.
***
كنت أريد من أبي أن يأخذني إلى طبيب أسنان محترف، لكنه أبى إلا أن يأخذني إلى “مْصَلِّح السنُون” القُرباطي، لأنه برأيه أفهم من كل “أَطِبَّة” الرقة. وكان مستعدًا أن يحلف لي على طاسة ويس. لا تلوموا أبي، فهو قروي بسيط، وكانت له تجارب مُرَّة مع أطباء المدينة هؤلاء – فقد كان إذا ذهب إليهم لعلاج أحد أضراسه، خدَّروا لثته، فلا يعود يعرف أيها يؤلمه، فيخلعون له ضِرسا سليمًا، ويتركون المنخور. وظل هذا دأبهم معه إلى أن صار أدردَ تمامًا. لا أعرف – ربما كانوا يفعلون ذلك عمدًا لعلَّهم يضطرونه إلى تركيب طقم أسنان، ويأخذون منه “هَبْشة مِحِرْزَة.” لكن مُقَسِّمَ الأرزاق أبى إلا أن يلجأ أبي إلى قُرباطي الماگَف، فركَّب له طقم أسنان “من أحلى ما يكون” وبربع السعر الذي يأخذه أصحاب المهنة الرسميون.
وهكذا وجدت نفسي محتارًا: هل أظل متعلِّقًا بضِرس منخور أم أُطاوِع طبيبًا لا يرى جدوى من إصلاحه؟ فاتصلت بابنة أخي المقيمة في دولة خليجية – وهي طبيبة أسنان – فجاء ردها:
– اِخْلَعه!
– الطبيب أم الضِّرس؟
– الضِّرس، يا عمي، الضِّرس!
لم يعجِبني رأيها، فخطر لي أن أتصل بأخيها الأصغر – وهو طبيب أسنان أيضًا – لعلَّ له رأيًا ثانيًا مخالفًا لرأيها. وكنت قبل سنين بعيدة قد استظرفتُ مناكفته لأخته هذه حين كان صغيرًا ويقول: “اللهم، إني أعوذ بك من عِلْمٍ لا ينفع!” وحين يسأله أهله عن ذلك العِلم الذي لا ينفع كان يقول: “طب الأسنان!” كان حينها مغرمًا بعالم الديناصورات، فتراه يبحث في المجلات والإنترنت عن كل شيء يخص هذه المخلوقات المنقرضة. بل كان مُلِمًا بكل النظريات عن انقراضها. فقلت في نفسي لعله ما زال عند رأيه الطفولي البريء القديم. لكن للأسف جاء رده مُعَزِّزًا لرأي أخته:
– اِخْلَعه!
– أَأَخلعه وأبقى بلا ضِرس عقل؟ ماذا لو عرف الجيران أنني خلعته؟
– يا عَمِّي، من قال لك أصلًا إن للضِرس علاقةً بالعقل؟ إنه مجرد زائدة عظمية مُنْتِنَة تتلطَّى خلفَ آخر ضِرسٍ نافعٍ وتنخر فيه نخرًا. بل هناك نسبةٌ ضئيلةٌ من البشرية لا تنمو لها أضراس عقل على الإطلاق.
– أكيد، لأن هذه النسبة بلا عقل…
– بل لهذا اللاتَخَلُّق علاقةٌ بحجمِ الفكِّين وقلة الطعام الصلب و…
قاطعته، ولم أدعه يكمل. ابن أخي هذا كان أعقل حين كان صغيرًا مُغْرَمًا بالديناصورات.
بقيتُ أُكابِر عدةَ أيامٍ، لم تنفع فيها كل مسكنات الألم والعلاجات الأخرى. كان الألم في بعض الأحيان يُعمي بصري، فأنسى أن أنزل من الحافلة في الموقف القريب من بيتنا، بل في بعض الأحيان أركبُ الحافلةَ الخطأ، ولا أدرك خطئي إلا بعد فوات الأوان. ومن نافلة القول إن حياتي انقلبت إلى جحيم مقيم. تذكرتُ قولاً لصَرَّارة قريتنا – أي، القابلة التي تولِّد نساء القرية – “شيلة الضِّرس ولا وجعه!”
أجبرني الألمُ في النهاية على قبول رأي الطبيب، فذهبت إليه ذليلًا وقلت له أن يخلعه. وهكذا صِرْتُ بلا عقلٍ – أعني، بلا ضِرس عقل – وبعد أيام، نسيتُ الألم. لكن ظهرت عليَّ عِلَّةٌ جديدةٌ: عِلَّةُ الأدب، فصرت أكتب القصص، وهذه أولها. وقد أكتب لكم فصولاً أخرى عن مؤامرة أطباء الأسنان على أضراس العقل عندي.
شارك هذا المقال
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية