جدول المحتويات
«نبض الخليج»
تعدّ العلاقات بين سوريا وفرنسا من أعقد علاقات سوريا الدولية، متأثرة بتاريخ الانتداب الفرنسي (1920–1946) ثم تقلبات السياسة في الشرق الأوسط. خلال العقد الأخير اشتدت هذه التعقيدات بفعل الحرب السورية وتداعياتها. وقفت فرنسا منذ 2011 موقفا حازما ضد نظام بشار الأسد، مطالبةً برحيله وداعمةً للمعارضة السورية.
وقطعت باريس علاقاتها الدبلوماسية مع النظام المخلوع في 2012 وفرضت عقوبات مشددة ضمن إطار الاتحاد الأوروبي، بينما تصاعد التنسيق الفرنسي مع حلفاء المعارضة والحلفاء الدوليين في محاولة لإنهاء الصراع سلميًا. في الوقت نفسه، وجدت فرنسا نفسها معنية بأمنها الداخلي أمام تهديد الإرهاب المرتبط بالأزمة السورية، ما دفعها إلى تعاون أمني حذر خلف الكواليس مع مختلف الأطراف. وعلى الصعيد الاقتصادي والثقافي، تأثرت المصالح الفرنسية بشدة؛ فجمّدت التبادلات التجارية وتوقفت المؤسسات الثقافية الفرنسية في سوريا، مع استمرار نشاط الجالية السورية في فرنسا ومنظمات حقوقية فرنسية-سورية في الدفع نحو المساءلة والعدالة. وفي عام 2023، مع اتجاه دول عربية للتطبيع مع دمشق، بقيت فرنسا على موقفها الرافض للتطبيع بدون حل سياسي، بل وجدّد كبار مسؤوليها وصفهم لنظام الأسد بأنه “عدو لشعبه” وضرورة محاكمته.
فيما يلي عرض تحليلي لهذه المسارات المتشابكة خلال السنوات العشر الأخيرة، وفق محاور سياسية وأمنية واقتصادية وحقوقية.
كيف قادت باريس خط العزل الدولي للأسد؟
شهدت السياسة الفرنسية تجاه سوريا تشددًا ملحوظًا مع اندلاع الثورة السورية عام 2011. ففي أغسطس/آب 2011 أعلنت باريس صراحةً أن على رئيس النظام بشار الأسد التنحي عن السلطة. وتوّجت فرنسا هذا الموقف بالاعتراف المبكر بالمعارضة السورية ممثلةً بـ“الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة”؛ إذ كانت أول دولة غربية تمنح الاعتراف الرسمي للائتلاف في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2012.
على أثر ذلك، قطعت فرنسا ما تبقى من الروابط الرسمية مع دمشق: فقد أغلقت السفارة الفرنسية في سوريا أبوابها في مارس/آذار 2012 بأمر من الرئيس نيكولا ساركوزي، احتجاجًا على قمع النظام للانتفاضة. ومنذ ذلك الحين انعدمت العلاقات الدبلوماسية المباشرة، فلم يعد هناك سفير فرنسي لدى دمشق ولا زيارات رسمية متبادلة.
رسمت فرنسا نهجًا دبلوماسيًا يقوم على عزل النظام دوليًا مع السعي لحل سياسي عبر الأمم المتحدة. وانخرطت بقوة في مجموعة أصدقاء الشعب السوري وفي دعم قرارات مجلس الأمن ذات الصلة. على سبيل المثال، دعمت باريس قرار مجلس الأمن 2254 لعام 2015 الذي يحدد خارطة طريق لانتقال سياسي بسوريا.
كما وقفت في المحافل الدولية إلى جانب المطالب بالمحاسبة على الجرائم، وخاصة استخدام الأسلحة الكيميائية. وعندما وقع الهجوم الكيميائي بغوطة دمشق في أغسطس/آب 2013، كادت فرنسا تقدم على عمل عسكري عقابي ضد النظام؛ إذ أبدى الرئيس فرانسوا هولاند استعدادًا لتوجيه ضربات حينها، لكن الخطوة أُجهضت بتراجع الولايات المتحدة في اللحظة الأخيرة. مع ذلك، بقي الملف الكيميائي محورًا للجهود الفرنسية. وقد أطلقت باريس في يناير 2018 مبادرة دولية لمكافحة إفلات مستخدمي الكيماوي من العقاب، عبر تأسيس “الشراكة الدولية ضد الإفلات من العقاب لاستخدام الأسلحة الكيميائية” بمشاركة نحو 40 دولة.
شهدت حقبة الرئيس إيمانويل ماكرون (بدءًا من 2017) تطورًا لافتًا في الخطاب الفرنسي. فعلى الرغم من استمرار إدانة انتهاكات النظام، أعاد ماكرون ترتيب الأولويات الفرنسية في سوريا. حيث صرّح في مقابلة شهيرة بمنتصف 2017 بأنه لا يرى بديلًا شرعيًا واضحًا للأسد في الوقت الراهن، مؤكدًا أن أولوية فرنسا هي محاربة الإرهاب وتحقيق استقرار سوريا بدل التركيز المسبق على تغيير النظام. وقال ماكرون جملته الشهيرة: “بشار ليس عدوًا لفرنسا، بل هو عدو للشعب السوري”، في إشارة إلى أن العداء الفرنسي الأساسي هو مع تنظيمات الإرهاب التي تهدد الفرنسيين مباشرة.
ورغم أن ماكرون شدّد أيضًا أن استخدام السلاح الكيميائي “خط أحمر” سيستجلب ردة فعل فورية، فقد عنى نهجه الجديد ضمنيًا التخلي عن شرط رحيل الأسد كمدخل للعملية السياسية.
هذا التغيير قوبل بانتقادات بعض أطياف المعارضة السورية، لكنه عكس براغماتية فرنسية في ظل تغير المعطيات الميدانية وصعود خطر تنظيم “داعش”. وبالفعل، حين وقع هجوم كيميائي في دوما بالغوطة الشرقية (نيسان/أبريل 2018)، شاركت فرنسا الولايات المتحدة وبريطانيا في ضربات عسكرية مركزة استهدفت منشآت للنظام على صلة بالسلاح الكيميائي، تنفيذًا لتعهد ماكرون بالرد على تجاوز “الخط الأحمر”.
طوال السنوات التالية، تمسكت باريس رسميًا بثلاثية “لا شرعية للأسد – لا إعمار – لا تطبيع” قبل تحقيق انتقال سياسي حقيقي وفق قرارات الأمم المتحدة. جدّدت الحكومة الفرنسية عقوباتها السنوية ضمن إطار الاتحاد الأوروبي على شخصيات وكيانات تابعة للنظام، وامتنعت عن أي تمثيل دبلوماسي في دمشق. حتى أن وزارة الخارجية الفرنسية أكدت مرارًا أن السفارة الفرنسية لن تُعاد فتحها طالما استمر النظام الحالي دون تغيير جوهري.
في المقابل، حافظ نظام الأسد على بعثته الدبلوماسية في باريس وإن كانت معزولة. ولم تمنع القطيعة الرسمية قيام اتصالات خلفية محدودة (سنتطرق لها في القسم الأمني).
كما حرصت فرنسا على الاعتراف بالهيئات المعارضة الممثلة في المحافل الدولية، فاستمرت باستقبال قيادات الائتلاف المعارض ولجنة التفاوض السورية في باريس ودعم عملها السياسي.
البراغماتية الأمنية لفرنسا في سوريا
رغم القطيعة السياسية العلنية بين باريس ودمشق منذ 2012، شهد الملف الأمني قدرًا من البراغماتية خلف الأبواب المغلقة. فتصاعد تهديد “الإرهاب الجهادي” انطلاقًا من الأراضي السورية – لاسيما مع بروز تنظيم داعش ووقوع هجمات دامية في أوروبا أبرزها هجمات باريس 2015 – دفع الأجهزة الفرنسية إلى البحث عن سبل للحصول على المعلومات الاستخباراتية وتنسيق الجهود ضد الإرهاب. وفي هذا السياق، تكشفت تقارير عن قنوات تواصل أمنية سرّية بين فرنسا والنظام السوري.
أولى المؤشرات ظهرت عام 2014–2015. فبعد سيطرة تنظيم داعش على مناطق واسعة في سوريا والعراق وإعلانه “الخلافة”، وتزايد خطر المقاتلين الأوروبيين العائدين، ألمحت باريس إلى الحاجة للمعلومات السورية. بالفعل، خلال زيارة مثيرة للجدل قام بها أربعة برلمانيين فرنسيين إلى دمشق في فبراير/شباط 2015، تبيّن لاحقًا أن أحد مرافقي الوفد كان مبعوثًا أمنيًا فرنسيًا أجرى اجتماعًا سريًا مع رئيس مكتب الأمن الوطني السوري اللواء علي مملوك.
وكشفت صحيفة لوفيغارو حينها أن هذا اللقاء تم بموافقة ضمنية من أجهزة الاستخبارات الفرنسية بهدف “استطلاع إمكانية استئناف التعاون الأمني” في مجال مكافحة الإرهاب رغم القطيعة الدبلوماسية. وقد أكد بشار الأسد نفسه هذه الرواية في مقابلة مع إعلام فرنسي عام 2017 حين قال: “أثناء زيارة وفد من النواب الفرنسيين، كان فيهم عميل (استخباراتي). نعم توجد اتصالات (مع المخابرات الفرنسية)، وإن تظاهرَت باريس بأنها زيارة برلمانية فقط”. ورغم نفي باريس رسميًا لأي تفويض لهذا الشخص، فإن تصريحات الأسد كشفت استمرار رغبة نظامه في استثمار ورقة التعاون الأمني لفك العزلة.
توالت مؤشرات أخرى على تواصل استخباراتي محدود في السنوات اللاحقة. فوسائل إعلام غربية تحدثت عن زيارات سرية متبادلة بين مسؤولي مخابرات غربية (بينها الفرنسية) ونظرائهم السوريين لمناقشة معلومات عن متطرفين. على سبيل المثال، في أوائل 2018 قيل إن رئيس جهاز أمن إيطالي التقى علي مملوك، ما فتح باب التساؤلات حول خطوات أوروبية مشابهة.
وفي الحالة الفرنسية، يُعتقد أن أجهزة الاستخبارات الخارجية (DGSE) والداخلية (DGSI) أبقت خيوطًا خلفية للحصول على قوائم المقاتلين وتبادل المعلومات عبر وسطاء (كالأجهزة اللبنانية أو الروسية). لم تعترف الحكومة الفرنسية علنًا بأي من هذه الاتصالات، حرصًا على اتساق موقفها السياسي الرافض للتعاون مع “نظام إرهابي” كما وصفه مسؤولون فرنسيون مرارًا.
لكن الواقع الأمني فرض برغماتية حذرة: ففرنسا كانت بحاجة لمعلومات عن شبكات داعش وخلاياها، وعن مصير رهائن أو معتقلين فرنسيين في سوريا، إضافة إلى رصد شبكات تهريب المخدرات (الكبتاغون) التي برزت سوريا كمصدر رئيس لها في السنوات الأخيرة. ويُذكر أن فرنسا قادت في 2018 تحركًا دوليًا لتعقب ممولي داعش وتبادل المعلومات حولهم ضمن مجموعة “ممثلي دوفيل”.
من جهة أخرى، انخرطت فرنسا عسكريًا في التحالف الدولي ضد داعش ابتداءً من 2014، عبر عملية “شمال” (Chammal) التي شملت ضربات جوية في العراق وسوريا ونشر قوات خاصة. هذا الدور العسكري تطلّب تنسيقًا ميدانيًا غير مباشر. فبينما رفضت فرنسا التنسيق مع قوات النظام في الحرب على داعش، اعتمدت على تعاون وثيق مع قوات التحالف وشركاء محليين كـ”قوات سوريا الديمقراطية” في شمال شرق سوريا.
كما تواصلت مع العراق وتركيا لتأمين حدود المنطقة. بهذا، ظل التعاون الأمني الفرنسي-السوري غير مباشر: فمثلاً كان خط منع التضارب الجوي يتم عبر روسيا لتجنب أي صدام بين الطائرات الفرنسية والروسية أو السورية في الأجواء السورية.
ملف المقاتلين الأجانب كان محورًا حساسًا. فمع انهيار داعش عام 2019 واعتقال مئات المتطرفين الأوروبيين (بينهم فرنسيون) لدى قوات سوريا الديمقراطية، وجدت باريس نفسها أمام معضلة قانونية وأمنية. امتنعت فرنسا عن استعادة معظم مواطنيها المحتجزين في مخيمات بشمال شرق سوريا، مفضلةً أن يُحاكَموا محليًا أو في العراق. لكنها في الوقت نفسه خشيت فرار هؤلاء وتهديدهم للأمن الفرنسي.
هنا ظهر تنسيق غير علني مع سلطات الأمر الواقع الكردية، ومع دول الجوار لضبط الحدود. أما النظام فبقي خارج هذه المعادلة لعدم سيطرته على تلك المناطق، وإن كان قد حاول مقايضة الأوروبيين: معلومات أمنية مقابل التطبيع. بيد أن الموقف الفرنسي العام كان رفض تقديم أي تنازل سياسي في سبيل تعاون أمني.
على صعيد مكافحة الإرهاب داخليًا، عززت فرنسا إجراءاتها الاستخباراتية مستفيدةً من البيانات القادمة من مسارح الصراع.
ويُعتقد أن أجهزة الاستخبارات الفرنسية استفادت من انشقاق ضباط سوريين وفرارهم إلى أوروبا، حيث قدّم بعضهم معلومات مهمة عن هيكليات الجماعات المتطرفة وحتى عن خفايا النظام نفسه. ومن الأمثلة أن باريس استقبلت منذ 2012 شخصيات أمنية منشقة (كمدير سابق للمخابرات كان مقربًا من النظام) ووضعتها تحت حماية مشددة، بغرض الاستفادة من معلوماتها.
في المحصلة، التواصل الأمني الفرنسي-السوري ظل محدودا ومتناقضا: فمن جهة تؤكد فرنسا علنا قطع كل تعاون مع نظام تعتبره راعيًا للإرهاب، ومن جهة أخرى تسمح قسرًا ببعض الاتصالات الاستخباراتية لضمان حماية أمنها القومي. ويصف دبلوماسي غربي هذا الواقع بقوله: “نتعامل مع النظام السوري كطبيب يتعامل مع مريض معدٍ: نقاربه بحذر عبر قفازات واقية، ونضطر أحيانًا لأخذ عينات للفحص، لكن نبقيه معزولًا”.
من مئات الملايين إلى 22 مليون دولار.. انهيار التجارة الفرنسية مع سوريا
تاريخيًا، تمتعت سوريا بعلاقات تجارية واستثمارية مهمة مع فرنسا (التي كانت من كبار الشركاء الأوروبيين لسوريا قبل 2011). إلا أن الحرب والعقوبات الدولية أدت إلى شبه انهيار في الروابط الاقتصادية بين البلدين. فمنذ العام 2011 فرض الاتحاد الأوروبي – بضغط فرنسي-بريطاني – حزمًا متتالية من العقوبات الاقتصادية على النظام السوري، شملت تجميد الأصول المالية وحظر تصدير الأسلحة والتقنيات ذات الاستخدام المزدوج، وكذلك حظر استيراد النفط السوري الذي كان معظمه يُصدّر لأوروبا. هذه العقوبات التي التزمت بها فرنسا بالكامل أدت إلى تراجع حاد في التبادل التجاري.
وتشير بيانات الأمم المتحدة إلى أن صادرات فرنسا إلى سوريا هوت من مئات ملايين الدولارات قبل 2011 إلى نحو 22 مليون دولار فقط في عام 2023 – وهو رقم متدنٍ جدًا يعكس اقتصار التبادل على المواد الإنسانية أو بعض السلع المسموح بها.
كما تقلصت واردات فرنسا من سوريا إلى أدنى مستوياتها (كانت تستورد قبل الحرب منتجات زراعية ونفطية). ويُقدّر الاتحاد الأوروبي أن إجمالي تجارة السلع بين الاتحاد وسوريا انخفض إلى 393 مليون يورو فقط في 2020، بعدما كان بعشرات أضعاف هذا الرقم قبل 2011.
هذا التجميد الاقتصادي لم يكن مجرد أثر جانبي للعقوبات، بل سياسة متعمدة للضغط على دمشق. إذ تبنّت فرنسا موقفًا صارمًا مفاده “لا مساهمة في إعادة إعمار سوريا من دون انتقال سياسي”.
وعبّر عن ذلك بوضوح اجتماع ضم فرنسا ودولًا غربية وعربية على هامش الأمم المتحدة في سبتمبر 2017، حيث شدّد الجميع أنه لن يتم الإنفاق على إعادة البناء طالما لم تبدأ مرحلة انتقالية حقيقية في سوريا. وقال وزير الخارجية البريطاني آنذاك (بحضور المندوب الفرنسي) صراحةً إن الغرب “لن يدفع لإعمار بيت الأسد” بينما يستمر في السلطة.
هذا الموقف تبنته أيضًا الإدارة الفرنسية المتعاقبة (هولاند وماكرون)، حيث رفضت عروضًا ضمنية من موسكو ودمشق للمشاركة في عقود إعادة الإعمار مقابل التطبيع. ونتيجة ذلك، غابت الشركات الفرنسية تمامًا عن المشاريع التي أُطلقت داخل سوريا في المناطق الخاضعة للنظام في السنوات الأخيرة، والتي استفاد منها بشكل أساسي مستثمرون من روسيا وإيران والصين.
إلى جانب ذلك، انسحبت الشركات الفرنسية التي كانت عاملة في سوريا عند بدء الأزمة. فعلى سبيل المثال، شركة توتال (Total) النفطية الفرنسية العملاقة أوقفت أنشطتها بحقول النفط السورية امتثالًا للعقوبات الأوروبية. وشركة لافارج للإسمنت، التي كانت تشغّل مصنعًا كبيرًا في شمال سوريا، اضطرت للانسحاب في 2014 تحت ضغط تدهور الوضع الأمني، لكنها لاحقًا وقعت في فضيحة مدوّية: حيث كشفت تحقيقات أنها دفعت أموالًا لجماعات مسلحة (بما فيها داعش) لضمان استمرار عمل مصنعها خلال 2013–2014. هذا الأمر أدى إلى ملاحقات قضائية للشركة في فرنسا بتهمة تمويل الإرهاب والتواطؤ في جرائم حرب – وهي سابقة عالمية سنأتي عليها في القسم الحقوقي.
في ظل هذا التراجع، اقتصر الحضور الفرنسي الاقتصادي في الملف السوري على المساعدات الإنسانية. فقد قدّمت فرنسا مبالغ كبيرة لدعم اللاجئين السوريين في دول الجوار ولمشاريع الإغاثة داخل سوريا عبر المنظمات الدولية.
ووفق الخارجية الفرنسية، بلغت مساهماتها الإنسانية لسوريا أكثر من مليار يورو للأعوام 2019–2021. وتم توجيه هذه الأموال إلى توفير الغذاء والمياه والرعاية الطبية في المناطق المنكوبة، مع الحرص على إيصالها عبر وكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية بعيدًا عن قنوات حكومة النظام. وشاركت فرنسا في رعاية قرارات مجلس الأمن الخاصة بالمساعدات عبر الحدود التي تضمن تدفق الإغاثة إلى مناطق خارج سيطرة النظام دون إذنه.
على صعيد إعادة الإعمار تحديدًا، استمرت باريس في إعلان أن لا تمويل دوليًا (سواء عبر المؤسسات المالية أو مانحين) سيُقدَّم لسوريا “في ظل غياب تسوية سياسية شاملة”.
وحتى بعد الزلزال المدمّر الذي ضرب شمال سوريا في فبراير/شباط 2023، والذي دفع بعض الدول لإعادة تواصل محدود مع دمشق بحجة إنسانية، بقيت فرنسا حذرة. فقد أرسلت مساعدات عبر تركيا لمناطق الشمال الغربي الخارجة عن سيطرة النظام، وقدمت دعمًا عبر وكالات الأمم المتحدة للمناطق المنكوبة في جنوب تركيا وفي سوريا، لكنها لم تفك تجميد علاقاتها الاقتصادية مع حكومة النظام.
وعندما بدأت بعض الدول العربية تتحدث عن ضرورة بدء الإعمار كحافز لدمشق، قوبل ذلك بتحذير فرنسي-أوروبي مشترك من كسر التضامن الغربي بملف العقوبات. وصرّحت الخارجية الفرنسية أن العقوبات “لن تُرفع” طالما لم يلتزم النظام بمسار سياسي حقيقي.
في المحصلة، لعبت العقوبات والعزلة الاقتصادية دورًا في إنهاك النظام السوري ماليًا على المدى الطويل، لكنها أيضًا زادت من اعتماد دمشق على بدائل كطهران وموسكو. ورغم بعض الأصوات التي ظهرت في فرنسا (خاصة من سياسيين معارضين) تطالب بإعادة النظر في جدوى العقوبات التي “لم تسقط النظام بل أفقرت الشعب”، إلا أن الموقف الرسمي الفرنسي لم يتغير.
وتعتبر باريس أنها باتخاذ هذا النهج الأخلاقي تمنع منح الشرعية للاستثمارات التي قد تعزز سلطة النظام دون مقابل سياسي.
العدالة الفرنسية تطارد جلادي الأسد
على صعيد العدالة ومحاسبة المتورطين بالانتهاكات، اتخذت فرنسا خلال السنوات الأخيرة دورًا بارزًا في ملاحقة المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة في سوريا عبر الآليات القضائية الدولية والوطنية.
فعلى المستوى الدولي، دعمت باريس بقوة إنشاء آلية المحاسبة التابعة للأمم المتحدة (IIIM) لجمع الأدلة على جرائم الحرب السورية.
وعلى المستوى الوطني الفرنسي، سمحت قوانين الاختصاص القضائي العالمي والمبدأ الجنائي الفرنسي بمحاكمة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية حتى لو ارتكبت خارج فرنسا وضد أجانب، شرط وجود صلة بفرنسا (مثل حمل الضحايا للجنسية الفرنسية). هذا ما استثمرته منظمات حقوقية فرنسية-سورية ونشطاء للحصول على سوابق قضائية تاريخية ضد أركان النظام السوري.
أولى هذه الخطوات كانت في عام 2016، حين تقدم عدد من الناجين السوريين ومنظمات حقوقية (الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان FIDH، والرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان LDH، والمركز السوري للإعلام وحرية التعبير SCM) بدعاوى أمام القضاء الفرنسي مدعمة بالملفات المسربة من المصور العسكري المنشق “قيصر” وصور التعذيب. كما لعبت الجالية السورية في فرنسا دورًا مهمًا هنا، خاصة ذوو الجنسيات المزدوجة الذين فقدوا أقاربهم تحت التعذيب.
ومن أبرز القضايا قضية عائلة دبّاغ: فقد اختفى مازن دباغ وابنه باتريك (وهما سوريان يحملان الجنسية الفرنسية) بعد اعتقالهما في دمشق عام 2013.
قدم شقيق مازن (وهو مقيم في فرنسا) شكوى لدى القضاء الفرنسي عام 2016 بدعم من منظمات حقوقية. وبعد تحقيقات مطولة جمعت فيها أدلة وشهادات، أصدر قضاة فرنسيون في أكتوبر 2018 مذكرات توقيف دولية بحق ثلاثة من كبار مسؤولي المخابرات السورية: علي مملوك (مدير المخابرات العامة)، جميل حسن (مدير المخابرات الجوية آنذاك) وعبد السلام محمود (مسؤول في فرع التحقيق بمطار المزة).
ووجّهت إليهم تهم التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية في قضية اختفاء وتعذيب وقتل دباغ الأب وابنه. اعتُبر ذلك نصرًا للعدالة الدولية، وأشادت مازن درويش (رئيس المركز السوري للإعلام وحرية التعبير) بهذا القرار قائلًا إنه “يعيد الأمل لعائلات عشرات آلاف السوريين الذين اختفى أحباؤهم تحت الأرض”.
تطورت هذه الجهود لتبلغ ذروتها في محكمة الجنايات في باريس عام 2023-2024. فقد جرت “محاكمة غيابية” تاريخية للمسؤولين الأمنيين الثلاثة المذكورين، بوصفها أول محاكمة في فرنسا لجرائم يرتكبها النظام السوري. وعلى مدى جلسات في مايو/أيار 2023 استمعت المحكمة لشهادات ناجين وخبراء. وفي النهاية، أصدرت حكمها في 24 مايو 2024 بإدانة علي مملوك وجميل حسن وعبدالسلام محمود بجرائم ضد الإنسانية وحكمت عليهم بالسجن المؤبد غيابيًا.
وجاء في حيثيات الحكم تأكيد مسؤوليتهم عن تعذيب وقتل باتريك ومازن دباغ داخل مركز احتجاز المزة التابع للمخابرات الجوية.
واعتُبر هذا الحكم “رسالة قوية بأن يد العدالة ستطال حتى كبار مجرمي الحرب”، رغم إدراك الجميع أن المدانين ما زالوا في سوريا بعيدين عن متناول الشرطة الدولية. لكن الإصرار الفرنسي على ملاحقة الجناة قضائيًا أظهر التزام باريس بمبدأ عدم الإفلات من العقاب.
إلى جانب هذه القضية المفصلية، كان القضاء الفرنسي يتحرك في مسارات أخرى متعلقة بسوريا:
- قضية شركة لافارج (Lafarge): واجهت الشركة الفرنسية العملاقة اتهامات تمويل تنظيمات إرهابية (داعش) خلال فترة تشغيل مصنعها بسوريا.
ففي تحقيق رسمي، أقرّ ممثلو الشركة بأنها دفعت أموالًا عبر وسطاء لجماعات مسلحة لضمان استمرار عمل مصنع الاسمنت بين 2012 و2014.
وقد وجّه القضاء الفرنسي اتهامات لعدد من مديري الشركة السابقين تشمل “تعريض حياة موظفيها للخطر” و“تمويل تنظيم إرهابي”.
وفي تطور لافت 2021، أعادت محكمة فرنسية تفعيل تهمة التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية ضد لافارج، باعتبار أن تمويل داعش ساعدها في ارتكاب فظائع ضد المدنيين (بما في ذلك إبادة الإيزيديين).
هذه المحاسبة لشركة متعددة الجنسيات على أفعالها في منطقة حرب تعتبر سابقة نوعية تشير إلى نهج فرنسا الشامل في مكافحة الإفلات من العقاب سواء للدولة أو القطاع الخاص حين يتعلق الأمر بسوريا.
- دعاوى ضد مسؤولين آخرين: تعمل منظمات كـ“المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان” (ECCHR) مع شركاء فرنسيين على رفع دعاوى تتعلق بالهجمات بالأسلحة الكيميائية في سوريا، حيث يحمل بعض الضحايا الجنسية الفرنسية أو صلة بفرنسا.
كما تم تقديم ملفات حول مجزرة حي التضامن 2013 وغيرها، ويجري تحقيق مبدئي فيها لدى وحدة جرائم الحرب بالنيابة العامة في باريس. وتدعم الحكومة الفرنسية هذه الجهود عبر تخصيص وحدة تحقيق خاصة ضمن جهاز الدرك (OCLCH) للتحقيق في الجرائم ضد الإنسانية، ومنها الجرائم في سوريا.
وقد صرّح مسؤول فرنسي أن بلاده “تدعم أنشطة توثيق الأدلة التي تقوم بها منظمات سورية على الأرض”، وتستفيد من تعاونها لتجهيز ملفات قضائية متماسكة.
على صعيد ملاحقة رموز النظام وأموالهم، برزت قضية رفعت الأسد (عمّ الرئيس المخلوع) الذي عاش في المنفى بفرنسا عقودًا. فقد خضع لمحاكمة في باريس بتهمة غسل الأموال واختلاس أموال عامة سورية، وصدر حكم في 2021 بسجنه (لم ينفذ بسبب سنّه) ومصادرة ممتلكاته في فرنسا.
ورغم أن جرائمه غير مرتبطة مباشرة بالحرب الأخيرة، فإن محاسبته عكست استمرار النهج الفرنسي في عدم التسامح مع الفساد وانتهاك حقوق السوريين. كما واصلت فرنسا تجميد أصول وحظر سفر عشرات الشخصيات من النظام ورجال الأعمال الداعمين له كجزء من العقوبات الأوروبية.
خلاصة القول، تبنت فرنسا مقاربة حقوقية وقضائية صارمة تجاه الملف السوري، مكملةً سياستها الدبلوماسية. فرسالة باريس واضحة: إن العدالة لا تسقط بالتقادم، ومهما طال الزمن ستسعى لمحاكمة المتورطين في التعذيب والهجمات ضد المدنيين.
وقد صرّح وزير العدل الفرنسي سابقًا بأن الجرائم المرتكبة في سوريا “هي وصمة في الضمير الإنساني، وفرنسا لن تدّخر جهدًا في ملاحقة مرتكبيها”.
هذا الالتزام الأخلاقي أكسب فرنسا احترامًا لدى أوساط واسعة من المعارضة والمجتمع المدني السوري، حتى وإن عجز عن تغيير الواقع السياسي على الأرض بشكل فوري.
موقف فرنسا من التطبيع العربي مع النظام
مثّل عاما 2023 و2024 منعطفًا إقليميًا مع عودة بعض الدول العربية للتطبيع مع دمشق بعد قطيعة دامت منذ 2012. فقد أعادت الإمارات والبحرين فتح سفارتيهما منذ 2018، ثم انخرطت الأردن ومصر في حوارات أمنية وسياسية مع دمشق.
وتُوّج هذا المسار بدعوة الأسد إلى القمة العربية في جدة (مايو/أيار 2023) واستعادة سوريا مقعدها في الجامعة العربية بعد تجميد دام 12 عامًا.
أمام هذا الواقع الجديد، كان على باريس أن تحدد موقفها: هل تلين سياستها تماشيًا مع جيران سوريا العرب، أم تستمر على نهجها المبدئي؟ جاء الجواب الفرنسي واضحًا وحازمًا عبر عدة تصريحات رفيعة المستوى: فرنسا لن تغيّر موقفها من النظام السوري رغم خطوات التطبيع العربية.
عشية قمة جدة العربية، أعطت وزيرة الخارجية كاترين كولونا مقابلة تلفزيونية أكدت فيها أن بلادها ترى أن “مكان بشار الأسد الحقيقي هو على طاولة محكمة دولية، لا على منصة الشرف في الاجتماعات”.
وشددت أن فرنسا تدعم محاكمة الأسد عن جرائمه ولن تطبع معه لمجرد أن غيرها فعل ذلك. كما ذكّرت بتاريخ النظام باستخدام السلاح الكيميائي وقتل مئات الآلاف من المدنيين. هذا التصريح أثار رد فعل غاضب من دمشق التي اعتبرته “انفصالًا فرنسيًا عن الواقع”، لكن باريس لم تكترث. وفي اليوم التالي لانعقاد قمة جدة، أصدرت الخارجية الفرنسية بيانًا مقتضبًا أكدت فيه أن موقفها من النظام “لن يتغير” بدون تغيير سلوكه.
حتى داخل الاتحاد الأوروبي، قادت فرنسا إلى جانب ألمانيا خطًا متماسكًا مع الموقف الأميركي رافضًا لأي رفع للعقوبات أو إعادة علاقات مع دمشق من دون مقابل سياسي.
ورغم وجود دول أوروبية قليلة أبدت ليونة (مثل إيطاليا والمجر وقبرص واليونان التي أعادت تمثيلًا دبلوماسيًا منخفضًا في دمشق)، بقي الموقف الغالب في بروكسل متوافقا مع الرؤية الفرنسية.
وفي نقاشات بروكسل حول تجديد العقوبات على سوريا في مطلع 2023، دفعت فرنسا باتجاه تمديدها لعام إضافي مشددةً على ارتباط أي تعديل بتقدم فعلي في العملية التفاوضية وفق قرار 2254.
كذلك أطلقت بالتنسيق مع واشنطن تحذيرات للدول العربية بألّا يخالفوا نظام العقوبات القائم. وعلى سبيل المثال، عندما ضغطت الأردن لإعفاء بعض مشروعات الكهرباء الإقليمية عبر سوريا من العقوبات لتخفيف أزمة الطاقة لديه، تفهمت فرنسا الدوافع الإنسانية لكنها حرصت على أن تكون أي استثناءات “ضيقة ومشروطة” كي لا يستفيد النظام اقتصاديًا دون إصلاحات.
بالطبع، فرنسا لا تملك منع التقارب العربي-السوري، لكنها سعت لاستغلال عودة العرب للتواصل مع دمشق بالحث على مطالب محددة.
فقد دعت باريس الدول العربية التي تتواصل مع الأسد إلى التركيز على قضايا مثل مصير المعتقلين وعودة اللاجئين ووقف تهريب المخدرات (الكبتاغون) كاختبار لجدية النظام في تغيير سلوكه.
وفي هذا السياق، رحبت فرنسا بحذر بالمبادرة الأردنية (نيسان/أبريل 2023) التي وضعت “خريطة طريق عربية” تشمل التزامات على النظام مقابل إعادة اندماجه إقليميًا، لكنها شددت أنه يجب “ترجمة هذه الالتزامات إلى أفعال قبل أي تطبيع”.
وفي يونيو 2023، خلال اجتماع للتحالف الدولي ضد داعش في الرياض حضره ممثلون عن الدول العربية، أعاد الوفد الفرنسي التأكيد أن موقف فرنسا ثابت: لا تطبيع ولا إعمار من دون انتقال سياسي، ولا رفع للعقوبات دون خطوات حقيقية من دمشق. ونبّهت فرنسا إلى أنها “لن تكون طرفًا في تمويل عودة الأسد إلى الساحة الدولية بينما مأساة الشعب السوري مستمرة”.
على صعيد آخر، استمرت باريس بدعم المعارضة السورية في الخارج رغم انحسار زخمها. فقد استقبل المسؤولون الفرنسيون قيادة “هيئة التفاوض السورية” (الممثلة للمعارضة) بعد قمة جدة لطمأنتها أن الدعم الفرنسي مستمر. وأكدت كولونا لرئيس الهيئة أن فرنسا “لن تتخلى عن مطالب العدالة والحرية للسوريين مهما تبدلت الظروف”.
كذلك شاركت فرنسا في اجتماعات ما سمي “المجموعة المصغرة” (وتضم الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وغيرها) والتي عقدت اجتماعًا موازيًا للتحرك العربي، خرج بتأكيد التمسك بالقرارات الدولية ورفض التطبيع المجاني. هذا أوحى ببوادر تباين دولي-عربي حول سوريا، لكن فرنسا سعت لردم الهوة عبر التشاور الوثيق مع قطر والأردن ومصر لضمان أن خطواتهم تجاه دمشق مشروطة وليست شيكًا على بياض.
يمكن القول إن فرنسا وجدت نفسها أقلية صامدة في موقفها مقارنة بالتحول العربي، لكنها راهنت على ذاكرة النظام القصيرة في الإيفاء بوعوده.
فهي تعتقد أن الأسد لن يقدم تنازلات حقيقية (في ملف المعتقلين أو الحد من النفوذ الإيراني مثلاً) رغم انفتاح العرب عليه، مما سيؤكد صحة الموقف الفرنسي بمرور الوقت. وبالفعل، بدأ بعض الشك يسود دولًا عربية حول جدوى التطبيع في ظل استمرار تهريب الكبتاغون وتصاعد القصف والتجاوزات من جانب النظام.
مثل هذه المعطيات تعزز القناعة الفرنسية بأنها كانت على صواب بعدم الاندفاع. وكما قال مسؤول فرنسي: “نفضّل أن نقف مع مبادئنا على أن نشارك في وهم التطبيع”.
في الختام، تظهر حصيلة العقد الأخير أن العلاقات السورية-الفرنسية بقيت رهينة الصراع السوري. اتخذت فرنسا موقفًا أخلاقيًا صارمًا تجاه النظام السوري سياسياً وقانونياً، وحاولت استخدام نفوذها الأوروبي لتحقيق انتقال ديمقراطي يحفظ كرامة السوريين.
وبينما لم تحقق هذه السياسة هدفها الأكبر (رحيل النظام أو تغيير سلوكه)، إلا أنها نجحت في عزل النظام دوليًا وإبقائه تحت ضغط مستمر سياسيًا واقتصاديًا.
في الوقت نفسه، أدارت فرنسا بحذر خيوط التواصل الأمني لضمان حماية أمنها، وأبقت شعرة معاوية الثقافية عبر دعم السوريين خارج بلادهم.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية