جدول المحتويات
«نبض الخليج»
وقفتُ في الآونة الأخيرة على قصائد لبعض الشعراء السوريين، وُظفت في متونها كلمات ومقولات عاميّة، مع الحفاظ على وزن القصيدة وتركيبها المتعاضد. بحثت في المراجع عن أساس هذا الضرب من الشعر فلم أجد له ذكرا. من حيث الأسلوب، يمكن أن يندرج تحت مفهوم “الالتفات”.
فالالتفات من الأساليب التي وقف عليها النقد قديما وحديثا. وتأسس على أنه “ينحصر في التحول من معنى إلى آخر”، هذه القاعدة التي وضعها الأصمعي، وتبعه فيها ابن المعتز والحاتمي وحازم القرطاجني وقدامة بن جعفر وصولا إلى شوقي ضيف، لم تتوقف مراجعتها. ويعتبر الزمخشري أول من أسس لتلك الظاهرة نظريا، وهو أول من ربطها بالمتلقي “فالكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب يوقظ الاصغاء”.
وتباينت دلالة قيمة “الالتفات” عند القدماء، فهو ككل المسائل الكلامية حاز على اهتمامهم فشرحوه وصنفوه ووثقوا شواهدهم على ما ذهبوا إليه من اختلافات مهما كانت بسيطة. إلا أن الشعر لم يتوقف عند الحد الذي وضعه القدماء، وكذلك النقد المرافق له، فالتطور الذي شهدته الدراسات النقدية واللغوية في العصر الحديث ذهب إلى أن “الالتفات” ظاهرة أسلوبية من شأنها أن تثري الإبداع. والظاهرة الأسلوبية كما يراها الدكتور صلاح فضل تعطي دلالاتها الإيحائية عندما تتولد من نموذج لغوي ينكسر بعنصر غير متوقع. وبذلك تصبح كل إضافة تحافظ على وزن القصيدة وتركيبها المتعاضد هي “التفات”، وتوظيف المقولات العاميّة، أو مفردات من اللغة العاميّة هو بمثابة تلوين بمشتقات اللون الأساسي، من حيث إن اللهجات العربية مشتقة من اللغة العربية:
كجملةٍ بعد نَقْطٍ قالني التعبُ وما محلّيَ إلّا النصْبُ والنّصَبُ
إذا “تضاضا” بما في العين من بصرٍ خلت الدليل ينادي “بيّنت حلبُ”
أتذرفين؟
أما تنسين؟
لا تدعي حزن الفراتِ وحيداً حينما ذهبوا
“شوفي العجاجَ” و”شوفينا” إذا اقتربت منازلُ الريح، ترعى بينها السُّحبُ
“لا عاش عمركِ” إن حسّبْتِنا انكسرت منّا “العواميد” أو أُرخِي لنا سببُ[1].
هذا الدخول العفوي للمفردات العامية في متن النص يحيلنا إلى تأثير اللاوعي، والخروج على التكلف في صناعة القصيدة. وبنفس الوقت يؤكد ما ذهب إليه الدكتور صلاح فضل من أن النموذج اللغوي ينكسر بعنصر غير متوقع. لقد بدت هذه المفردات العاميّة وكأنها عناصر ارتباط في بنية القصيدة أدت إلى تفاعل عناصر النص لتشكل لوحة متكاملة:
على عطشٍ تحرّينا غيابَكْ وشرّعنا “توالي الليل” بابَكْ
حملنا النجم فانوسًا قديمًا “يهلّي” فيك يهتف: “مرحبا بَك”
ولكنْ “جيت” في الأحلام ومضًا كأن مقامنا فيها أرابك[2]
للوهلة الأولى تبدو هذه الأبيات وكأنها تقريرية ومباشرة، وهي في الحقيقة ليست كذلك، فصورة الفقد في صدر البيت الأول وتأثيرها التأويلي المضاعف، يقابلها قوة بلاغية في عجز البيت، وكلاهما يحيلنا إلى مضمرات النص، وأبعادها الدلالية. وبذلك تتكامل الصورة، وتأخذ بيد البيت التالي، وهكذا إلى أن تكتمل وحدة القصيدة.
نَحْكي عَنِ المِلحِ؟ مِلْحُ الرَّبْعِ ما (غَزَّرْ)
وبَاهِتُ العيشِ يَروي صُبْحَنا الأغْبَرْ
لَولا خِيانَتُنا للملحِ ذاتَ هَوىً
لَكانَ ملحُ القُرَى أَغْلَى مِنَ السُّكَرْ
شِخْنَا فَمَالَتْ بِنَا أحمالُ نَاقَتِنا
(نَنْخِي) القَريبينَ ما قَالوا لَنَا (أَبْشِرْ)
تَكاثفَ البحرُ في أجفانِ عَبْرَتِنَا
وعينُنا الغيمُ ما إنْ (سَلْهَمَتْ) تَمْطرْ[3]
هذا الإثراء الدلالي القائم على استحضار مفهوم الشيمة والمروءة والنخوة ومداليله الواقعية، يرقى لأن يكون غرضا من أغراض الشعرية العربية، واستحضاره من خلال مفردات اللهجة العاميّة، والمتداولة في مناطق معينة، جاء نتيجة تأثير تلك المفردات على المتلقي في تلك المناطق، من حيث أن ذائقة المتلقي تستوعب هذا النمط الأسلوبي، وتدرك مداليله إدراكا واعيا:
هل أنت أوَّلُهم أمْ (أوَّلُ وْتالي)
لولاكَ هذي الحَيا ملعونةُ الوالي
أنحازُ لاسمكَ في أقصى سَحائبِهِ
إذ كان يُروَى فَيَروِي ألفَ خَيَّالِ
للدَّهرِ غربالُهُ مذ كنتَ من ذَهَبٍ
يا حِنطةً لم تُهَنْ يوماً بِغربالِ
يا بن البلادِ التي في كلِّ قافلةٍ
يسوقُ جَمَّالُها حزناً لجَمَّالِ[4]
نتبين من هذه الشواهد أن القضية ليست في استعمال الكلمات العامية، فالسياق الذي توضع فيه الكلمات هو الذي يفضي إلى الإثراء الدلالي، وخاصة باستعمال الكلمات المركبة التي تحمل وظيفتها في ذاتها: “لاعاش عمرك، مِلْحُ الرَّبْعِ ما (غَزَّر)، (أوَّلُ وْتالي)”. إضافة للمفردات التي تتصل بغيرها فيولد العنصر الذي يكسر المتوقع. وثمة شعراء يجنحون إلى استعمال الإيحاء الدلالي كتقنية تجنبهم التصريح والمباشرة، من تلك التقنيات توظيف آيات من القرآن الكريم، لا تتجاوز الآية الواحدة، لتفضي إلى معنى مفتوح على الاحتمالات في بناء القصيدة الكلي.
نـامـي سـألـتُكِ أن تـنـامي
فـالـيـومَ خـاتـمـةُ الـخـتامِ
حُـطِـمَتْ تـوابـيتُ الأســى
وتـنـفـسَتْ رئـــةُ الـرُّخـامِ
واصَّـــاعــدتْ أرواحُــهــم
شـجراً عـلى قـوسِ الغمامِ
هُــــزّي إلــيــكِ بِـجِـذعِـهـا
ودَعِـــي الـبـقـيَّةَ لـلـغـلامِ
يـــا شـــامُ عُــدنـا بـعـدمـا
يـئـسَ الـهـلالُ مـن الـتَّمَامِ
وتَــقَــوَّســتْ أضـــلاعُـــه
بــيـن الـمـنافي والـخـيامِ
والـــوغــدُ أيـــقــنَ أنّـــــهُ
بـــــاقٍ كــآلــهـةِ الــسَّــقـامِ[5]
إذ تتجاوز هذه الجملة “هزي إليك بجذعها” معناها القرآني، وتصبح حاملا موضوعيا للثورة السورية، والتضحيات التي قدمتها. ومن خلال المنافذ الإيقاعية المستترة يمكن ملاحظة توالد المعاني، ودلالاتها: يـــا شـــامُ عُــدنـا بـعـدمـا، يـئـسَ الـهـلالُ مـن الـتَّمَامِ/ وتَــقَــوَّســتْ أضـــلاعُـــه.. بــيـن الـمـنافي والـخـيامِ/. فالسياق هو الخيط الجيني الذي تنتظم فيه الكلمات ومعانيها. فتلازم المعطى اللغوي والمعطى الفني هو الذي يرفع الكلام إلى مستوى الشعر. وتخرج تركيبة النص من الإشارة إلى الذات المنشئة، إلى الموضوع.
في الضفة الأخرى من ثراء البلاغة، هناك ثمة شعر مثقل بغربة السوريين، إذ أن ما يتخفى في نفس الشاعر هو أولى ببيانه مما يحيط به:
عِدِينِي بِعَيْنَيْكِ يَوماً لِأَحْلُمَ بِالطَّيِّبَات.
عِدِينِي، فَعُصْفُورُ وَعْدِكِ أَطْيَبُ مِنْ عَصَافِيرَ فِي اليَدِ بِالعَشَرات.
تَقَاسَمَني الرَّاحِلُونَ وَالْغَائِـبـُونَ وَالْمُبْعَدُونَ..
وَالّذِينَ قَضَوْا دُونَمَا كَفَنٍ! سُلِبَتْ مِنْهُمُ السّيِّئاتُ والحَسَناتُ وَالذِّكْرَيَات.
وَلَمْ يَبْقَ مِنِّيَ فِيَّ/ سِوَى وَطَنٍ بَعْثَرَتْهُ الْمَشَارِيعُ وَالْأُمْنِيَات.
عِدِينِي أَجِدْ فِيكِ أَشْلَاءَ مِنْ حُلُمِي. وَلَعَلَّيْ سَأَرْضَى وَيُرْضِيكِ بَعْضُ الْفُتَات.
وَعَدَتْنِيَ أَلَّا تَمُوتَ وَمَاتَتْ، فَصِرْتُ عَجِيّاً، وَظَلَّتْ مِنَ الطَّيِّبَات.
كَمْ دَعَتْ أنْ تَمُوتَ، قَائِلةً: ياعَجِيُّ. وَمَاتَتْ، وَصِرْتُ المَوات!
وَكانَتْ تَمُوتُ في آخر أحلامها/ ثمّ تَصْحُو لِتَسْأَلَ:
هَلْ عَادَ هَذا البَعِيدُ حَمِيدُ؟
فَخُذْ من حَياتِي حَياةً، وَخُذْ مِنْ حَنِينِي حَنِيناً وَهَات[6]
الأم كلمة، والحب شرحها المستفيض. لذلك تبدو العلاقة بين الصور البيانية ومدلولها النفسي واضحة ولا تقف عند الألفاظ وحسب، بل تتعداها إلى الإيحاء، ومخاطبة الوجدان. فوظيفة الشعر كما يقول حازم القرطاجني لا تتوقف عند إفهام السامع كما هو شأن المتكلم العادي، بل لابد من تحقيق انفعال لديه “وعدتني ألا تموت وماتت”، “وكانت تموت في آخر أحلامها، ثم تصحو لتسأل: هل عاد هذا البعيد حميد؟”
إن معالجة السمات الفنية التي تمنح القصيدة خصوصيتها غالبا ما تكون بعيدة عن موضوعها، إلا أن موضوع الغربة، وما يتبعها من فقد وافتقاد تلخصه هند طه حسين في حديثها عن مطابقة الكلام لمقتضى الحال. لقد خرج الشاعر في مرثيته هذه على نمط المراثي في الشعر العربي. وكذلك فعل الشاعر عيسى الشيخ حسن في رثاء والده، فجاءت قوة الصور البيانية من خلال ما تحمله تلك الصور من مشاعر. ولذلك لم يلجأ الشاعر إلى التشبيه أو التجريد أو الترميز.
إن هذا التفاعل بين المحتوى والبناء الفني للنص هو الذي يمكننا أن نتبين من خلاله الملامح المميزة لأساليب الشعراء. هذا التلازم بين المدركات الحسيّة والشعور يكاد يطبع غالبية الشعر السوري الذي كُتب بعد قيام الثورة السورية بطابعه.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية