جدول المحتويات
«نبض الخليج»
مع انطواء صفحة الحرب وسقوط نظام الأسد، تدخل سوريا مرحلة انتقالية دقيقة تتقاطع فيها تحديات إعادة البناء مع توقّعات شعب أنهكه الخراب ويرنو إلى اقتصاد يوفر عملاً كريماً لأبنائه؛ حيث تبدو البطالة أوضح تجلّيات هذه التحديات، فهي لا تعكس هشاشة السوق والاقتصاد فحسب، بل تعبّر أيضاً عن عمق القطيعة بين الطاقات البشرية الهائلة في البلاد وفرص توظيفها.
وفي هذا المفترق، تُطرح الأسئلة الملحّة أمام الحكومة الجديدة، وأهمها: كيف يمكن تحويل سوق العمل من ساحة انتظار طويلة إلى محرّك يعيد توزيع الثروة، ويُرسّخ السلم الأهلي، ويساهم في تنمية الاقتصاد؟ فقد أضحت البطالة تمثل عبئاً اقتصادياً واجتماعياً بالغ التأثير، ليس فقط لأن فرص العمل أصبحت صعبة التوفر، بل لأن الوظائف المتاحة تعاني من هشاشة في الاستقرار، وتدنٍّ في مستوى الرواتب، وتردٍّ في شروط الحماية وضمان حقوق العامل. كما أن هذه الأزمة البنيوية تستدعي معالجة جذرية تتجاوز الحلول التقليدية، ضمن رؤية شاملة تستند إلى مجموعة من المحاور التي تتكامل فيما بينها، لتشكّل خارطة طريق ممكنة التطبيق في ظل الإمكانات الحالية.
إعادة تأهيل القطاع الزراعي كمحرّك رئيسي للتشغيل
رغم التراجع الذي أصاب قطاع الزراعة منذ عام 2011، إلا أن هذا القطاع لا يزال يشكّل شريان الحياة في مناطق واسعة من الريف السوري، ويحتفظ بقدرة كامنة على توفير مصادر دخل وفرص عمل مستقرة إذا ما تم تأهيله بشكل منهجي؛ حيث يمكن للزراعة أن تتحول من عبء اقتصادي إلى رافعة إنتاجية إذا توفرت لها شروط أساسية، تبدأ من تأمين مستلزمات الإنتاج بأسعار مناسبة، وتستمر بإعادة تأهيل شبكات الري بوسائل مستدامة تقلّل من استهلاك المياه وتكاليف التشغيل. كما أن تعزيز الصناعات التحويلية المرتبطة بالزراعة لا يرفع فقط من القيمة المضافة للمنتج المحلي، بل يسهم أيضاً في تثبيت السكان في مناطقهم، ويخلق بيئة عمل تشمل جميع فئات المجتمع، وحتى النساء المعيلات اللواتي يشكّلن شريحة أساسية من سكان الأرياف. وإذا ما تيسرت لهذه المنتجات سياسة تصديرية منظّمة، فإن القطاع الزراعي يمكن أن يستعيد مكانته كحامل للنمو والتشغيل للعمالة السورية الخبيرة في هذا المجال.
في هذا الإطار، يقول الباحث في “مركز عمران للدراسات”، مناف قومان: “برأيي، واقعية الاعتماد على الزراعة في توليد فرص عمل تأتي من أسباب موضوعية، على رأسها أن الزراعة تحتاج عدداً كبيراً من العمّال في الأنشطة الزراعية، وبعكس الصناعة التي تحتاج إلى رساميل كبيرة وأطر تنظيمية معقّدة، يمكن للزراعة أن تبدأ بالإنتاج والتشغيل بوتيرة أسرع إذا توفرت الأرض والبذار والدعم. كما أن مقوّمات الزراعة متوفرة في سوريا، مثل المساحات الزراعية الشاسعة، والتنوع المناخي، والمهارات، والعمالة، وغيرها. وأكيد توجد تحديات لهذه المقاربة، لكن مهما كانت التحديات، يفترض أن توضع في سياق دمج الزراعة كأحد محرّكات التوظيف، وضمن رؤية متكاملة للتعافي تهيّئ الأرضية لبدء قطاعات أخرى مرتبطة بالزراعة، مثل الصناعة الزراعية والخدمات والتجارة”.
مواءمة التعليم والتدريب مع السوق واستثمار الكفاءات في الخارج
أحد المعضلات الأساسية في سوق العمل السوري يتمثل في الفجوة الكبيرة بين مخرجات التعليم واحتياجات السوق الفعلية؛ إذ يخرج عدد كبير من الشباب من الجامعات وهم يحملون شهادات لا تجد صدى في الواقع الاقتصادي، ما يراكم البطالة في صفوف الخريجين ويهدر طاقات كان من الممكن توظيفها في مسارات أكثر نفعاً. فالحل لا يكمن فقط في تغيير المناهج، بل في إعادة هيكلة المنظومة التعليمية لتكون أكثر التصاقاً بالواقع العملي. تعليم الكفاءات التقنية والمهنية يجب أن يرتبط مباشرة بسوق العمل من خلال شراكات بين المعاهد والقطاعات الإنتاجية، وهو ما يمنح الطالب خبرة مباشرة قبل دخول السوق.
ومن جهة أخرى، فإن الكفاءات السورية الموجودة في الخارج تمثل مورداً ثميناً يمكن توظيفه عبر منصات إلكترونية تربط بين أصحاب الخبرات وبين الداخل السوري، سواء عبر استثمارات مباشرة أو عبر المساهمة عن بُعد في مشاريع محلية. كما يمكن تحفيز عودة المستثمرين السوريين من الخارج عبر تقديم حوافز مرنة تسمح لهم بتأسيس شركات تسهم في خلق فرص عمل فعلية وضمان حقوقهم وأمن عملهم.
ويقول الباحث مناف قومان في هذا الإطار: “أعتقد أن المواءمة ستبدأ من فهم احتياجات السوق بالبداية، لربطها بمنظومة المعرفة. ولكي يتم هذا، يمكن العمل على مسارات مثل جسر الجامعات بسوق العمل، عبر إعداد تقارير دورية حول التخصصات المطلوبة، والمهارات الناقصة، وحركة الطلب، على أن يكون تطوير بيئة العمل سابقاً لتطوير العملية التعليمية.
وينبغي أن يُعاد الاعتبار لمسار التعليم المهني عبر برامج نوعية تقوم على معرفة وتدريب عملي مرتبط بقطاعات التشغيل، من الطاقة إلى البناء، إلى التصنيع، والخدمات اللوجستية. ألمانيا وبعض الدول الأوروبية رائدة في هذه التجربة ويمكن الأخذ منها. كما يمكن التركيز على المهارات العملية وحلّ المشاكل، بدل التعليم بالحفظ”.
تحفيز المشاريع الصغيرة والمتوسطة والاقتصاد الرقمي
العمود الفقري لاقتصاديات العمل ضمن نماذج الاقتصاد المرن والقادر على توليد فرص العمل هو قطاع المشاريع الصغيرة والمتوسطة، ورغم أن هذه المشاريع تمثل الغالبية الكبرى من الوحدات الاقتصادية في سوريا، إلا أنها لا تزال تعاني من ضعف في التمويل، وغياب البنية التحتية الداعمة، وتضييق تنظيمي يعرقل نموها. المطلوب اليوم هو بيئة مالية مرنة تدعم هذه المشاريع من خلال تسهيلات مصرفية مدروسة، وآليات ضمان تقلل من مخاطر الإقراض.
إلى جانب ذلك، يشكل الاقتصاد الرقمي فرصة ذهبية لإعادة هيكلة سوق العمل، من خلال دعم الشركات الناشئة في مجالات التكنولوجيا، وتوفير حاضنات أعمال حديثة تتيح للشباب فضاء للابتكار والتطوير. كما أن تشجيع التجارة الإلكترونية الداخلية، وتسهيل الإجراءات المرتبطة بترخيصها وتشغيلها، يفتح المجال أمام جيل جديد من رواد الأعمال الذين لا يحتاجون لرأس مال كبير أو بنى تقليدية. في هذا السياق، يمكن أن يسهم توسيع نطاق الدفع الإلكتروني ضمن سوريا في تقليص التعامل النقدي وتحفيز قطاعات جديدة في البرمجيات والأمن السيبراني، وهو ما يوفر فرص عمل نوعية في بيئات مرنة وسريعة النمو.
إصلاح السياسات الاقتصادية وتحسين بيئة الأعمال وبناء الثقة
في مناخ اقتصادي غير مستقر، تبقى الثقة حجر الزاوية في أي جهد استثماري، سواء من الداخل أو من الخارج. وعلى الرغم من التحديات الأمنية والسياسية، فإن بإمكان السياسات الاقتصادية أن تلعب دوراً محورياً في إعادة بناء هذه الثقة، من خلال إصلاحات متدرجة وشاملة. كما أنه من الضروري تبسيط الإجراءات الإدارية لتأسيس الشركات وتقليص عدد التراخيص المطلوبة، بما يسمح بخفض تكاليف الدخول إلى السوق، بجانب مكافحة الفساد الإداري، الذي يمثل شرطاً أساسياً، ويجب أن يتم من خلال تفعيل أدوات رقمية شفافة تضمن للمستثمرين بيئة قانونية عادلة وواضحة.
كذلك، فإن استقرار سعر الصرف يعد مطلباً رئيسياً لأي عملية استثمارية تنتهي بالتوظيف وخلق فرص عمل. أما على مستوى النظام الضريبي، فإن توحيد الضرائب وتقديم إعفاءات للاستثمارات المعاد ضخها في السوق المحلي يمكن أن يشجع التوسع الاقتصادي ويقلل من الميل إلى الاكتناز، وبالتالي زيادة ضخ هذه الأموال في السوق وخلق فرص عمل.
الشراكة بين القطاعين العام والخاص وتعزيز التصدير
في ظل محدودية قدرة الدولة على تمويل مشاريع البنية التحتية الكبرى أو دفع عجلة التوظيف منفردة، تصبح الشراكة بين القطاعين العام والخاص أداة ضرورية وليست اختيارية. فمن الضروري إعادة النظر في قانون الشراكة القائم، ورفع سقف مساهمة القطاع الخاص في المشاريع الاقتصادية إلى مستويات أكثر واقعية، ما يمكن أن يفتح الباب أمام استثمارات ضخمة في مجالات استراتيجية مثل الطاقة والنقل، بالتزامن مع العمل على رفع العقوبات.
ومن المفيد هنا التركيز على مشاريع بنى تحتية مرتبطة بسلاسل التوريد الزراعي والصناعي، كإنشاء طرق سريعة تربط بين مناطق الإنتاج والأسواق، أو بناء مناطق صناعية وحرة متخصصة بالتصدير قرب المعابر الحدودية، تتيح للمستثمرين تقليص التكاليف وتعزيز فرص التوظيف المحلي. كما أن دعم الصادرات عبر إجراءات مثل تخفيض الجمارك على بعض المواد الأولية الداخلة في عملية تصنيع المنتجات المصدرة، يمكن أن يوفر طلباً إضافياً على اليد العاملة، لا سيما في القطاعات كثيفة التشغيل مثل النسيج والمنتجات الغذائية. كذلك، فإن تبسيط الإجراءات الجمركية، واعتماد أنظمة إلكترونية حديثة لتخليص البضائع، يقلل من زمن الانتظار والتكاليف، ويجعل المنتج السوري أكثر قدرة على المنافسة في الأسواق الإقليمية والدولية.
وفي هذا الإطار، يقول الباحث مناف قومان: “هذا الموضوع سيأتي مع صياغة المصالح المتبادلة، ووضع إطار مؤسساتي يضمن حقوق الجميع. أحد الشروط التي يمكن أن تحول الشراكة بين القطاعين العام والخاص؛ وجود قانون شراكة يحمي المستثمر ويحفظ حق الدولة، وصياغة عقود تشاركية شفافة في المشاريع الكبرى، وخلق بيئة تشاركية بين القطاعين وليس تنافسية أو احتكارية تسبب إضراراً أو تنفيراً للقطاع الخاص من العمل، إذ لا يمكن العمل في ظل اقتصاد احتكاري، إضافة إلى فصل الجهات الرقابية عن التشغيلية لتفادي تضارب المصالح. لا بد أيضاً من تقديم حوافز ضريبية وتسهيلات ائتمانية للشركات التي توظف عمالة محلية، ودعم فكرة نقل المعرفة والتدريب، وفي النهاية محاربة الفساد والمحسوبيات وضمان تكافؤ الفرص”.
بشكل عام، إن تخفيض البطالة في سوريا ليس مسألة مالية فقط، ولا يمكن اختزالها في برامج تدريب مؤقتة أو فرص عمل جزئية، بل إنها مهمة استراتيجية تتطلب إرادة سياسية واضحة، وبيئة تشريعية مرنة، وأمناً مستداماً، وانخراطاً جدياً من الشركاء الإقليميين والدوليين. دون هذه العناصر، ستبقى البطالة مرشحة للتفاقم، وسيبقى النزيف البشري مستمراً، سواء عبر الهجرة أو الإقصاء الاقتصادي. لكن، إذا ما تم التقاط اللحظة، واستُثمرت الموارد المتاحة بكفاءة، فإن سوق العمل في سوريا يمكن أن يتحول من عبء تاريخي إلى أداة نهوض اقتصادي واجتماعي طال انتظاره.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية