جدول المحتويات
«نبض الخليج»
مفهوم الغربة الجغرافية لدى السوريين لا يُختزل في سرديات النوستالجيا أو الخطابات الإنسانية السطحية، فهو ليس بحنين إلى الذكريات القديمة بقدر ما هو حالة معرفية–فلسفية مركّبة تتقاطع فيها أسئلة الوجود، الانتماء، الهوية، والمصير، مع البُنى الاجتماعية والنفسية والسياسية التي تنتجها تبعات الحرب والنزوح واللجوء والمنفى.
لا يتعلق الأمر بمجرد تغيير الموقع الجغرافي من دمشق إلى برلين أو من حلب إلى إسطنبول أو من درعا إلى عمّان. إنه نقلة عميقة في تجربة الذات ومكانها داخل العالم، فالمنفى السوري عملية إعادة تشكيل كليّة لعلاقة الإنسان بذاته ولغته وزمنه ومساحته، وهو يعيد تعريف معنى الجغرافيا كبنية نفسية–ثقافية تتشابك فيها الذاكرة والتمزّق.
من زاوية علم الاجتماع النقدي، لا يمكن فهم الغربة السورية بمعزل عن السياق البنيوي الذي يتحكم في حياة الأفراد والجماعات، فإعادة تعريف الذات في المنفى هي عملية معقدة تجري داخل شبكة قوى محيطة. من جهة، تأثير الدولة المستضيفة بقوانينها، إجراءاتها، وسياساتها المتعلقة باللاجئين؛ ومن جهة أخرى، حضور المجتمع المحلي بمواقفه الثقافية والاجتماعية، وصولاً إلى التأثيرات الأوسع للسياسات الدولية، التي تُعيد إنتاج اللاجئ ككيان قانوني–اجتماعي مُعلّق. هذا السياق البنيوي يشكّل الخلفية الحاكمة والإطار المادي والمعنوي الذي يُقيّد أو يُتيح للسوريين في الخارج فرص إعادة تشكيل حياتهم ومعنى وجودهم.
إلى جانب البُعد البنيوي، تُفرز تجربة الغربة أبعاداً سيكولوجية عميقة تتجاوز التأملات الفلسفية العامة، لتدخل في منطقة التمزق النفسي والعاطفي. السوري الخارج من بلاده قد يحمل داخله علامات اضطراب هوية حاد، ناتج عن الاصطدام المستمر مع منظومات ثقافية جديدة ومتغيرة.
يضاف إلى ذلك متلازمة الناجي التي تلاحق كثيراً من السوريين، فتضع بعضهم تحت وطأة الشعور بالذنب، وعدم الاستحقاق، والتساؤل المستمر حول معنى نجاتهم. هنا لا يمكن إغفال أثر الصدمة الثقافية التي تُفكّك نظام الإدراك اليومي، بحيث تتحوّل أبسط التفاصيل من اللغة إلى الإيماءات الاجتماعية إلى اختبارات لا تنتهي للذات وحدودها.
الغربة هنا ليست حالة هامشية في التجربة السورية الحديثة، هي واحدة من أبرز محددات تشكّل الذات السورية المعاصرة، وإذا كانت قد تمزّقت الجغرافيا السورية على مستوى الخرائط فإن الغربة تمزّقها على مستوى الروح والمعنى. إننا إذ نكتب عن الغربة الجغرافية من خلال سؤال فلسفي واجتماعي عميق، حول كيفية أن يُعاد إنتاج الإنسان السوري خارج حدود وطنه؟
الغربة كشرخ معرفي
الغربة هي انفصال معرفي عن شبكات المعنى التي تشكّل وعي الإنسان، وبحسب ألفريد شوتز، كل مجتمع ينتج عالماً مألوفاً للفرد، عالماً من المسلّمات والعادات والخلفيات الضمنية.
حين غادر السوري بلده، كان يواجه أولاً انهيار هذه البنى الإدراكية؛ اللغة التي كانت تحمل المعنى تصبح عبئاً في الخارج، السلوكيات الاجتماعية التي كانت عادية تُصبح فجأة غريبة أو حتى مرفوضة، وهنا ينشأ الشرخ؛ ليس في فقدان الأرض بقدر ما يكون الانهيار في إطار الفهم الذي يربط الذات بالعالم.
يضاف إلى ذلك متلازمة الناجي التي تلاحق كثيراً من السوريين، فتضع بعضهم تحت وطأة الشعور بالذنب، وعدم الاستحقاق، والتساؤل المستمر حول معنى نجاتهم.
لفهم الشرخ المعرفي الذي تخلقه الغربة، يمكننا استحضار مفاهيم من علم النفس الاجتماعي، وخصوصاً ما يُعرف بـ التجزؤ المعرفي، وهي حالة يُصاب بها الفرد عندما تنفصل أجزاء من تجربته اليومية عن السياق الكلي الذي كان يمنحها المعنى، مما يؤدي إلى حالة من فقدان الاتساق الداخلي بين الماضي والحاضر، وبين الإدراك الذاتي والإدراك الاجتماعي. السوري في المنفى يعيش حالة من “الوعي المجزّأ” حيث لا تتطابق الصور التي يحملها عن نفسه مع الصور التي تعكسها له بيئته الجديدة.
لطالما نظرنا إلى الغربة بوصفها جغرافيا؛ هناك الوطن، وهنا المنفى، لكن الحقيقة أكثر قسوة، فالسوري الذي غادر وطنه خرج من شبكة معقدة من المعاني. في الداخل، كان يعيش قهر الاستبداد، الخوف، الضيق، لكنه كان أيضاً يحمل ذاكرة اللغة، رائحة البيت، تفاصيل الحارة، إيقاع المكان. حين غادر، اكتشف أنَّه فقد شيئاً لا يُستردّ بسهولة، والمتمثل بـ ذاكرة الحضور المألوف.
هنا لا نتحدث عن الحنين الرومانسي أو النوستالجيا فقط، وإنما حول ما يسميه عالم الاجتماع بيير بورديو “رأس المال الرمزي”، أي كل ما يجعل الإنسان يشعر بأنَّه مفهوم في سياقه الطبيعي. السوري الخارج من بلده إلى جانب ما يواجهه من عناء العمل والاندماج، فإنه يدخل معركة داخلية حول من أنا في هذا السياق الجديد؟.
هنا تبرز لدينا نظرية المجالات الإدراكية المتغيّرة، التي تفسّر كيف يُجبر الأفراد على تعديل أنماط تفكيرهم وسلوكهم استجابة لتغيّر السياق الثقافي والاجتماعي، وهنا تكون الغربة عبارة عن عملية تكيّف معرفي مضنٍ، يُضطر فيها السوري إلى إعادة ترميز خبراته وتوقعاته ومواقفه لتتناسب مع بيئة لا تشاركه مرجعياته الأصلية.
بالإضافة إلى ذلك هناك تأثير الفقدان الرمزي، وهو مفهوم يرتبط بالصدمة الثقافية المعقّدة، ويصف فقدان الشخص للمرجعيات غير الملموسة التي كان يَستند إليها في تفسير العالم؛ مثل المعايير الاجتماعية، الأنماط اللغوية، وحتى الإشارات الثقافية الدقيقة التي تنظم السلوك اليومي.
قد يبدو السفر فرصة؛ كـ بيئة جديدة، حريات جديدة، إمكانية إعادة اختراع الذات، لكن في السياق السوري هناك من استطاع تحويل المنفى إلى مساحة تحرر حقيقية، لكن في المقابل هناك من وقع في فخ الغربة المركّبة؛ غربة عن المجتمع الجديد، وغربة عن المجتمع القديم.
تقول لنا فلسفة مارتن هايدغر إن الإنسان ليس فقط كائناً في المكان، بل كائناً في المعنى، فالسوري الذي لم يجد معنى في غربةِ ما بعد اللجوء سيبقى دائماً عالقاً بين جغرافيتين؛ الأولى فقدها والثانية قد لا يشعر بها، وفي هذه الحالة يصبح المنفى مساحة للبحث المضني عن معنى لا يُمسك به بسهولة.
الجغرافيا بوصفها امتداداً للذات
من منظور فلسفة الوجود، يشكّل السفر تجربة عبور حادّ بين عالمين، العالم المألوف الذي يتّسم بالألفة والتطابق بين الذات والمكان، والعالم الغريب الذي يعيد تشكيل الذات من خلال القطيعة. جان بول سارتر يرى أن الوجود الإنساني هو مشروع مفتوح، ولكن السوري في حالة المنفى لا يخوض مشروعه بإرادته، وإنما يُدفع إليه دفعاً.
في بلاد اللجوء أو المهجر، يدخل السوري في معركة متعددة المستويات، أولها على المستوى الجسدي، كما وصف ميشيل فوكو في نظرياته عن السلطة والانضباط، حيث يصبح الجسد السوري موضوعاً للمراقبة والتكيّف؛ جسد يجب أن يتعلم لغة جديدة، أن يعمل بطرق لم يعتدها، أن يتشكل بحسب معايير المجتمعات المستقبِلة.
أما على مستوى المخيال، وفق كورنيليوس كاستورياديس، يفقد الإنسان الجماعي (الشعب، الأمة) القدرة على توليد معنى مشترك، فالسوري في الخارج لا يجد سردية جاهزة تعيد له معنى وجوده، فيصطدم بمخيال مفكّك؛ هل هو ضحية؟ أم ناجٍ؟.
من منظور فلسفة المكان والوجود، لا يشكّل الفضاء الخارجي مجرد حاوية للنشاط البشري، إنه يرتبط بالذات عبر ما يُعرف في الأنثروبولوجيا الثقافية بـ ديناميات الترسيم المكاني، أي كيف تُعيد المجتمعات والأفراد بناء حدود الانتماء والتفاعل بحسب السياق الجغرافي. اللاجئ أو المنفي السوري يحوّل هذا الترسيم من حدود مألوفة (البيت، الحيّ، المدينة) إلى حدود جديدة معقدة تفرض عليه إعادة فهم ذاته داخل بنية لا يمتلكها بالكامل.
تتداخل هنا أيضاً فكرة التموضع الجسدي–الاجتماعي، وهي تصف كيف يُعاد تعريف الفرد في مجتمعات جديدة بناءً على حضوره الجسدي، لا فقط الرمزي أو اللغوي، و السوري هنا لا يُنظر إليه فقط بوصفه ذاتاً مجردة، وإنما يُحمَّل بصفات مرئية وضمنية مرتبطة بجسده. الجسد، كما يظهر في نظريات الاجتماع الحسي يصبح أداة تفاوض يومية على الانتماء أو الرفض.
وعلى مستوى أعمق، تنعكس هذه العمليات في ما تسميه نظريات الهوية الثقافية الانتماء المكاني الهشّ؛ إحساس الفرد بأن مكانه الجديد هو مساحة مؤقتة متصدّعة، قد لا تمنحه استقراراً وجودياً، بل تُلزمه بأن يكون دائماً في موقع دفاعي أو تكيفي، قد يراقب نفسه داخلياً وخارجياً.
الغربة هنا أزمة وجودية، تُبرز الشعور بأن المرء لا ينتمي إلى هنا ولا إلى هناك، وكأنه عالق في الفراغ، في حالة تعليق وجودي لا نهاية قريبة لها.
عبء الانتماء والاقتلاع
الغربة السورية لا تُفهم أيضاً من دون استحضار الطابع القسري للجوء، فاللاجئ السوري يتحمّل عبء الاقتلاع؛ فقدان البيت، الحيّ، المدينة، وفقدان السردية الجمعية التي كانت تبرّر وجوده. يشير بول ريكور إلى أن الهوية هي سردية قيد البناء المستمر، فالسوري في المنفى إذاً، يدخل أزمة مزدوجة؛ السردية التي حملها لم تعد صالحة، والسردية الجديدة التي قد لا يستطيع كتابتها بسهولة.
بول ريكور يكتب عن الذاكرة والهوية بوصفهما مشروعات زمنية؛ والسوري في المنفى يعيش صراعاً مع الماضي الذي يطارده وقد يعيش البعض هذا الصراع مع مستقبل قد لا يقدر على بنائه، ليصبح عالقاً في حاضر هشّ، يشبه ما يسميه زيغمونت باومان “الحداثة السائلة”؛ كل شيء مؤقت متغيّر، لا يسمح بتثبيت الذات أو استقرارها.
إن تجربة الغربة السورية لا تقتصر على الجيل الأول من اللاجئين فقط، بل تمتد آثارها العميقة إلى ما يُسمى في دراسات الهجرة والشتات بـ الجيل الثاني؛ أي أولئك الذين وُلدوا أو نشأوا في مجتمعات الاستضافة، والذين يعيشون وضعاً مركباً من الانتماء والانفصال في آنٍ معاً. هنا يمكن الاستعانة بإطار علم النفس العابر للثقافات الذي يُحلّل كيف يتفاعل الأفراد مع سياقات ثقافية متداخلة، ليس بوصفهم منقسمين بين ثقافتين فقط، وإنما بوصفهم منتجين لهويات هجينة، متقلّبة، وعُرضة للصراع الداخلي.
إذا اعتبرنا مع إدوارد سعيد أن المنفى هو تجربة مزدوجة من الإثراء والفقدان، فإن السوري يجد نفسه عالقاً في هذه الثنائية، الأولى تتمثل بـ اكتشاف فضاءات جديدة، لغات جديدة، إمكانات جديدة؛ والثانية تتجلى في شعور بالاقتلاع والانفصال عن الجذور. الأسئلة هنا تتعمق فيما إذا كان الإنسان سيستطيع بناء ذاته في الفراغ، أم أن وجوده دائماً مرتبط بأرض وخطاب وهوية جماعية؟
سؤال الانتماء المفتوح
الغربة الجغرافية السورية هي حالة مركّبة؛ هي خلاص وعبء في آن معاً، هي حرية مقيدة وظلم مقونن، هي عبور جسدي بلا ضمان لعبور نفسي أو معنوي. ولعل الفلسفة هنا لا تمنح حلولاً عملية، لكنها تمنح لغة لفهم الذات؛ هل نشعر بالاغتراب حتى ونحن نحمل جوازات سفر جديدة؟
لفهم عبء الانتماء والاقتلاع عند السوريين في الخارج، يمكن الاستعانة بمفهوم فقدان رأس المال الاجتماعي، وهو مفهوم مركزي في علم الاجتماع السياسي يصف انهيار شبكات الثقة، الروابط العائلية، والصلات المجتمعية التي كانت توفر للفرد مكانته ودعمه وحضوره داخل النسيج الاجتماعي. في بلاد اللجوء، يواجه السوري فقدان أدوات التفاعل الاجتماعي التي كانت تمنحه شرعية وحضوراً، ليجد نفسه في فضاء جديد عليه إعادة بناء كل هذه الشبكات من الصفر، وغالباً تحت ظروف غير متكافئة.
كما يظهر هنا مفهوم الهشاشة الزمنية، الذي يُعبّر عن شعور الأفراد بأن حياتهم أصبحت معلّقة في زمن قد لا يتقدّم ولا يُبنى فيه المستقبل بشكل مستقر.
ما الذي تعلّمنا إياه تجربة الغربة الجغرافية السورية؟ إنها ليست فقط جرحاً نفسياً، وإنما هي مشروع معرفي عميق يضعنا أمام أسئلة تتعلق بالذات والمعنى والمكان واللغة.
ربما هنا تكمن بداية الطريق ليس في التخفف من الغربة، بقدر أن ندركها كعنصر مركزي في تشكيل الذات السورية المعاصرة.
ربما يحتاج السوري اليوم في بلدان اللجوء إلى لغة جديدة تُعيد تعريف الغربة كإمكانية بمستويات متعددة. إمكانيّة التعلم، إمكانيّة الانعتاق من الجراح، إمكانيّة إنتاج حياة رغم كل ما ضاع.
السوري في الخارج يكتب فلسفة جديدة للوجود في العالم، فلسفة لا تزال قيد التشكل، وتحمل في داخلها كل تناقضات هذه الرحلة الطويلة والمعقدة.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية