جدول المحتويات
«نبض الخليج»
“تبدّت لي الكعبة قائمة وسط المسجد، فشُدّ إليها بصري وطفر قلبي، ولم يجد عنها منصرفاً، ولقد شعرت لمرآها بهزّة تملأ كل وجودي، وتحركت قدماي نحوها، وكلّي الخشوع والرهبة”.. محمد حسين هيكل، في منزل الوحي.
الحج بقدسيته، تلك الرحلة الروحية المتجددة، كركن من أركان الإسلام الخمسة، لم تغب عن المشهد الفني الإبداعي؛ حيث شكّل الحج، على صعيد الأدب، مصدر إلهام لا ينضب للشعراء والكتاب على مرّ العصور.
يستعرض من خاض منهم تلك التجربة الإنسانية الفريدة، ومن خصّها بوصفه الأدبي دون خوضها، أثر الحج في إبداعهم الفني، وتناولوا رحلة الحج والمحمل الشريف وصورة الكعبة وكافة المشاعر المقدسة في آثارهم الفنية.
فمن طه حسين، وعباس محمود العقاد، ومصطفى صادق الرافعي، حتى محمد حسين هيكل، وأمين الريحاني، وأنيس منصور، وكثيرين غيرهم، أتحفنا كتاب الأدب الحديث بنصوص أظهرت مشاعر الحجيج بأسلوب فني عالٍ، يجمع بين اللغة الرفيعة والرؤية الروحية.
فالرافعي، مثلاً، يقدّم رؤية شاملة لا تقتصر على الطقس الديني، بل يُظهره كرحلة وجودية، يصف الإنسان فيها متجرّداً من دنياه، متصلاً مع الله وحده، كما يركّز على المساواة بين البشر، وزوال الفروق الطبقية في هذا اليوم، وكأنه يذكرنا بيوم الحشر.
يقول الرافعي في كتابه “من وحي القلم” إن “الحج هو الرحلة التي يذهب إليها الإنسان إلى الله بنفسه وماله وقلبه وجسمه، ليقف في الموقف الذي لا يُستثنى منه أحد، فيشهد أن الناس جميعاً سواء، وأن الكبرياء لله وحده، وأن الفقر الحقيقي هو الفقر إليه”.
كما يُذكر عن طه حسين أخذه حفنة من تراب الحديبية حين مرّ بها، مقبّلها قائلاً “والله إني لأشم رائحة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في هذا التراب الطاهر“.
الحج في الشعر
وعلى هذا كان الشعر وما يزال. فمن أشعار الصوفية كابن الفارض وجلال الدين الرومي، والموشحات الأندلسية كموشحة ابن زيدون، وحتى أحمد شوقي وغيره من شعراء العصر الحديث، تجلّى الحج في رموز وتعبيرات فريدة، وظّفها الشعراء لتصوير الرحلة المقدسة.
إضافةً لكثير من النصوص والأشعار التي لا يسعنا ذكرها، تناول كتّابها الحج مقتبسين صيحات التلبية في مواطن، واصفين زحام عرفة ويوم التروية في مواطن، والسعي والطواف في مواطن أخرى، عاكسين أثر الحج على الأدب بلغة كرّست الرحلة، وجمعت الإبداع مع البعد الروحي والفلسفي.
حناجر تُنشد للحج
لطالما كان الفن الشعبي، بأشكاله الإبداعية المختلفة من الموسيقى إلى الغناء، وصولاً إلى الأدب الشعبي من أشعار وأناشيد وأمثال وكنايات، الأكثر التصاقاً بالإنسان الشعبي، معبّراً عن فلسفته في الحياة اليومية ومناسباته الاجتماعية من أفراح وأحزان وأعياد، بلغةٍ مرنة بسيطة أقرب إلى اللهجة المحكية لدى غالبية الشعوب.
الحج حاضر هنا أيضاً؛ فقد شكّل الإنشاد ظاهرة فنية احتلت جزءاً مهماً من الثقافة الدينية، تتردد خلال مناسبات عديدة، بما فيها الحج، حيث يطغى الإنشاد الجماعي على الغناء الفردي في معظم البلدان الإسلامية من العالم العربي، بما في ذلك بلاد الخليج والمغرب العربي وبلاد الشام.
في سوريا تحديداً، لمعت فيها باقة من أبرز المنشدين في العالم الإسلامي، منذ أوائل القرن الماضي حتى اليوم، يقف في مقدّمتهم الشيخ توفيق المنجد، بحنجرة فريدة أدت تلك الأناشيد بحنين لا يوصف إلى أداء الفرائض، بما فيها الحج، تاركاً أثراً لا يُمحى من ذاكرة كل من سمعه من السوريين والعرب.
إضافةً لصبري مدلل وصباح فخري، والعديد من المنشدين وفرق الإنشاد التي أخذت على عاتقها حمل تلك الرسالة بأسلوب فني مميز، شكّلت جزءاً من الموروث الشعبي الديني للمنطقة.
بين النداء الإلهي والحنين الشعبي.. مصريون يغنون للحج
في طريق النبي جنينة ورشوها *** بنوها الحبايب والله دي فاطمة وأبوها
في طريق النبي يمينك شمالك *** عند حرم النبي يا ولدي ريّح جمالك
فاطمة يا فاطمة يا بنت التهامي *** افتحي البوابة يا فاطمة دا أبوكي دعاني
تلك أيضاً أشعار تصف رحلة الحج، لكنها في مصر، كتبها مصريون بلغتهم المحكية، وغناها مصريون، إن سمعتها، لا بد أن ينتابك شيء من ارتجاف المشاعر مع بحة تلك الحناجر.
الحج في مصر لا يقتصر على كونه طقساً شعائرياً، بل مناسبة مجتمعية وجدانية كبرى، يُحتفى بها، ويُغنّى لها منذ انطلاق موكب الحجيج، بالزفّة والغناء الشعبي، استمراراً في غيابهم، ووصولاً إلى عودتهم.
وعلى هذا، تميّزت مصر بخصوصية ثقافية فريدة في التعبير عن هذا الطقس وغيره من المناسبات الدينية، من خلال الغناء الشعبي، فوصفوا في أغانيهم الطريق منذ انطلاق الموكب حتى وصوله للحرم الشريف، موضّحين مناسك الحج في مواضع، وداعين لعودة حجيجهم سالمين في مواضع أخرى.
“يا واد، يا ولدي، يا حجة، ألفين مبروك، يمّا، الحجي جاي يتمختر“، وغيرها من مفردات محسوسة ومستمدة من واقعهم ومن حياتهم اليومية، استُخدمت في تلك الأغاني التي يقع على عاتق النساء غالباً ترديدها، سواء في المدن أو الأرياف، وفي الصعيد والصحراء، ترافقهن فرقة بسيطة من دفوف ومزمار وربابة وتصفيق وزغاريد من حشود اجتمعت لتودّع الحاج وتستقبله وتكمل المشهد.
أما في المجتمع النوبي، فتؤدّى تلك الأغاني باللهجة النوبية، والألحان النوبية، مستخدمين فيها الآلات الموسيقية التقليدية كالدف والطارة والطبل. وكذلك هو الحال في المدن الساحلية.
وليست مصادفة أن تمتاز مصر بهذا المزج بين الحج والغناء؛ فالعلاقة مع الغناء عميقة في الوجدان المصري، وليس ترفاً فنياً، بل هو وسيلة للتعبير، يردّدها ويعتمدها المصريون في عموم أرض المحروسة.
فاطمة عيد ومحمد الكحلاوي.. أصوات لا تُنسى
تعد المطربة الشعبية الشهيرة فاطمة عيد، والفنان محمد الكحلاوي، من أهم القامات الفنية التي اشتهرت بهذا النوع من الغناء في مصر، وكلاهما حين غنّيا للحج، تركا أثراً عظيماً في الذاكرة، يُذاع كل عام في موسم الحج على شاشة التلفزيون المصري والشاشات العربية عموماً.
وبالتوازي مع الغناء الشعبي، ظهرت في مصر أغانٍ اختصت بالحج بلغةٍ أعمق، تركها لنا ثلّة من شعراء الكلمة المغنّاة كموروث عظيم، غنّتها قامات فنية بارزة، في مقدّمتهم أم كلثوم التي غنّت قصيدة أحمد شوقي “إلى عرفات الله“، ورائعة بيرم التونسي “القلب يعشق كل جميل“، إضافةً لأسمهان التي غنّت “عليك صلاة الله وسلامه“، ومحمد عبد الوهاب “لبيك اللهم لبيك“.
حين يحترم الفن الديانات
“يا رايحين للنبي الغالي هنيالكم وعقبالي“، الأغنية التي تُعد من أشهر أغاني الحج في مصر، والتي غنّتها ليلى مراد في فيلم “ليلى بنت الأكابر“، بعد حوالي ست سنوات من اعتناقها للدين الإسلامي؛ حيث تعود أصولها الدينية لعائلة يهودية، وتعبّر في هذه الأغنية عن حالة وجدانية فريدة، وشوق ورغبة واضحة لزيارة بيت الله الحرام.
وأما عن ضيوف الرحمن، زوّار مكة الشامخين، رافعي الرؤوس، المتباهين بزيارة مضيفهم، مطلقي التلبيات التي تناطح عنان السماء، يكتب الشاعر اللبناني سعيد عقل نموذجاً راقياً لاندماج الفن مع الأديان ومقدّسات الشعوب، لتغني فيروز إحدى روائعها “غنيت مكة أهلها الصيدا“.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية










