جدول المحتويات
«نبض الخليج»
عبرت صواريخ إيران وإسرائيل سماء المنطقة، بينما واصل الناس في لبنان وسوريا والأردن والعراق وتركيا حياتهم وسط ضجيج الأفراح وأنغام الموسيقى. شاهد سكان هذه الدول مشاهد الحرب مشتعلة على الهواء مباشرة، بينما تتسلل الصواريخ فوق رؤوسهم في مشهد متناقض بين الفرح والدهشة والخطر.
في لبنان، وثّق ناشطون مرور الصواريخ فوق منتجع سياحي على وقع الأغاني والموسيقى. في مدن تركية حدودية مع سوريا، سجّل آخرون عبور الصواريخ الإيرانية نحو الأجواء السورية. أما في البادية السورية، رصد راعٍ طائرات شحن عسكرية تحلق على ارتفاع منخفض، بينما تساقطت بقايا الصواريخ فوق جنوب سوريا، الواقعة في منتصف “طريق الحرب” بين طهران وتل أبيب.
التطبيع مع الحرب ليس جديدا، بدأ مع المجازر التي ارتكبها النظام المخلوع وحلفاؤه في سوريا ولاحقا مع الإبادة المتواصلة في غزة على يد الاحتلال الإسرائيلي. الحرب أصبحت اليوم مادة ساخنة للتسلية وتسجيل أعلى المشاهدات على “تيك توك وإنستغرام” وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي، هذه السيطرة على الجسد والسلوك وعملية تشكيل وعينا وحياتنا لا تنفصل عن الحرب بمعناها الأوسع.
عندما تُبث مشاهد الصواريخ أو الانفجارات مباشرة، تتحول إلى “محتوى” يتم استهلاكه على منصات التواصل الاجتماعي، مثل أي مقطع فيديو ترفيهي أو خبر عاجل. هذا التحول من حدث مأساوي إلى مادة قابلة للاستهلاك يمكن أن يقلل من حجمه العاطفي والإنساني. يصبح المشاهد أقل عرضة للتفكير في العواقب الحقيقية للحرب على الأرواح والممتلكات، وأكثر عرضة للتعامل معها كخبر عابر أو مشهد مثير.
مدري ليه طرى علي مشهد غرق التايتنك و الفرقه تعزف ..
• لبنان الليلة : pic.twitter.com/wPSHEsq6Yb
— The President (@0President) June 15, 2025
ويؤدي هذا التعرض المستمر لمشاهد العنف والصراع، حتى لو كانت بعيدة، إلى نوع من التخدير العاطفي، فعندما تصبح رؤية الصواريخ أمرا روتينيا على شاشات هواتفنا، قد نفقد قدرتنا على الشعور بالصدمة أو الحزن أو الغضب بنفس القوة. هذا التفكيك بين الحدث وتأثيره العاطفي يسهل عملية التطبيع.
الخطر “الجمالي” للحرب
في بعض الأحيان، يمكن أن تتحول مشاهد الحرب إلى “جمالية” في عيون البعض، خاصة عندما يتم التقاطها بجودة عالية أو من زوايا مثيرة. الانفجارات، مسارات الصواريخ في الليل، كلها قد تبدو بصرية آسرة. هذه “الجمالية” الزائفة يمكن أن تطمس حقيقة الدمار والموت، وتساهم في تقبل المشاهد اللاواعي للحرب كجزء مقبول بصريا من العالم.
إضاف إلى أن البث المباشر، خاصة على المنصات غير الموثوقة، يمكن أن يكون بيئة خصبة لانتشار المعلومات المضللة والدعاية. عندما يرى الناس مشاهد معينة دون سياق كامل أو تحليل نقدي، قد يتم تشكيل تصوراتهم عن الحرب بطرق معينة تخدم أجندات معينة، مما يزيد من صعوبة مقاومة التطبيع معها.
والأخطر من ذلك، أن مشاهدة الأحداث مباشرة قد تمنح المشاهد شعورا زائفا بالتحكم أو المشاركة. قد يشعر الشخص بأنه “مطلع” أو “مشارك” في الأحداث، بينما هو في الحقيقة مجرد متلق سلبي للمعلومات. هذا الشعور قد يقلل من دافعه لاتخاذ إجراءات فعلية ضد الحرب، حيث يشعر بأنه قد “قام بواجبه” بمجرد المشاهدة أو مشاركة مقاطع الفيديو أو الـ “ستوري” عبر صفحته.
الحرب وتجذرها في بينة المجتمع
يرى المفكر الفرنسي ميشيل فوكو أن الحرب جذر للسلطة وهي ليست مجرد صراع مسلح بين دولتين أو كيانين، بل هي جزء لا يتجزأ من مفهوم أوسع للسلطة والعلاقات الاجتماعية. في تحليلاته، ينظر فوكو إلى الحرب كأداة يتم استخدامها بشكل مستمر في السياسة، ليس بالمعنى التقليدي، ولكن بمعنى أعمق وأكثر انتشارًا في بنية المجتمع والسلطة نفسها.
فبدلاً من أن تكون الحرب نتيجة لفشل السياسة، يقلب فوكو هذه المعادلة ليرى أن الحرب هي الأصل، وأن السياسة هي استمرار للحرب بوسائل أخرى. هذا يعني أن العلاقات الاجتماعية والسياسية في جوهرها هي علاقات قوة وصراع مستمر، حيث تتشكل المؤسسات والقوانين والمعارف بناءً على هذه الصراعات. السلطة ليست شيئًا يمتلكه فرد أو دولة، بل هي شبكة من العلاقات المتشابكة التي تمارس في كل مكان داخل “الجسد الاجتماعي”.
لماذا نطبع مع الحرب؟
يرفض فوكو فكرة السلطة المركزية التي تتمركز في الدولة أو في حاكم واحد. بدلاً من ذلك، يرى أن السلطة منتشرة في كل مكان، في المؤسسات، في العلاقات بين الأفراد، في المعرفة، وفي الخطاب. هذا يعني أن الحرب ليست محصورة في ساحات المعارك الكبرى، بل تتجلى في الصراعات اليومية، في السيطرة على الأجساد، وفي تشكيل المعايير والخطابات.
يربط فوكو بين مفهوم السلطة والحرب بالسياسات الحيوية (Biopolitics)، وهي تقنيات وممارسات تستخدمها السلطة للتدخل في الظواهر الحيوية للسكان وتنظيمها. الهدف ليس فقط السيطرة على الأفراد، بل السيطرة على الحياة نفسها للسكان كجسم اجتماعي. يمكن أن تظهر هذه السياسات في تنظيم الصحة العامة، تنظيم النسل، وحتى في كيفية التعامل مع الجسد البشري. في هذا السياق، يمكن أن تكون الحرب أداة حيوية للتحكم في السكان وتنظيمهم، سواء من خلال العنف المباشر أو من خلال آليات السيطرة والتطبيع.
لا يمكن فصل المعرفة والسلطة بحسب فوكو، فالمعرفة تنتج السلطة والسلطة تنتج المعرفة. والخطابات التي تنتج عن الحروب تُشكل بدورها معرفة جديدة، وهذه المعرفة تستخدم لتعزيز أو تغيير علاقات القوة. على سبيل المثال، الخطاب الذي يبرر الحرب أو يصور العدو بطريقة معينة هو جزء من آليات السلطة التي تسعى للهيمنة.
الحرب بهذا المعنى ووفق حياتنا الرقمية المشكلة من قبل سلطات عالمية ومحلية، ليست مجرد حدث استثنائي أو فشل للسياسة، بل هي حالة كامنة ومستمرة في العلاقات الاجتماعية والسلطوية. إنها تعبر عن نفسها في أشكال متعددة، من الصراعات اليومية، وهي أداة رئيسية في تشكيل وتنظيم المجتمع والحياة نفسها. والسياسة الدولية، من هذا المنظور، هي ساحة لتلك الصراعات الدائمة على السلطة، حيث تتخذ الحرب أشكالًا مختلفة، لا تقتصر على النزاعات المسلحة فحسب، بل تشمل أيضًا السيطرة على الخطاب، والمعرفة، والأجساد وهو ما يحدث اليوم من خلال تطبيعنا “الجمالي” مع الحرب.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية