«نبض الخليج»
لا يقصد بمفهوم “القوة” هنا البعد الحضاري أو الثقافي أو الاجتماعي، بل القوة بمعناها المباشر: امتلاك ذراع عسكرية أو قدرة على التعبئة الجماعية، انطلاقًا من اصطفاف ما دون الدولة، بما يمنح جماعة ما موقعًا فاعلًا في معادلة السلطة، و رُب قائل إن التحشيد غير ممكن لمن لا يملك سلاحا؛ ويدحض هذا القول أن السويداء نفسها لم تكن جزءا من هذه الجماعات لولا الفعل الحديث والمشتغل عليه؛ لتغيير دورها من قبل قوى خارجية وجدت فواعل محلية قابلة للاستثمار، لنجد أن التحشيد والتسلح ديناميكيتان تتبادلان الدور في الأسباب والنتائج.
سادت في الآونة الأخيرة مفردة التحشيد الطائفي التي يتم تداولها وكأنها نوع من التحريض؛ غير أن التحريض يعد جزءا أو خطوة تؤسس لما بعدها وهو التحشيد؛ الذي ينتج سواد حالة الحشد Crowd؛ والمفهوم الأخير مقارب لمفهوم آخر هو القطيع Herd وفقا لعلم النفس الاجتماعي، حيث تغيب المحاكمات والقرارات الخاصة بكل فرد ضمن جماعة ما – موجودة أو متخيلة- لصالح حركة وموجة الحشد / القطيع. ويميز علم الاجتماع الحشد عن القطيع من حيث طبيعة التشكّل ودرجة الوعي الفردي، فـالحشد هو تجمع بشري عفوي لا تراتبية فيه يتكوّن حول هدف ما، بفعل تعاطف متبادل بين أفراده مع هامش نسبي للاستقلالية في الرأي والسلوك. أما القطيع، فهو حالة من السلوك الجمعي القائم على الانقياد غير النقدي والاتباع الأعمى لحركة الجماعة ورموزها، بشعور غريزي يؤججه الخوف، ما يجعلها بيئة خصبة للاستغلال والتحكم، وتختلف طبيعته بين أبناء مدينة لها وجهاؤها وأعيانها؛ تخشى من الفيضان أو من هجوم معاد، وبين جماعة إثنية أو دينية تمتلك في ذاكرتها الجمعية سردية تاريخية بعيدا عن دقة تلك السردية والمظلومية.
لا يمكن نكران ظاهرة التحشيد في السويداء؛ التي أربكت مثقفين كثر وجعلتهم متضامنين تيمنا بعقدة الخوف، أو استجابة للغة الحشد وانفعاليته، وتأثرا بحالة التجييش والعنف والعنف المقابل، قوبلت بموقف عام يطالبهم باتخاذ موقف أكثر جرأة ضد الهجرية السياسية.
في السياق السوري ورغم اشتغال الأسد على عقدة خوف الجميع من الجميع؛ لا يمكن القول بوجود حالة تحشيد أو خوف حقيقي بين المكونات، لذا فإن مفهوم التحشيد لتحقيق مجتمع القطيع بتعريفه العلمي؛ لا يشمل الأقليات الدينية أو العرقية السورية، وليس سمة لها عموما. أدى سقوط النظام لتظافر شركائه من أفراد وميليشيات مرتبطة لحماية نفسها، أو تأمين حصة من الحكم والنفوذ عبر تحشيد احترفته ضمن الجماعات التي تنتمي لها، لذا فإن الحديث عن التحشيد يتركز حول مناقشته كآلية تحترفها رموز وقوى ضمن الجماعة ولا يعني وصم الجماعة برمتها؛ ويؤدي تحليله وقياسه لاستكناه قدرته على تشكيل وزن اعتباري عبر نزوع يقود الجماعة، أو يورطها لاحتكار تمثيلها وقيادتها، وفرض سلطة التكريس، وتعويم الاتباع والانقياد؛ تحقيقا لمطامح ونفوذ تحت مسمى مصلحة الجماعة.
تلجأ الأقليات إلى مفهوم التحشيد بوصفه أداة سياسية واجتماعية تمنحها وزنًا يتجاوز حجمها العددي، فيُستخدم لإظهار القوة الرمزية وتعزيز الموقف التفاوضي مع السلطة أو الأطراف الأخرى، وهو إذ يحمل الهوية الثقافية للجماعة ويطرحها كهوية موازية ذات هدف سياسي يدفعها باتجاه دور خارج أطر الدولة؛ ما يفضي إلى تكريس التفارق والتمايز، وتعميق الانقسامات المجتمعية، وإعاقة بناء مشروع وطني جامع. يجب على السلطة لتحقيق كيان الدولة وضمان استقرارها؛ إنهاء شتى آليات التفارق بين الجماعة المحلية والجماعة الوطنية- الشعب- سواء عبر الحوار والبرامج المدنية كما حصل في تركيا في ملف الأكراد عموما، أو كما يجب في المراحل المفصلية عبر إجراءات تقييدية أو أمنية تهدف إلى تفكيك شبكات التعبئة، ومنع تحوّلها إلى قوة ضاغطة على القرار المركزي، وفي كلتا الحالتين، يتحدد شرط استيعاب التحشيد أو تفكيكه بألا يتبع الأخير نهج العنف أو التخابر مع قوى خارج الدولة.
تتجلى إشكالية التحشيد في مثالين بارزين: الجزيرة السورية الخاضعة لقوة أمر واقع كردية لا تمثل الكرد؛ حيث توفر القوة العسكرية التي ولدت نزوعا للسلطة دافعا يبرر استمرار التعبئة والتحشيد، وفي السويداء ذات الأغلبية الدرزية، تحقيقا لنزعة قوة تسعى للنفوذ والاستحواذ تحتذي بسابقتها؛ لنجد أن الحقيقة ليست عقدة خوف بل نزعة قوة وتمرد، ودليل ذلك أنه إذا كان الخوف هو المحرك الأساس، فلماذا يتركز في مناطق الأقليات التي تمتلك قوة عسكرية، أو طاقة تحشيد بينما لم يظهر لدى أقليات مشابهة كالإسماعيليين والمسيحيين، الذين يفتقرون لهذه المقومات العسكرية، ويحتاجون – منطقياً – إلى تحشيد أكبر لمواجهة الخوف المتخيل، ومع ذلك لم يلجؤوا إليه؟
“العصبيات يمكنها بناء سلطات، ولكنها لا تبني وطنا يتجاوزها ،ذلك أن مفهومها للمجال الحيوي لا يعدو عن كونه مناطق نفوذ وصراعا عليه..”.
لا يمكن نكران ظاهرة التحشيد في السويداء؛ التي أربكت مثقفين كثر وجعلتهم متضامنين تيمنا بعقدة الخوف، أو استجابة للغة الحشد وانفعاليته، وتأثرا بحالة التجييش والعنف و العنف المقابل، قوبلت بموقف عام يطالبهم باتخاذ موقف أكثر جرأة ضد الهجرية السياسية ما ولد انكماشا أو شعورا بالتنحية، ترافق بإدانة للهجري وتعميمات خاطئة ضد الدروز من العامة، فولد شعورًا بالغبن دفعهم إلى تحيز مبرر إنسانيًا واجتماعيًا، لكنه منحرف سياسيًا. هذا الشعور لم يُقابل بقيود كبيرة على التعبير في قنوات مثل تلفزيون سوريا أو الإخبارية السورية، بخلاف ما واجهته الأكثرية، التي تتعالى على العصبية وتفتقر لمقومات البنية وتتسم بالتعدد وتنوع الواقف وتناقضها كذلك، فماذا لو قسنا ذلك على ما عانته الأكثرية من إقصاء وتدجين وجلد؟ فقد عانت الأكثرية التحييد الإعلامي والسياسي في عهد النظام، ثم في إعلام الثورة، نتيجة وصمها بالإسلام السياسي أو حواضن لتنظيم داعش، ما ولّد لديها جرحًا نرجسيًا مركبًا، شعور بالظلم من التحييد، وإحساس بمحاولة إفشال دورها التاريخي كأكثرية يفترض أن تتحمل مسؤولية “الأب” أو “الأمة” كما صاغه ياسين الحافظ، لكنها حُرمت من ممارسة هذا الدور، وعوملت كندّ لا كأخ، بما يجردها من شعور التكليف ومسؤوليته التاريخية كأكثرية وحامل للتغيير وفقًا للمفهوم الماركسي.
وردا على الفعل السياسي الأقلوي الذي يستثمر في العصبيات تحضر مقولة مصطفى حجازي: “العصبيات يمكنها بناء سلطات، ولكنها لا تبني وطنا يتجاوزها ،ذلك أن مفهومها للمجال الحيوي لا يعدو عن كونه مناطق نفوذ وصراعا عليه، ما يفتح حالات متنوعة في شدتها من فقدان المناعة الوطنية، ويصل فقدان المناعة أقصاه عندما تبحث هذه العصبيات عن حلفاء أو حماة خارجيين في حربها مع سواها في الداخل، وحين لا يتشكل مفهوم الوطن، فإن كيانه ذاته هو الذي سيهدد، وإذا هدر كيان الوطن من قبل العصبيات الداخلية فإنه سيسهل على القوى الخارجية السطو عليه وسرقته سواء بالاحتلال أو الاستغلال أو كليهما معا “
شارك هذا المقال
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية