جدول المحتويات
كتب: هاني كمال الدين
في خضم موجات متلاحقة من التوترات الإقليمية المتصاعدة، من الصراع المفتوح بين إسرائيل وإيران وصولاً إلى تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، بدأت تركيا تعيد رسم استراتيجيتها الدفاعية بصورة شاملة. القرار التركي لا يعكس فقط قلق أنقرة من المخاطر المباشرة في محيطها الإقليمي، بل يعبر عن إدراك استراتيجي أعمق بضرورة مواكبة التحولات الجذرية في طبيعة الحروب الحديثة، حيث بات التفوق التقني والذكاء الاصطناعي جزءاً لا يتجزأ من معادلات القوة العسكرية في القرن الحادي والعشرين.
دوافع إعادة رسم الاستراتيجية: أمن قومي أمام مفترق خطير
تدرك أنقرة أن خارطة التحالفات والنزاعات في المنطقة باتت أكثر تعقيداً وهشاشة مما كانت عليه في أي وقت مضى. فالصدام المتصاعد بين إسرائيل وإيران ينذر بانفجار إقليمي واسع قد يمتد شرره إلى عمق منطقة الشرق الأوسط برمتها، بينما تعمّق الحرب الروسية الأوكرانية الانقسامات الدولية، في ظل اشتداد المواجهة بين المعسكرين الغربي والشرقي.
وسط هذا المشهد المأزوم، رأت القيادة التركية أن منظومتها الدفاعية بحاجة لإعادة تقييم جذرية لا تقتصر على تحديث التسليح أو تعزيز الجاهزية التقليدية فحسب، بل تتطلب إدخال عناصر نوعية قادرة على تأمين البلاد ضد الأخطار المعقدة والمركبة في الحاضر والمستقبل، وهو ما دفع تركيا لتعتمد شعاراً حاسماً لهذه المرحلة: تركيا تعيد رسم استراتيجيتها الدفاعية.
اجتماعات مغلقة تضع الأسس الجديدة للعقيدة الدفاعية
كشفت مصادر تركية مطلعة أن سلسلة من الاجتماعات المكثفة عقدت خلال الأسابيع الماضية ضمت قيادات الأجهزة الأمنية والعسكرية والاستخباراتية والدبلوماسية لوضع اللبنات الأساسية للاستراتيجية الدفاعية الجديدة. هذه اللقاءات ناقشت، بتفاصيل دقيقة، جميع السيناريوهات المتوقعة في ظل البيئة الإقليمية المتوترة، مع التركيز على نقاط الضعف والتهديدات المتطورة التي قد تستغلها أطراف معادية للنيل من استقرار تركيا.
وتركزت المحاور الرئيسية لهذه الاجتماعات حول كيفية تعزيز الدفاع الجوي، وتطوير قدرات الردع الإلكتروني، وتأمين البنية التحتية الحيوية، وضمان حماية القيادة السياسية والعسكرية من أي محاولات استهداف مباشر في حال تصاعدت المواجهات الإقليمية.
التفوق الجوي: ركيزة الاستراتيجية التركية الجديدة
وضعت القيادة التركية التفوق الجوي على رأس أولوياتها الدفاعية الجديدة. ففي ظل اعتماد الخصوم الإقليميين بشكل متزايد على الغارات الجوية والهجمات الصاروخية الدقيقة، تدرك أنقرة أن السيطرة على الأجواء تمثل خط الدفاع الأول في أي مواجهة مستقبلية.
ولهذا الغرض، تعمل وزارة الدفاع التركية على تطوير برامج متقدمة للطائرات المسيّرة المسلحة، وتحديث أنظمة الدفاع الجوي القادرة على اعتراض التهديدات الباليستية والطائرات الهجومية، مع تعزيز قدرات القيادة والسيطرة في ميادين المعركة الجوية بما يسمح بإدارة المعارك بشكل لحظي ومرن أمام مختلف السيناريوهات.
الذكاء الاصطناعي: حليف استراتيجي في المواجهات الحديثة
لعل التحول الأبرز في استراتيجية تركيا الدفاعية الجديدة يتمثل في دمج الذكاء الاصطناعي على نطاق غير مسبوق ضمن منظوماتها العسكرية. فوفق المصادر، باتت أنقرة تولي أهمية خاصة لتطوير منصات قتالية ذاتية التحكم قادرة على رصد الأخطار ومواجهتها دون تدخل مباشر من العنصر البشري، بما يقلل من الأخطاء البشرية ويضمن سرعة التفاعل مع التهديدات المتغيرة.
وتشمل هذه التطبيقات الذكية تطوير أسراب الطائرات المسيرة التي تعمل بتنسيق جماعي مستقل، والأنظمة الصاروخية الموجهة ذاتياً، وشبكات الدفاع الإلكتروني التي تستخدم تقنيات التعلم الآلي في رصد الاختراقات السيبرانية والتصدي لها بشكل فوري.
حماية القيادة والمنشآت الحيوية: تعزيز الحصون الداخلية
إلى جانب الجاهزية الهجومية، تولي الاستراتيجية التركية الجديدة اهتماماً خاصاً بتحصين الداخل، حيث يجري تعزيز منظومات الحماية الأمنية للقيادة السياسية والعسكرية، بما يشمل خطط الإخلاء السريع في حالات الطوارئ، وتحصين مقار القيادة الاستراتيجية ضد أي هجمات مفاجئة.
كما يتم تحديث منظومات حماية البنى التحتية الحيوية كشبكات الطاقة والمياه والاتصالات والمرافق النووية، التي قد تصبح أهدافاً مغرية لأي طرف يسعى لشل قدرة تركيا على إدارة أي صراع ممتد.
الوساطة التركية في الأزمة النووية الإيرانية
بالتوازي مع إعادة ترتيب أوراقها العسكرية، تواصل تركيا لعب دور دبلوماسي نشط في محاولة نزع فتيل التصعيد الإقليمي، لاسيما في الملف النووي الإيراني. فقد أفادت تقارير صحفية تركية أن الرئيس رجب طيب أردوغان عرض على نظيره الأمريكي دونالد ترامب إعادة إحياء المفاوضات مع طهران، في خطوة تهدف إلى الحد من احتمالات الانزلاق نحو مواجهة عسكرية شاملة.
يعكس هذا التحرك رغبة تركيا في تثبيت موقعها كلاعب إقليمي محوري قادر على التوسط بين القوى الكبرى المتصارعة، مستغلة في ذلك علاقاتها المتوازنة مع جميع الأطراف من أجل حماية مصالحها ومنع تصعيد خطير قد يقوض استقرار المنطقة بأسرها.
رسائل إيرانية تحذيرية تثير قلق أنقرة
وفي مؤشر خطير على تصاعد وتيرة التوترات، كشفت مصادر دبلوماسية أن إيران وجهت خلال الأيام الأخيرة تحذيرات مباشرة إلى دولة قطر بشأن احتمال تعرض القواعد الأمريكية على أراضيها لضربات صاروخية في حال اندلاع مواجهة مفتوحة مع الولايات المتحدة أو إسرائيل.
هذا التصعيد الإيراني يثير قلق أنقرة من تمدد نيران الحرب إلى منطقة الخليج الحيوية، بما يهدد أمن إمدادات الطاقة ويعرض خطوط التجارة الدولية للخطر، وهي تطورات ترى تركيا أنها ستنعكس مباشرة على أمنها القومي واستقرارها الداخلي.
تركيا بين المواجهة والوساطة: توازن دقيق في زمن الاضطرابات
تكشف ملامح الاستراتيجية التركية الجديدة عن إدراك واضح لحجم التحديات المعقدة التي تحيط بالدولة التركية في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ المنطقة. ففي الوقت الذي تعمل فيه أنقرة على تطوير قدراتها العسكرية الدفاعية والهجومية لتكون قادرة على مواجهة أسوأ السيناريوهات، تحرص في ذات الوقت على الحفاظ على دور الوسيط الفاعل الذي يمكنه نزع فتيل الأزمات قبل أن تتحول إلى حروب مدمرة.
فالتوازن الذي تسعى تركيا لتحقيقه بين تطوير عناصر الردع والاحتفاظ بمرونة سياسية يسمح لها بلعب أدوار دبلوماسية مؤثرة قد يكون مفتاحاً أساسياً للحفاظ على استقرارها وسط منطقة تموج بالاضطرابات المتلاحقة.
نظرة مستقبلية: خارطة أمنية جديدة تتشكل
لا يبدو أن منطقة الشرق الأوسط مقبلة على استقرار قريب في ظل تصاعد التجاذبات الإقليمية والدولية التي تتشابك فيها ملفات إيران وإسرائيل، وأزمة روسيا وأوكرانيا، والتوترات المتزايدة في الخليج. في هذا السياق، تتحرك تركيا بحذر لرسم استراتيجية دفاعية مرنة وقوية تتيح لها مواجهة التعقيدات المتغيرة بسرعة دون أن تنجر مباشرة إلى أتون صراعات قد تفتح أبواب الفوضى على مصراعيها.
وستبقى عبارة “تركيا تعيد رسم استراتيجيتها الدفاعية” العنوان العريض للمرحلة القادمة من سياسة أنقرة الدفاعية، التي تجمع بين القوة الذكية والحنكة الدبلوماسية في إدارة تحديات مرحلة شديدة الحساسية في تاريخ العلاقات الدولية.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر