«نبض الخليج»
هناك شريحة سورية كبيرة اليوم تريد ثمناً بسبب مشاركتها بالثورة، وهم كثر، لا يكفون ليل نهار عن تذكيرنا بمنجزهم. وقد يكون الحق معهم، فقد تكافئ الثورة من وقف في صفها أو تحمس لها أو قام بها. وهو ما حدث مع شريحة كبيرة من السوريين، شاركت بالثورة بطريقة أو بأخرى وكافأت منتسبيها كنوع من الشكر أو التقدير أو الثقة أو الانتقام من مرحلة سابقة!
للمتابع أن يرى كذلك في ذلك خروجاً على سلم القيم، وأن الأصل في أن الناس لم تشارك بالثورة كي تحصل على مكافآات أو عطايا أو هبات أو هدايا أو غنائم، بل شاركت نتيجة رغبتها بإحلال قيم كبرى بدل القيم السائدة المهترئة، فالبحث عن أثمان يصلح لبلتجارة والبيع والشراء!
وكما في كل الثورات والأنشطة العامة ليس من الضروري أن يكون كل المشاركين ينتمون لسلم القيم ذاته أو تاكون غاياتهم من اللون ذاته. بل هناك من يشارك في اللحظات الأخيرة نتيجة رغبته بالحصول على منافع مباشرة، وهناك من يشارك نتيجة حرصه على حصول تبدل عميق في بنية الدولة واملجتمع، وهذا التبدل العميق سيجلب الخيير للبلاد كل البلاد!
جوانب عدة من التخبط الإداري قد تكون طبيعية ومقبولة ومسوغة في المراحل الانتقالية، لكن ما يلفت النظر أن تلك الجوانب تحدث مع الأشخاص الذين ليسوا من الجماعة التي أمثلها أو أنتمي إليها لأن أمور هؤلاء تمشي في الدوائر الحكومية بيسر وسلاسة (سبحان الله).
ولعل في ظاهرة التكويع وتقديم سرديات جديدة لكثيرين خير مثال على ذلك، إذ قد تجد شخصاً هرب من البلد بسبب فساده يقدم نفسه أنه ابن الثورة، بل إنك تجد عشرات لم تسمع لهم كلمة واحدة إبان الثورة، باتوا اليوم نجوم ثورة! كل ذلك طبيعي في إطار حركة الشعوب والبحث عن منافع ومكاسب، في إطار أنماط كثيرة تفهم الحياة أنها رحلة بيع وشراء وليست رحخلة قيم ومبادئ ورسائل سامية!
وفي إطار الخيبات فقد أُصِيب الموظفون الذين فصلوا بسبب المشاركة بأعمال الثورة بخيبة امل كبيرة بخاصة من سلوكات السلطة الحالية، وأول خييبة أمل كانت أمام عوائلهم وأطفالهم وأصدقائهم، وقد أسهبوا إبان مشاركتهم في الحديث عن السبب الذي جعلهم يتركون عملهم ويغادرون البلاد، وبعد ان انتصر خيار الثورة في سوريا بات أولادهم يسألونهم بخفر: ماذا حدث معكم؟ حتى تلاشى السؤال أولاً بأول، خشية مزيد من الإحراج من قبل الأبناء للآباء.
ومصدر آخر للحرج هو موقفهم أمام الفلول، حيث إن الكثير من القرارات التي تخصهم كان يقررها الفلول، أو يكونون هم الأساس في القرار: يوافقون على عودتهم أو لا يوافقون كما هو الحال في المجالس الجامعية!
الإجابات التي يحصل عليها أولئك الموظفون المفصولون نتيجة المشاركة بأعمال الثورة السورية من الإداريين كانت مجلبة للشعور بالألم والحسرة، ففي الوقت الذي يسمعون فيه تلك الأجوبة الممتلئة بالعقم الإداري، لا سيما أن كثيرين منهم سبق أن شغلوا مواقع إدارية، ويعرفون زواريب تلك الأجوبة، كانوا يرون أن كثيرين يتمّ تعيينهم بغض النظر عن الكفاءة، بل إن عشرات منهم ليس لهم توصيف وظيفي في السجل الأساسي للعاملين في الدولة! أو يتم إسقاطهم ب”الباراشوت”تحت نظرية الشرعية الثورية في مواقع إدارية خارج أي اعتبار أو معطى او كفاءة غير كفاءة البيعة والولاء!
جوانب عدة من التخبط الإداري قد تكون طبيعية ومقبولة ومسوغة في المراحل الانتقالية، لكن ما يلفت النظر أن تلك الجوانب تحدث مع الأشخاص الذين ليسوا من الجماعة التي أمثلها أو أنتمي إليها لأن أمور هؤلاء تمشي في الدوائر الحكومية بيسر وسلاسة (سبحان الله).
توقع متفائلون كثيرون أن إعادة العاملين السابقين المفصولين بسبب المشاركة بأعمال الثورة ستكون من أول القرارات الإدارية للحكومة الانتقالية الأولى! نعم حدث هذا! لكن من تمت إعادتهم هم شخصيات محددة تم اختيارها لأنها من فريقي أو فريقك (من جماعتنا)!
عادة ما ينتظر الناس من الثورات بعد انتصارها أن تحق الحق وترفع المظالم وتعيد الكفاءات المستبعدة لأن ذلك يدخل في أطر التفكير الطبيعي، لكن ما حدث في سوريا حتى اللحظة يبعث على الحيرة ويفتح أبواب (لو)!
نقل لي أحد الأصدقاء ممن عرض على لجنة تم تشكيلها لمقابلة المفصولين في إحدى الجامعات السورية بسبب المشاركة بأعمال الثورة أن أحد أعضاء اللجنة سأله: لماذا ترغب بالعودة إلى العمل؟
احمر وجه صديقي واخضر، شعر أن السؤال فيه احتقار لخياره، غير أنه قرر أن يرد على السائل، (للمصادفة أن السائل في وضع قانوني يشبه وضع صديقي لكن الرجل له علاقات مع القيادات العليا فأعيد إلى منصب عال مباشرة!)
: أريد العودة إلى العمل لأن هذا حقي القانوني، ولأنني تعرضت للظلم، ولأن الثورة يفترض بها أنها تعيد الحقوق إلى أهلها، ولأشعر بالعزاء بانتصار ثورتي، ولكي أسهم في بناء الدولة الجديدة، وكذلك لأشعر أن الخيار الذي اتخذته ودفعت ثمناً له هو خيار صحيح وكي لا أخجل حين أنظر إلى عيون أطفالي، وكي نخفف من الفساد في البلد وأعود مرفوع الرأس إلى جامعتي ومحاضرتي وطلابي!
إن العودة إلى البلد والرغبة بالمشاركة ببنائه من قبل كثيرين، لا ترتبط بوظيفة أو موقع إداري، أو عشم في سلطة حالية أو لاحقة.
بعد ذلك تابع صديقي متوجهاً إلى عضو اللجنة: هل يمكن أن توجه السؤال إلى ذاتك، ووضعك مثل وضعي، وحارتنا ضيقة ونعرف بعضنا، وأنا لا أرغب بالعودة للحصول على منصب مثلك؟
قيل في سياق الحديث عن الثورة السورية يوماً أنه من المعيب أن نقول إن الكثير من السوريين خرجوا اعتراضاً على الفساد أو التجويع أو لاستعادة الأراضي المستملكة من الدولة أو سوى ذلك…وطالب النشطاء من الناس القول: إننا خرجنا من أجل الحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية..أي أنه من الضروري أن نتحدث عن القيم الفلسفية الكبرى! كأن تمثلات هذه القيم في الحياة اليومية ليست مبدأ تكافؤ الفرص أو الشعور بامتلاك الكفايات الأساسية ومنها أن تعيش بعيداً عن خط الفقر مثلأ، أو أن تستعيد حقاً مسلوباً!
من مضحكات الزمان أن عدداً كبيراً من الشبيحة والفلول يرشحون لمواقع إدارية مهمة في الدولة الجديدة (في إطار التخبط الإداري والاقتناع بمركزية الذات التي تمسك بالسلطة) فيما أبناء الثورة يقفون على أبوابهم المرة تلو الأخرى ليعودوا إلى عملهم فحسب!
تلك حسرة أخرى من حسرات الزمن السوري، ولا سيما أن الكثير من أولئك الراغبين بالعودة إلى عملهم من المفصولين بسبب المشاركة بأعمال الثورة السورية تركوا وظائفهم ومشاغلهم في البلدان التي لجؤوا إليها وعادوا سريعاً إلى بلدهم للمساهمة في إعادة بنائها بخاصة أنهم اكتسبوا خبرات شاسعة، دون السؤال عن أي مكسب أو مرتب أو موقع، وإذ بهم يواجهون بالإهمال والتعقيد الإداري وكأن من وصلوا إلى السلطة ليسوا من أبناء الثورة ذاتها التي فصلوا من عملهم بسببها، وبدا أن الثورة التي فصل أولئك العاملون بسببها غير الثورة التي وصلت إلى السلطة حالياً حيث يقررون ما يشاؤون، وفقاً لم ا يريدون ومرجعهم القانوني ما يرونه هم في إطار شرعيتهم الثورية!
أما ثورة (اللاجئين الحاليين إلى سوريا)، بلدهم الأم، من العاملين السابقين المفصولين بسبب الثورة، فإن التعامل معهم إدارياً فيه من المهانة، وتحقير الإهمال، ما لم يجدوه في بلدان سبق أن لجؤوا إليها قبل
سنوات ولا تعرف عنهم شيئاً ولم يساهموا في تاريخها، غير أنها عاملتهم كبشر طبيعيين من حقهم أن يحصلوا على فرص تليق بهم، حفظاً لإنسانيتهم وكرامتهم!
من المهم أخيراً القول: إن العودة إلى البلد والرغبة بالمشاركة ببنائه من قبل كثيرين، لا ترتبط بوظيفة أو موقع إداري، أو عشم في سلطة حالية أو لاحقة…
بل ترتبط بالأمل الذي يأتي من وجوه ناسه وتاريخه وجغرافيته وما قام به الأجداد حتى يحافظوا عليه، قبل كل شيء، ترتبط بوقع خطواتك وأنت تمشي وتغني مع الشيخ إمام (بشيء من التعديل):
سوريا يا أما يا بهية
يا أم لحية وجلابية
الزمن شاب وانت شابة
هو رايح وأنت جاية!
جايز تطلعي من الحكاية
لسا فيها شوية امل ..شوية أمل…!
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية