جدول المحتويات
«نبض الخليج»
في بلدٍ أنهكته الحرب، والاستقطاب، وانهيار الاقتصاد، يكتسب نجاح أي مبادرة محلية معنى يتجاوز حدودها الجغرافية. إذ بقدر ما تصبح هذه المبادرة مهمة على المستوى المحلي، بقدر ما تصبح فرصة لدروس متعلمة على المستوى الوطني.
جاءت حملة “أبشري حوران”، والتي انطلقت في نهاية شهر آب، واستمرت حتى الرابع من شهر أيلول 2025، مقدمةً نموذجًا حظي باهتمام محلي واسع، وبإشادة كبيرة من أغلب شرائح ومحافظات البلاد. اعتُبرت الحملة ناجحة لسببين أساسيين. فمن ناحية أولى، تمكنت الحملة من جمع ما يقرب من 50 مليون دولار، منها 40 مليونًا في اليوم الأول، متجاوزةً الرقم المعلن المستهدف، والذي كان بحدود 32 مليون دولار. ومن ناحية ثانية، ظهرت الحملة كعامل مكرّس للتماسك الاجتماعي ضمن المحافظة، بعيدة كل البعد عن الاستقطابات السياسية والاجتماعية. بالتأكيد، لا يمكن تعميم هذا الأمر خلف حدود المحافظة الإدارية، كونها ربما كرّست الشرخ مع الجارة السويداء في ظل الظرف الراهن.
بالتأكيد لا يمكن اختزال نجاح حملة “أبشري حوران” بالأرقام، ولا في حجم الموارد التي تم حشدها فقط، على أهميتهما. إذ إن الأمر الأهم – برأيي – هو أنها أعادت تعريف الممكن: نعم، يستطيع المجتمع المحلي بموارده الذاتية أن يدير استجابة منظمة تعجز عنها مؤسسات أكبر وأغنى. ونعم، يمكن للمجتمع المحلي أن يوفر موارد أكثر أهمية من تحويلات المانحين، ناهيك عن استقلاليتها وسيادتها! هذا النجاح هو رسالة بأن المجتمع، حين يُمنح المساحة والثقة، قادر على تنظيم نفسه وبناء نموذج بديل لما يمكن أن تكون عليه سوريا الغد.
الهوية المحلية قوة جامعة تعزز الهوية الوطنية ولا تضعفها، شريطة أن تحترم الهوية الوطنية نظيرتها المحلية!
ما الدروس التي تعلمناها؟
ثلاثة دروس برأيي هي الأسس: القلب أو لنقل الهوية، والعقل أو لنقل التنظيم، والربط بينهما عبر عملية تشاركية.
الدرس الأول: الهوية المحلية أو القلب
الهوية المحلية قوة جامعة تعزز الهوية الوطنية ولا تضعفها، شريطة أن تحترم الهوية الوطنية نظيرتها المحلية!
استندت الحملة إلى الجذر الفلاحي الحوراني ومعنى “الفزعة”، أي ثقافة النجدة المتأصلة في المجتمع. غير أن سر قوتها لم يكن في استدعاء الهوية المحلية فحسب، بل في تحويلها إلى هوية سورية جامعة. فاستخدام بصرى كرمز لم يكرّس الانقسام، بل وسّع دوائر الانتماء. يقول أحد المنظمين:
“كان بالإمكان الذهاب إلى الجامع العمري، لكن الجامع رمز من رموز الثورة، ونحن نريد الانتقال من الثورة إلى الدولة. من جهة أخرى، أردنا احترام المقدّس لأننا أردنا الاحتفال والغناء، فذهبنا إلى المسرح، حيث يجب الغناء والمسرح. لم نختر رمزًا يفرق على أساس ديني أو سياسي، أردنا رمزًا جامعًا.”
فوق هذا وذاك، كان واضحًا أن الخطاب ابتعد بذكاء عن الاستقطاب الديني والسياسي والجهوي، ليكرّس فكرة أن “أبشري حوران” ليست لأهل حوران وحدهم، بل لكل السوريين والسوريات.
الدرس الثاني: التنظيم أو العقل
دون أدنى شك، لعبت الهوية عاملًا حاسمًا. غير أن العمل الجماعي لا ينجح في نهاية المطاف بالنيات والفزعات وحدها، بل بآليات واضحة. وهنا جاءت المسألة الأبرز: عملية التنظيم التي انطوت على مبدأ التخصص وفصل السلطات. إذ قامت السلطات المحلية (المحافظ والمكتب التنفيذي بالتعاون مع المجالس المحلية) بتحديد الاحتياجات ومن ثم التنفيذ، في حين تصدّى المجتمع عبر تشكيلاته المدنية ذاتية التأسيس بتحصيل التمويل، ومن ثم الرقابة على التنفيذ.
من يمول يراقب بسلطته الاجتماعية، ومن ينفذ ينسق بين أطراف الحكومة المحلية والمركزية لضمان حسن الأداء مستندًا إلى سلطته الحكومية.
يفترض أن تمنع هذه البنية تضارب المصالح، لتعطي للناس شعورًا بأن مساهماتهم تُدار بعقل منظم وبارد لا بعشوائية. الثقة التي تولّدت كانت أكبر من أي حملة دعائية.
الدرس الثالث: التشاركية تصنع الشرعية وتربط العقل بالقلب
أحد العوامل الحاسمة – برأيي – كانت قضية التشاور مع المجتمعات المحلية. فالمجالس هي من حددت الأولويات، وبدورها عقدت لقاءات تشاورية مع المجتمع للوقوف على الاحتياج. لم تكن الاجتماعات إجراءً شكليًا، بل مساحة حقيقية للحوار والمشاركة. فقد جمعت المنظمات مع المجالس المحلية، وفتحت المجال أمام المجموعات النقابية والنسائية لتكون جزءًا من النقاش. كما عقدت اللجنة المنظمة العديد من الاجتماعات مع مختلف الفعاليات المحلية لتنسيق الجهود وتوحيد الرؤية.
منح هذا التفاعل العملية طابعًا شعبيًا، وأبعدها عن صورة القرارات المفروضة من فوق. وهكذا شعر المجتمع أنه شريك حقيقي في صياغة ما يجري، لا مجرد مستفيد منه، وأن الشرعية نُسجت بالتشاور والاتفاق لا بالفرض أو الإملاء.
إن تجربة “أبشري حوران” لا تقدّم لنا قصة نجاح محلية فحسب، بل تضع أمامنا خريطة طريق لمستقبل الحكم المحلي في سوريا.
على المستوى الوطني
لكن ما الذي يعنيه كل هذا على المستوى الوطني؟ ربما كان الدرس الأهم هنا أن “أبشري حوران” كانت تجربة عملية في اللامركزية. فالقرار محلي ومستند إلى احتياجات حددتها المجتمعات بصيَغ تشاركية، والموارد وإدارتها ذاتية، والرقابة المباشرة للمجتمع هي في حقيقة الأمر جوهر اللامركزية.
لقد أثبتت التجربة أن المجتمعات المحلية، حين تمتلك زمام المبادرة، قادرة على الإنجاز بكفاءة وعدالة تفوق بيروقراطية المركز، مما يجعل هذه الحملة أقرب ما يكون إلى مختبر حي لما قد تكون عليه سوريا إذا ما تبنّت نهج اللامركزية الفعلية. وبالتالي فإن من أبرز ما تكشفه التجربة أنها ليست استثناءً محكومًا بالظروف، بل تحمل عناصر يمكن نقلها وتكييفها في مناطق أخرى، وعلى الأسس الثلاثة الأساسية:
-
الاعتماد على الهوية الجامعة.
-
بناء هياكل تنظيمية واضحة.
-
فتح المجال للتشاركية الشعبية.
غير أن هذه اللامركزية لم تعنِ أن المركز كان غائبًا، بل على العكس، فإن جوهر اللامركزية هو وجود مركز قوي. فالمركز قدّم جزءًا مهمًا من الموارد، وبالتالي سيكون جزءًا من اتخاذ القرار، وهو أيضًا جوهر اللامركزية. فاللامركزية لا تعني إضعاف المركز، بل تعني مركزًا قويًا وأطرافًا قوية.
أبعد من هذا، أن بعض التبرعات كانت محددة بمنطقة أو بلدة بعينها. وهنا، بدل المحافظ والمكتب التنفيذي كسلطات مركزية في المحافظة، فإن المعني هو المجلس المحلي مباشرة، دون تدخل من “مركز المحافظة” فيه، بما يعني هذا تكريسًا حقيقيًا للامركزية، وعلى كل المستويات.
الخاتمة
إن تجربة “أبشري حوران” لا تقدّم لنا قصة نجاح محلية فحسب، بل تضع أمامنا خريطة طريق لمستقبل الحكم المحلي في سوريا. فقد أثبتت أن الهوية حين تُستَخدم كجسر لا كخندق، تصبح أداة للوحدة الوطنية، وأن التنظيم حين يقوم على وضوح الأدوار وفصل السلطات، يولّد ثقة تتجاوز أي حملة دعائية، وأن التشاركية حين تُمارَس بجدّية تخلق شرعية لا تستطيع أي سلطة أن تفرضها من فوق.
وربما كان الأهم هو أن هذه التجربة أعادت الاعتبار لفكرة اللامركزية، ليس كمجرد شعار سياسي أو مطلب نخبوي مضطرب أو مفهوم غائم، بل كواقع عملي يولد من رحم المجتمعات المحلية ويعتمد على توازن صحي بين المركز والأطراف. فهي تقول لنا بوضوح: لا نجاح لمركز قوي من دون أطراف قوية، ولا معنى للامركزية إن لم يكن هناك مركز قادر على ضمان العدالة والتكامل.
وهكذا، فإن “أبشري حوران” لم تكن مجرد حملة عابرة، بل لحظة كاشفة لما يمكن أن تبنيه سوريا الغد إذا آمنت بقدرة مجتمعاتها على الفعل، وإذا تحوّل التفاعل بين القلب (الهوية) والعقل (التنظيم) والروح (التشاركية) إلى منهج دائم في إدارة الشأن العام.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية