جدول المحتويات
«نبض الخليج»
في تقرير موسّع نشرته صحيفة لوس أنجلوس تايمز، تكشف الصحيفة عن تفاصيل الأزمة النقدية الخانقة التي يعيشها السوريون بعد سقوط نظام الأسد، حيث تحولت عملية سحب بضع ليرات من المصارف إلى رحلة شاقة تمتد لساعات طويلة. وبينما يقف المواطنون في طوابير لا تنتهي تحت شمس دمشق الحارقة، يواجه ملايين السوريين واقعاً اقتصادياً يصفه خبراء بأنه “جحيم مصرفي”، في ظل نقص السيولة، وقيود السحب، وانهيار الثقة بالنظام المالي الذي لم تفلح إجراءات الحكومة الجديدة في إنقاذه.
يعرض موقع تلفزيون سوريا هذا التقرير في إطار التغطية الإعلامية للملفات المتعلقة بواقع الاقتصاد في سوريا، مع الإشارة إلى أن ما ورد فيه يعكس رؤية الصحيفة ومصادرها، ويُقدّمها كمادة تحليلية تساعد على فهم طريقة تناول الإعلام الدولي للملف السوري، من دون أن يُعد توثيقاً شاملاً لكامل المشهد أو تبنياً لاستنتاجاته.
وفيما يلي ترجمة موقع تلفزيون سوريا لهذه المادة:
في أثناء وقوفه أمام كوة متهالكة للصراف الآلي الذي يتبع للمصرف الذي أودع فيه نقوده، تنهد ماهر إلياس، 59 عاماً، تنهيدة تنم عن سخط وتعب شديدين، فمن حوله أرتال تضم العشرات من الناس الذين ينتظرون دورهم ليسحبوا المال من الصراف الآلي في هذا الجو القائظ.
“كل هذا الانتظار من أجل ماذا؟”
كان أمام ماهر فترة انتظار لما لا يقل عن ثلاث ساعات، هذا إن لم ينقطع الصراف الآلي عن تقديم خدماته بسبب انقطاع الكهرباء أو عدم توفر النقد لديه، إذ في يوم من أشد الأيام حراً في صيف دمشق، انقطع حديثه عدة مرات بسبب تجادله مع عملاء آخرين ضايقهم هذا الوضع، في حين أبقى ماهر عينيه على مقدمة الرتل الذي كان يتحرك ببطء وهو يتحدث إلينا ويجادل من حوله، وأخيراً قال: “كل هذا الانتظار من أجل ماذا؟” وأخذ يمسح العرق من على جبينه، إذ ليس بوسعه أن يسحب أكثر من مئتي ألف ليرة سورية (أي ما يعادل عشرين دولاراً) في الأسبوع.
ويتابع بالقول: “أسرتي مكونة من خمسة أشخاص، فكم سيبقى من هذا المبلغ ما بين طعام وغاز وإيجار”.
يشارك ماهر والمئات غيره ممن يصطفون في طوابير وصلت إلى رصيف المصرف العقاري السوري في مهمة تتسم بأنها خيالية في معظم الأحيان، في وقت يتعرض ملايين من أبناء وبنات الشعب السوري لأزمة نقدية نجمت عن إسقاط الرئيس السابق بشار الأسد وتولي حكومة ذات قيادة ثورية للحكم من بعده.
منذ أشهر قليلة، تحولت عملية سحب الأموال إلى وظيفة أخرى بدوام كامل على الشعب مزاولتها، ولذلك يضطر الموظفون لأخذ إجازة من العمل من أجل أن يصطفوا في أرتال أمام المصارف، في وقت أضحت مشكلة نقص السيولة تخنق الاقتصاد المدمر بالأصل والذي يسعى للخروج من محنته بعد مرور ما يقرب من 14 عاماً من الحرب.
غير أن أسوأ ما في الأمر بالنسبة لماهر (ولكثيرين غيره) وجوب تكرار عملية الانتظار لسحب المال مرة أخرى في يوم آخر حتى يسحب كامل راتبه الشهري الذي يعادل خمسَمئةِ ألفٍ أي ما يقل عن خمسين دولاراً.
“أتسول في الشارع؟”
ولكن ماهر الذي ما يزال موظفاً لدى الدولة وعميلاً لأحد المصارف الستة التي تملكها يعتبر محظوظاً أكثر من كثيرين غيره، إذ في ذلك الشارع، أخذ محمد، 63 عاماً، يصرخ بأعلى صوته لا على أحد بعينه ولكن أمام أحد المصارف الخاصة التي فتح فيها حساباً، فقد أتى هذا الرجل برفقة حفيدته ماسة البالغة من العمر ست سنوات بعد أن قطع المسافة من بيته الكائن في إحدى ضواحي دمشق إلى المصرف بدمشق، على أمل أن يتوسل لمدير المصرف فيسمح له بسحب مبلغ أكبر.
غير أن المدير أخبره بأن النقد غير متوفر لديهم، كما أن أجهزة الصراف الآلي كانت معطلة، ولذلك لم يعد لدى محمد، الذي أفصح فقط عن اسمه الأول حفاظاً على الخصوصية، حتى أجرة الحافلة التي يمكن أن تقله إلى بيته.
يعلق محمد على ذلك بقوله: “ماذا علي أن أفعل؟ أتسول في الشارع؟ أمضيت أسابيع وأنا آتي إلى هنا، وأولاد الحرام هؤلاء يرفضون إعطائي نقودي” ثم يشير مغاضباً إلى مدخل المصرف، في حين نظرت ماسة إلى جدها من دون أن تنبس ببنت شفة.
أما مدير المصرف الذي جلس في مكتبه ورفض أن يدلي بمعلومات تكشف هويته بما أنه لا يحق له الحديث إلى الإعلام، فقد أكد على عدم وجود أي خيار لديه سوى صرف محمد وغيره من المراجعين، وقال بإنه يفترض بالمصارف الخاصة أن تستلم مبلغاً قدره عشرون ألف دولار نقداً من المصرف المركزي كل يوم، ولكن في أغلب الأحوال لا يصل إلى المصارف سوى مبالغ أقل من ذلك بكثير، بل لا يصلها شيء في كثير من الأحيان.
وأضاف مدير المصرف: “وحتى عند وصول النقد، بالكاد يكفي لتغطية عدد عمليات السحب”، وبعد هنيهة دخل محمد، وهو رجل أعمال، إلى مكتب المدير بهدف سحب مبلغ قدره خمسمئة دولار وذلك حتى يسدد الفواتير التي عليه، لكنه خرج من المكتب خالي الوفاض هو أيضاً.
فجوات كبيرة
عند وصول حكام سوريا الجدد إلى السلطة بعد هجوم سريع مباغت شنوه في كانون الأول الماضي، استولوا على المؤسسات المالية التابعة لحكومة الأسد ووضعوا يدهم على الاقتصاد الذي كانت الدولة تتحكم به والذي أضعفته الحرب والفساد والعقوبات. وقد كان سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار قد وصل إلى 18 ألفاً عند هروب الأسد، وهذا ما جعل معظم الصفقات تتحول إلى إجراءات مرهقة بسبب عملية عد أكياس كاملة من النقود التي صار الناس يجمعونها مسبقاً في أكداس يزن كل منها أكثر من 2.5 كيلوغراماً.
بيد أن سعر الصرف تحسن منذ ذلك الحين، هذا إن كان بوسعنا أن نصف ذلك بالتحسن، فقد وصل إلى 11 ألفاً مقابل الدولار الواحد.
غير أن مخرجات الاقتصاد بقيت أقل من نصف ما كانت عليه في عام 2010، قبل اندلاع الحرب السورية، كما أن ربع سكان سوريا البالغ عددهم 26 مليوناً يعيشون على مبلغ يقل عن دولارين وربع الدولار باليوم الواحد، وذلك بحسب تقييم للبنك الدولي أجري في حزيران الماضي، في حين يحصل ثلثا الشعب السوري مبلغاً يقل عن ثلاثة دولارات و65 سنتاً باليوم، فيما تشير التقديرات إلى أن عملية إعادة إعمار سوريا ستكلف ما بين 250-400 مليار دولار أميركي.
طال الدمار القطاع المصرفي كغيره، فالعقوبات التي فرضت على البلد في زمن الحرب عزلت المصارف السورية عن النظام المالي العالمي، وعلى الرغم من أن الرئيس ترامب أصدر منذ فترة قريبة أمراً يقضي برفع معظم تلك العقوبات، وحذت حكومات الدول الأوروبية حذوه، ما تزال المصارف الغربية ترفض تحريك مبالغ طائلة من الأموال اللازمة لإعادة إعمار سوريا.
سارعت السلطات الجديدة لتخفيف القيود التي فرضت أيام الأسد، فأغرقت السوق بواردات رخيصة ورفعت الحظر الذي كان يجرم التعامل بالدولار، كما فرضت قيوداً على عمليات السحب في محاولة منها لمنع نفاد النقد من المصارف ولحرمان مسؤولي النظام السابق من إفراغ حساباتهم المصرفية والهرب بما يملكون من أموال.
سحب الدولار من السوق
ولكن بعد مرور تسعة أشهر، ما تزال القيود مفروضة مع عدم وضوح السبب الكامن وراء ذلك، وذلك بحسب ما أورده موظفون في المصارف وخبراء اقتصاديون، فقد تحدث البنك الدولي عن نقص في الأوراق النقدية، على الرغم من زيادة بلغت 105 ضعفاً على مقادير العملات خلال الفترة ما بين 2011-2024، وأضاف البنك الدولي إلى أن الأوراق النقدية التي طبعت في روسيا ونقلت بالطائرات إلى سوريا، بما أن روسيا احتكرت طباعة العملة السورية أيام الأسد، كانت قليلة بحيث لم تتمكن من تخفيف أعباء أزمة السيولة في البلد.
في تلك الأثناء، أصبح السوريون والسوريات عاجزين عن الوصول إلى حساباتهم المصرفية ولذلك صاروا يعتمدون على عمليات تصريف الأموال بشكل غير رسمي، والتي كانت ممنوعة أيام الأسد، لكنها أصبحت تجارة مزدهرة اليوم، وذلك ليشتروا مبالغ بالليرة السورية عبر بيع قطع ذهبية أو مبالغ بالدولار جمعوها أيام حكم الأسد، على الرغم من القيود التي كانت مفروضة على ذلك آنذاك. ويرى الخبراء بأن تلك الصفقات أصبحت تتم اليوم بسعر صرف مخفض بشكل وهمي.
يعلق على ذلك سمير العيطة وهو خبير اقتصادي سوري يرأس دائرة الاقتصاديين العرب، فيقول: “يبدو ذلك كسياسة ممنهجة هدفها سحب الدولار من الناس في البلد بعد أن جرى تحريره، وأصبح المصدر الرئيسي للربح بفضل الحوالات. ولكن إلى أين تتوجه تلك الدولارات؟ إلى المصرف المركزي؟ لا يبدو الأمر كذلك، والحق أن هذا الموضوع بات يقض مضجعي”.
يتفق عمار يوسف وهو خبير اقتصادي يعيش في دمشق مع تقييم العيطة، ويضيف أنه سمع أن العملة الصعبة التي يجمعها صرافو الأموال ترسل إلى محافظة إدلب الواقعة في شمال غربي سوريا، والتي كانت على مدى سنين طويلة المقر الرئيسي لهيئة تحرير الشام التي أسقط مقاتلوها الأسد.
ماذا عن تطبيق (شام كاش)؟
من الحلول التي لجأت إليها السلطات مؤخراً بالنسبة لأزمة النقد عمليات الدفع الإلكترونية، إذ في مطلع هذا العام، أصدرت السلطات مرسوماً يقضي بدفع سائر رواتب موظفي القطاع العام من خلال تطبيق شام كاش الذي أطلقته هيئة تحرير الشام في إدلب إلا أن الخبراء في مجال التقانة يرون بأنه غير آمن ويتبع لمصرف موجود في إدلب لا يعترف به المصرف المركزي السوري.
ولم يتضح حتى الآن إن كان هذا التطبيق يتمتع بالقدرة على التعامل مع نحو مليون وخمسة وعشرين ألف موظف وموظفة يعملون لدى الحكومة، كما لم يتبين إن كان هذا التطبيق يحقق شروط الحكومات الغربية فيما يتصل بمكافحة عمليات غسل الأموال وتمويل الإرهاب، بما أن هذين الأمرين يعتبران من العناصر الأساسية لزيادة الثقة في النظام المالي السوري.
في حين يثير خبراء آخرون مخاوف خطيرة بالنسبة للرسوم التي تفرضها شركتان لتحويل الأموال منحتا من دون غيرهما رخصة لصرف الأموال من تطبيق شام كاش، بما أن كلتا الشركتين تعتبران مقربتين من الحكومة الجديدة، وكلاً منهما تجمع أكثر من ثلاثة ملايين دولار سنوياً من خلال العمولات.
يعلق العيطة على ذلك بقوله: “هنالك حرب مفتوحة اليوم مع مصارف البلد”.
فمنذ فترة قريبة، أعلنت الحكومة عن خططها الساعية لإعادة تعيين القيمة الإسمية للعملة السورية مع حذف صفرين من كل ورقة نقدية، بيد أن ذلك لن يغير من حقيقة الوضع برأي العيطة.
كما أن هذه الآليات لا تعني شيئاً مهماً بالنسبة لماهر إلياس، إذ بعد الانتظار لمدة أربع ساعات تقريباً، واضطراره لتبديل الرتل مرتين قبل أن يصل إلى جهاز الصراف الآلي، تمكن هذا الرجل من سحب ليراته المخصصة لذلك اليوم، والتي سوف يصرفها على شراء الخبز وغيره من المستلزمات الأساسية، ولن يتمكن من سحب أمواله مرة أخرى قبل مضي بضعة أيام، وهذا ما جعله يقول: “أحس بأني أمضي نصف الأسبوع وأنا أقف في الطابور من أجل أن أسحب المال”، ثم أخذ يتنهد من جديد فيما دفعته الجموع بعيداً عن أجهزة الصراف الآلي.
المصدر: The Los Angeles Times
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية