سيمفونية اعتراف بالدولة الفلسطينية عزفتها أكثر من 160 دولة من العالم الحر في اجتماع الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة الاخير ، لتتحول إلى تسونامي سياسي دولي ، اجتاح حاجز البروباغندا لخطاب رئيس حكومة الكيان الإسرائيلي المدعوم امريكيا فوق منصة الأمم المتحدة .
هذه السمفونية كانت الدافع وراء تعجيل رئيس الولايات المتحدة ، طلب اجتماع طارئ مع المجموعة العربية و الإسلامية للتباحث حول شؤون الشرق الأوسط وكيفية التوصل لايجاد حلول سياسية تحديدا القضية الفلسطينية، وإيقاف العدوان الوحشي على غزة المستمر من نحو سنتين، الذي أساء لصورة اكبر ديمقراطيات دول العالم حسب الادعاء، ليخرج ترامب بعدها بإعلان مبادرة ال 20 نقطة لإيقاف الحرب .
اجتماع الهيئة العامة للأمم المتحدة في أواخر أيلول الماضي من العام الحالي شكل محطة رئيسية في تاريخ القضية الفلسطينية ، وأظهر دور الديبلوماسية العربية بشكل عامة و الاردنية على نحو خاص ، حيث بانت تلك اللمسات الكبيرة لتلك الديبلوماسية في اللحظة الاخيرة قبل إعلان بيان الرد على تلك المبادرة ، لتشكل فارقا بين التصعيد و التأزيم ، او ما بين الحل و الانفراج ، لتفاجيء حبكة صياغتها الجميع .
قراءة سريعة في مبادرة ترامب و انحيازها الواضح للإسرائيلي ، بما تضمنته من بنود أعقبها الرد الصادر عن المقاومة الفلسطينية (حماس) ببيان أشاد جميع خبراء و محللي السياسة بذكاء و توازن و دقة الصياغة ، خلافا لما سبقه من لغة الردود و البيانات الأخرى ، حيث وصف البيان بضربة سياسية بامتياز نسفت أركان سيناريو التوقعات الاسرائيلي بأن لا يكون بهذه الإيجابية ، ليكمن السر خلف هذه الحرفية في الصياغة ، خبرات و أدوار لا يمكن تجاهلها ، أولها الدور الأردني البارز الحاضر في الاجتماع مع الرئيس الأمريكي الذي طرح المبادرة أثناءها ، ليكون التنسيق مع الجانب المصري الذي أسهم بشكل مؤكد في بلورة الصياغة النهائية ، مستندا إلى خبرة طويلة في إدارة جولات التهدئة طوال فترات الصراع بين الفصائل الفلسطينية والكيان الإسرائيلي. أيضا ملاحظات وتصريحات وزير الخارجية المصري و الباكستاني حول نقاط المبادرة أكدت و أضافت بعدًا مهماً في تفسير السياق الإقليمي للمبادرة
من الواضح أن مبادرة ترامب شكّلت انقلابًا جوهريا على الموقف العربي من خلال التغيرات التي أدخلت على بنودها خلافا لما اتفق عليه في الاجتماع الأخير ، لتكون المبادرة بمثابة إنقاذ سياسي لنتنياهو. لكن أمام شخصية سلطوية مؤمنة بفرادية القرار على قاعدة «الفرض ثم النقاش»، فإن المواجهة المباشرة و التصلب ربما لا ينبغيان ، بل تتطلب اتباع سياسة المراوغة و المناورة والحسابات الدقيقة.
الأردن ومصر، على وجه التحديد، تبنيا ثوابت اعتبرت فيها المقاومة المنبثقة عن مشروع تحرر وطني بكافة أنواعها ، حق مشروع في وجه الاحتلال ، هي رأس حربة متقدم في وجه مخططاته و مشاريعه تجاه الأمة العربية ، رغم حجم التضحيات التي شهدتها ساحة المواجهة ، و ضعف الحسابات مما أدى إلى أخطاء جسيمة ارتكبتها قيادة تلك المقاومة. الأدلة على هذا الموقف الوطني و الشرعي المتوافق و القوانين و التشريعات الدولية ، تمثلت في مساهمتهما (الاردن و مصر ) في تنسيق المساعدات الدبلوماسية والإنسانية الواضحة للعيان ، التي أحرجت الموقف الإسرائيلي والأمريكي في مرات عدة، حتى أنها أيقظت موجة احتجاجات عالمية ، حول معاناة أهل القطاع و محاربتهم الموت لا من الصواريخ و القنابل فحسب ، بل من الجوع و نقص المواد الإغاثية ، لتكون هذه اليقظة حسب التوقعات نواة التأثير مستقبلا على موازين القوى في الحكومات الأوروبية المقبلة جراء موقف مجتمعاتها الإنساني الإيجابي التضامني مع القضية الفلسطينية ضد الممارسات الوحشية لحكومة الكيان اليمني الإسرائيلي المتطرفة تجاه الشعب الفلسطيني.
الصبر أحيانًا لمعالجة الأخطاء قد يتطلب تكتيكات و استراتيجيات لا يرضى عنها الموقف الشعبي العاطفي بل قد يشبعها كيلا من الاتهامات و سيلا من الشكوك ، لكن بعد انقشاع غبار المعركة تتبيّن الحكمة و تُقيّم المرحلة ، لتثبت جدارة القيادة التي أدارت المرحلة.
مبادرة ترامب الحالية، تذكرنا بمبادرات و تجارب سابقة أخرى سيئة العواقب؛ هنا الحديث عن تداعيات إدارة العراق في مرحلة ما بعد الغزو وتبعات ولاية بول بريمر، التي ألقت بظلالها على الأردن ومصر والخليج ، و على دول الجوار. و ما شهدته من انهيار و فقدان السيطرة و ظهور جماعات الإرهاب المتطرفة بصناعة استخبارات دولية ، بهدف زعزعزة استقرار المنطقة و ابقاءها مشتعلة بنيران الاقتتال و التفرقة ، هذا يسترعي إعادة النظر من الداعمين للقضية الفلسطينية و الاستيقاظ لتقديم كل ما يستدعي من دعم للأطراف المؤثرة خاصة دول المحيط بها .
المحصلة أن العرب أمام ضرورة لنظرة استراتيجية للقضية الفلسطينية من خلال محورين متكاملين:
1.محور الاول عربي–عربي:
استنادا إلى إدراك أن نشأة الكيان هي لغايات وظيفية تستهدف مصالح وموازين القوى و ثروات المنطقة ، و تستلزم مواجهة سياسية واستراتيجية متماسكة ضد أدوات الهيمنة من كافة دول الأمة العربية.
2. المحور الثاني عربي–فلسطيني:
أن يتحمل الفلسطينيون مسؤولية المواجهة المباشرة ، ليكونوا الواجهة الأمامية في التصدي ، و يقودوا مشروع التحرّر الوطني بكل أدواته ، مع دعم عربي جاد ومؤسسي ، موجه لهم خاصة ، و نحو الأردن و مصر ، للحفاظ على الصمود الفلسطيني وثباته فوق أرضه ، وما تشكله دول المحيط من خط دفاع اول لإفشال مخططات تصفية القضية.
السياسة تقوم على المصالح المشتركة. الحكومات الغربية توكل الاهتمام بمصالح شعوبها، وهناك وعي سياسي متصاعد في هذه المجتمعات حول جدوى دعم كيان عنصري، على حساب دافعي الضرائب ، مما يشكل عبئا على مواردهم و توريط بلدانهم في أزمات بعيدة كل البعد عنها ، لا شأن لها بها، تضر بمصالحهم مع دول المنطقة العربية و هذه نقطة الارتكاز الرئيسية الواجب الحوار حولها مع الغرب.
الانتظار لم يعد كافيًا ، المطلوب إعداد و استعداد و إطلاق مبادرات عملية ، استغلال التحولات في المواقف الدولية التي شهدناها حتى في حال التراجع عنها لاحقًا ، يجب الاستفادة منها ، بمثابة ورقة إثبات ، حيث تظهر أن دورًا عربيًا مهما ، حتى لو كان بسيطًا يمكن تعظيمه عند أول تحوّل في موازين القوى — شريطة أن تتولى الدول المحورية دورها بمسؤولية، مستندة إلى شرعية التاريخ والقوة السياسية العسكرية والموقع الجيوسياسي المؤثر لترجمة الخبرة إلى وقائع تخدم المصلحة العربية العامة في مواجهة مشاريع الاستيطان و التوسع الإسرائيلية ، التي لا تستهدف فلسطين أو الاردن و مصر بل أمة عربية واحدة ، تاريخ الغزو الاجنبي لها جاء في صفحاته ، أن الغزاة سواء كانوا عصبة أو عصابة مرت من هنا او هناك في وقت ما من هذا الزمن ، عبروا أو بادت ، لأنهم عابرون ليسوا أصحاب الأرض لينصرفوا ، نحن اصحابها مثل زيتونها ثابتون ، صامدون فيها .