«نبض الخليج»
لا أزال حتى اللحظة أتذكّر رائحة ورق الجرائد الخارجة للتو من المطبعة وهي بين يديّ الصغيرتين (كنت في التاسعة من عمري)، وأنا أرافق أخي الأكبر حاملاً بين يديه الكمية الأكبر من نسخ جريدة الثورة.
كانت مهمتنا توزيع الأعداد اليومية مجاناً على بيوت الحارة التي نسكن فيها في دمشق. كانت أعداد الجريدة تصل إلى بيتنا قبل أن يضرب مدفع الإفطار بقليل، وكنا، أنا وأخي، نقوم بتوزيعها بعد الإفطار بساعة تقريباً. كان والدي يعمل في القسم الثقافي في الجريدة آنذاك، وكانت النسخة المسائية اليومية مجانية ومخصصة لأخبار الحرب.
يحمل أبناء جيلي ذاكرة مثقلة عن حرب السادس من أكتوبر: ذاكرة عن الموت، عن البطولة، عن الشهادة، عن الحرب، عن الهزيمة، عن الفداء.
أتذكّر أن أضواء بيوت حارتنا كانت خافتة وتميل إلى اللون الأزرق في معظمها؛ إذ صدرت تعليمات بوضع اللاصق الأزرق على زجاج الشبابيك لتخفيف الإنارة ليلاً، خوفاً من استهداف أحياء المدنيين من قبل العدو الصهيوني، وحمايةً للزجاج من الكسر عند اختراق جدار الصوت من قبل الطيران المعادي. تلك الأحداث كانت في شهر تشرين الأول/ أكتوبر من عام 1973، في شهر رمضان المبارك.
كان بيتنا في حي قريب من ساحة العباسيين في دمشق، الساحة التي كانت مركز تجمع للقوافل العسكرية المحمّلة بالجنود الذاهبين إلى الجبهة. أذكر خالين وعمّاً لي كانوا من ضمن الجنود المقاتلين القادمين من كل المحافظات السورية باتجاه الجنوب، حيث تجري المعارك الحربية. أذكر أيضاً أن عائلة صديقة كانت تسكن في منطقة أبو رمانة قد لجأت إلى بيتنا بعد قصف الحي الشهير في تلك الحرب. أتذكّر الخوف الذي كان يصيبنا مع كل صوت للطيران، وأذكر الزغاريد التي انطلقت في الحي حين كان تابوت ابن جيراننا محمولاً على أكفّ أبناء الحي، مسلميه ومسيحييه.
كان بسام واحداً من شهداء حرب تشرين، استُشهد بانفجار قذيفة معادية، ومعه خمسة من أبناء سوريا. لكننا لم نشهد جنازة جان، طالب الطب المسيحي الشيوعي اليبرودي، الذي كان يسكن في الحي نفسه في بيت يجمعه مع طالبين آخرين. ذهب متطوعاً إلى الجبهة واستُشهد في المعارك، ونُقل إلى عائلته ليدفن في يبرود، وقيل إن جنازته كانت بمثابة عرس، ولم يبقَ أحد في يبرود لم يخرج لوداعه. أذكر أيضاً أن والديّ انتظرا حتى انتهاء الحرب ليسافرا إلى قريتنا الصغيرة للتعزية بشابين قريبين استُشهدا في الحرب.
يحمل أبناء جيلي ذاكرة مثقلة عن حرب السادس من أكتوبر: ذاكرة عن الموت، عن البطولة، عن الشهادة، عن الحرب، عن الهزيمة، عن الفداء. ذاكرة عن قضية لا يمكن لأحد من جيلي تجاهلها أو نسيانها أو التعامل معها كما لو أنها لطخة في تاريخنا السوري. لم تكن حرب تشرين لطخة أو وصمة عار في الضمير السوري كما يريد البعض اليوم تصويرها. كانت هناك قضية كبيرة، وأرض محتلة، وكان هناك ملايين السوريين يؤمنون أن العدو لا يمكن التصالح معه، وأن ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة.
لم ننتصر في حرب تشرين، لكنها أعادت قليلاً من الكرامة المهدورة إلينا. لم ننتصر، لكن شبابنا قاتلوا العدو وهم محمّلون بالأمل، مؤمنون أنهم على حق، وأن الحق لا بد أن ينتصر يوماً ما.
هذا الإيمان هو ما دفع مئات آلاف الشباب السوريين للتطوع في الجيش فترة الحرب. كانت هزيمة 1967 ما تزال آثارها واضحة على الكرامة العربية، وكان لا بد من محوها عبر حرب مباغتة ومضادة تعيد ولو قليلاً من الكرامة المهدورة. نحن، أبناء هذا الجيل، نعرف جيداً ما حصل في تلك الحرب والحرب التي سبقتها، عشنا ذلك بأرواحنا وضمائرنا. كنا نعرف جيداً أن العرب لن ينتصروا يوماً في حرب مع الصهاينة، فكل المعطيات كانت توحي بذلك، وكل ما حدث في عالمنا العربي منذ خمسينيات القرن الماضي كان يؤكد نظرية الهزائم العربية.
لم ننتصر في حرب السادس من تشرين، لا بأس. نحن، العرب، والسوريين خصوصاً، لم ننتصر في أيّ حرب، ولم نربح أية قضية، ولم نكسب أية معركة. لكننا في وقت ما كان الحلم والأمل زاد حياتنا: الحلم بالانتصار، والأمل باسترجاع الكرامة عبر استرجاع الأرض. لم ننتصر في حرب تشرين، لكنها أعادت قليلاً من الكرامة المهدورة إلينا. لم ننتصر، لكن شبابنا قاتلوا العدو وهم محمّلون بالأمل، مؤمنون أنهم على حق، وأن الحق لا بد أن ينتصر يوماً ما.
لم ننتصر يوماً، لكن شهداء الحرب دُفنوا في كل التراب السوري، كأول دليل على أن هذا المكان يمكن أن يكون وطناً موحّداً لكل من يعيش على أرضه. لم ننتصر، لكن لماذا تريدون محو ذاكرتنا عن وطنٍ أراد شعبه يوماً أن يسترجع ما احتُلّ من أرضه وأرض جيرانه؟
أعيش في مصر منذ أربعة عشر عاماً، وكل عام في ذكرى حرب السادس من أكتوبر أشهد الاحتفال المصري بها، أسمع الأغاني الوطنية التي تحكي عن عظمة مصر وعن انتصار الجيش المصري وعبوره خط بارليف، وأشاهد الأفلام التي تُعرض سنوياً في هذه الأيام، أفلاماً تحكي عن عبور القناة.
هل انتصر المصريون في تلك الحرب؟ كل عام أيضاً تحصل معركة على وسائل التواصل بين المصريين أنفسهم: بين من يرى أن العرب انتصروا في السادس من أكتوبر، وبين من يرى في هذا النصر مجرّد بروباغندا، فلو أن انتصاراً حقيقياً حصل، لما اضطر الرئيس الراحل أنور السادات لتوقيع معاهدة سلام لاسترجاع سيناء، متخلياً بذلك عن الإجماع العربي نحو استرجاع كامل الحقوق المغتصبة.
وجهتا نظر بين أبناء جيلي من المصريين وبين أبنائهم من الأجيال اللاحقة غير المحمّلة بنوستالجيا القضية المركزية. لكن لا يتجرأ مصري واحد على طلب شطب هذا التاريخ من الروزنامة السنوية للأعياد الوطنية والقومية، لا من المواطنين ولا من الحكومة، مهما اشتدّ الخلاف بينهم حوله، لأن هذا التاريخ صار جزءاً من الوجدان الشعبي المصري، وشهداء حرب أكتوبر هم شهداء كل المصريين بمختلف أجيالهم وتوجهاتهم. كذلك هناك جزء كبير من المصريين يعتزّ بأصوله التركية ويفاخر بها، ومع ذلك لا يتجرأ أحد منهم على نفي المجازر التي ارتكبها العثمانيون ضد العرب.
هل سنلعن شهداءنا وننكرهم لأنهم استُشهدوا في زمن الأسد؟ أم لأنه حاول استثمار تضحياتهم ضمن مشروعه السلطوي الاستبدادي؟ أليس هؤلاء آباء الأجيال التي قامت بالثورة؟
ما بالنا نحن؟ لماذا يصرّ من هم في موقع المسؤولية اليوم على إظهارنا كما لو أننا شعب بلا ذاكرة وبلا وجدان وطني؟ لماذا يصرّون على نسب كل تاريخنا لآل الأسد، وكأن السوريين جميعاً من هذه السلالة، وكأن التاريخ السوري كله ينحدر منهم؟
هل سنلعن شهداءنا وننكرهم لأنهم استُشهدوا في زمن الأسد؟ أم لأنه حاول استثمار تضحياتهم ضمن مشروعه السلطوي الاستبدادي؟ أليس هؤلاء آباء الأجيال التي قامت بالثورة؟ هل يقتلنا أبناؤنا لأننا كنا الجيل الذي لم يشهد سوى آل الأسد؟ هل نقتل آباءنا الذين كانوا من جيل الأسد الأكبر؟ كيف يمكن لأحد القبول بمحو التاريخ السوري هكذا بجرة قلم؟ وكيف يمكن القبول بتجريد الوجدان السوري من محتواه الوطني؟
تُعتبر المناسبات الوطنية التاريخية إحدى أشكال الهوية الوطنية الجامعة. يحق للشعب مناقشة أهميتها والاختلاف حولها، ويحق له رؤيتها من مناظير أيديولوجية مختلفة، لكن لا يحق لسلطة مؤقتة إلغاءها دون الرجوع إلى الشعب. لا يحق لسلطة مؤقتة أساساً اتخاذ قرارات تمسّ بجوهر الهوية الوطنية، ولا يحق لها العبث بالتاريخ الجمعي السوري.
هذا شأن يخص جميع السوريين، لا يخصّ فئة واحدة ولا طائفة واحدة ولا ديناً واحداً. تعبث السلطة المؤقتة بقراراتها العشوائية الشعبوية بالتاريخ الوطني السوري الجمعي، وتعبث بكل ما يمكن أن يجمع السوريين، وتكرّس مكانه كل ما يمكن أن يفرّقهم ويزيد الخلاف بينهم، ضاربةً بالهوية الوطنية السورية عرض الحائط. وهذا أمر يُدفع ثمنه اليوم غالياً من دماء سوريين أبرياء، وهو ثمن مرشّح للارتفاع أكثر مع تنامي خطاب الكراهية والتحريض المسنود بقرارات سلطوية لا تكترث — على ما يبدو — لمصير هذا الوطن المنكوب بنكبة كبرى والمصاب بلعنة لا تبدو نهايتها قريبة.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية