«نبض الخليج»
يقول هربرت ماركيوز في دفاتر السجن إن”الإنسان ذو البعد الواحد لا يرى إلا ما يُقدَّم له، ويظن أنّه يختار بحرية”.
تتحدّد طبيعة المرحلة الانتقالية، بوصفها معبراً إجبارياً من الاستبداد والفساد إلى نظام جديد، من خلال وضوح الهدف النهائي لهذا العبور، فالانتقال السياسي ليس مجرد فاصلة زمنية بين نظامين، بل هو إعادة تأسيس لمنظومة الاجتماع السياسي، تُعاد فيها صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع، والمواطن والسلطة، والحرية والمسؤولية، ومن دون تحديد غاية هذا الانتقال، يصبح كلّ حديث عن ضوابطه ومؤسساته ترفاً لغوياً ، وسفسطة أكاديمية لا تمسّ جوهر المشكلة، فالسؤال الجوهري الذي يجب أن يوجّه المرحلة الانتقالية في سورية هو: أيّ دولة نريد؟ وأيّ مواطنة نسعى إلى بنائها؟
تكمن الخطورة في أنّ هذا الوهم يمنح السلطة مظهراً تمثيلياً زائفاً، فتتحرّر من ضوابط المرحلة الانتقالية وتُضفي على قراراتها مشروعية مزيّفة باعتبارها صادرة عن “نواب منتخبين عن الشعب”.
غير أنّ هذا السؤال ما زال معلّقاً في فراغ الرؤية، فالسلطة الانتقالية تتصرّف وفق سياسة يومية مؤقتة، بلا مشروع واضح أو تصوّر نهائي، مكتفية بشعارات برّاقة من قبيل: “نريد أن نصبح سنغافورة، أو نريد دولة يُحترم جواز سفرها”، وهي عبارات تصلح للتحفيز الإعلامي، لكنها لا تصلح أساساً لبناء مشروع سياسي متكامل، ويتسع نطاق الغموض أكثر مع غياب حوار وطني حقيقي، واقتصار ما يُسمّى بـ”الحوار الوطني” على مشهدية استعراضية جمعت أشخاصا اختيروا بعناية لتمثيل ما يشبه التنوّع دون أن يكونوا تنوّعاً حقيقياً، في صورة تنطبق عليها عبارة غي ديبور في كتابه مجتمع الاستعراض: “في مجتمع الاستعراض، كل ما كان يُعاش مباشرة أصبح يُمثَّل كمشهد”، وهكذا غدت السياسة كلها في صيغتها الراهنة مسرحاً مفتوحاً، تحكمه رمزية الحدث لا واقعية المضمون، من إطلاق الهوية البصرية إلى إعلان الصناديق السيادية، وصولاً إلى اختيار أعضاء المجلس التشريعي الانتقالي، الذي اكتملت به مؤسسات السلطة الانتقالية رسمياً، غير أنّ ما اكتمل في الشكل يخفي خطراً في الجوهر، إذ يُروَّج لما حدث وكأنه “انتخابات”، ما يخلق وهماً ديمقراطياً خطيراً يوحي بأنّ الشرعية الجديدة قد وُلدت من صناديق الاقتراع، بينما هي في حقيقتها “صناعة فوقية للقبول” على حدّ تعبير أنطونيو غرامشي.
تكمن الخطورة في أنّ هذا الوهم يمنح السلطة مظهراً تمثيلياً زائفاً، فتتحرّر من ضوابط المرحلة الانتقالية وتُضفي على قراراتها مشروعية مزيّفة باعتبارها صادرة عن “نواب منتخبين عن الشعب”.
وحتى يُفهم هذا الكلام بدقّة، فقد وجّهتُ منذ صدور الإعلان الدستوري انتقادات متكرّرة لحالة الفراغ التشريعي التي تسبب بها الإعلان نفسه، حين حرم رئيس الجمهورية من إصدار مراسيم تشريعية في الفترة الفاصلة بين صدوره وبين تشكيل المجلس التشريعي الانتقالي، وقد أدى هذا الفراغ إلى اضطرار رئيس الجمهورية لمخالفة نص الإعلان، بإصدار مراسيم لا يحق له إصدارها طبقاً لأحكامه، لذلك، فإنّ خطوة اختيار أعضاء المجلس التشريعي الانتقالي كانت في جوهرها صحيحة من حيث استكمال مؤسسات الحكم، غير أنّ الإشكال الحقيقي يكمن في تسمية آليات اختيار الأعضاء بـ”الانتخابات”، إذ خلق ذلك وهماً بالتمثيل الشعبي والنيابة عن الأمة، هذا الوهم سيمنح الأعضاء شعوراً زائفاً بالشرعية النيابية، ويدفع بعضهم إلى تجاوز حدود صلاحياتهم، بوضع تشريعات تتخطّى مهمّتهم الانتقالية، وكان الأجدر ـ كما قلت سابقاً ـ أن يُصار إلى تعيين أعضاء المجلس بشكل مباشر من قبل رئيس الجمهورية، بدل إيهام الناس بوجود انتخابات، خاصة وأنّ السلطة هي التي اختارت مسبقاً الهيئة الناخبة وعددها المحدود من الأفراد المعروفين سلفاً، والذين تولّوا بدورهم اختيار الأعضاء، ففي دمشق، مثلاً، اختار خمسمائة عضو من الهيئة الناخبة عشرة أعضاء فقط، ولا يمكن تحت أي مفهوم أن يُطلق على ذلك اسم “انتخابات”، لأنّ عدد الأصوات التي حصل عليها كل عضو لا يتجاوز مئتي صوت، الأمر ذاته ينطبق على بقية المحافظات التي شهدت ما سُمّيت انتخابات وهي مجرد “آليات اختيار أعضاء المجلس التشريعي الانتقالي”، كما هو الاسم الحقيقي لها.
فالواقع يكشف أن هذه “الآليات” لم تكن انتخابية بالمعنى الحقيقي، بل أقرب إلى التعيين المقنّع، إذ حُدّدت مسبقاً هوية المشاركين، وعددهم، ومجال حركتهم، لذا فإن الادعاء بأنّ من تمّ اختيارهم هم “نواب عن الأمة” لا يقوم على أيّ أساس من أسس النيابة السياسية أو المشاركة الشعبية.
فالنيابة، في معناها السياسي الأصيل، لا تقوم على مجرّد وجود ممثلين، بل على عقد تفويض إرادي يمنح الشعب بموجبه بعض الأفراد سلطة التصرف باسمه ضمن حدود واضحة ومشروطة، النيابة بهذا المعنى لا تنشأ إلا بوجود إرادة حرة ومشاركة عامة، لأنّ النائب لا يمثل ذاته ولا السلطة التي عينته، بل الإرادة العامة التي اختارته، أما حين يُفرض الممثل من الأعلى، فإنّ مفهوم النيابة يتحوّل إلى قناع قانوني يخفي علاقة تبعية لا علاقة تمثيل، ولهذا، فإن ما يجري في الحالة السورية لا يمكن وصفه بأنه تمثيل نيابي، لأنّ شرط الإرادة الحرة غير متحقق، كما أن مصدر التفويض ليس الشعب، بل السلطة نفسها.
إن مراقبة عملية التشريع التي سيقوم بها المجلس التشريعي الانتقالي، يجب أن تكون شاملة ودقيقة، وأن يكون الجميع على أهبة الاستعداد للتعامل بكل جديّة مع هذه المرحلة الدقيقة.
وفي هذا السياق، ينبغي التمييز بين النيابة والوظيفة التشريعية في المرحلة الانتقالية، فالأولى تتعلق بشرعية التمثيل السياسي وبنية العقد بين الشعب وممثليه، أما الثانية فتتصل بمهمة مؤقتة محددة: سنّ القوانين الضرورية لتيسير عملية الانتقال وضمان عبورها الآمن، وأعضاء المجلس التشريعي الانتقالي، لا ينبغي أن يتصرّفوا كنواب للأمة، بل كمكلّفين بمهام إجرائية وتشريعية محدودة، مقيدة بزمن المرحلة وأهدافها، لا يملكون سلطة تأسيسية، ولا حقاً في رسم الملامح الدائمة للدولة المقبلة.
إن الخلط بين النيابة والتشريع يُعدّ من أخطر أشكال الالتباس السياسي، لأنه يفتح الباب أمام توسيع صلاحيات السلطة الانتقالية إلى ما يتجاوز نطاقها المشروع، فتتحول المرحلة المؤقتة إلى حكم دائم مقنّع، وهنا يُعاد إنتاج ما سمّاه ماركيوز “الإنسان ذو البعد الواحد”، الذي يُمنح وهم الاختيار دون أن يختار فعلياً، فيتواطأ وعيه مع بنية السيطرة وهو يظن أنه يمارس الحرية.
إن المرحلة الانتقالية ليست مسألة مؤسسية فحسب، بل مشروع متكامل تتقاطع فيه ملفات أربعة تشكّل أركانها الأساسية من:
إعادة بناء النظام السياسي بما يتضمنه من تهيئة بيئة آمنة وحرة تسمح للسوريين بالتعبير عن إرادتهم، وإطلاق حوار وطني حقيقي يوحّد البلاد تحت سلطة مركزية جامعة، وتحقيق الأمن والاستقرار بما يشمل العدالة الانتقالية ومحاسبة المجرمين وتوحيد القوى العسكرية واحتكار الدولة للسلاح، ثم إعادة الإعمار وعودة المهجّرين واستئناف الدورة الاقتصادية بما يعيد الحياة إلى المجتمع ويصون كرامة المواطن، وأخيراً إدارة العلاقات الدولية لسورية على نحو يراعي حدود السلطة الانتقالية ويمنعها من إبرام اتفاقات طويلة الأمد تمسّ مستقبل البلاد.
غير أنّ السلطة لم تقدّم حتى الآن أي تصور واضح لهذه الملفات الأربعة، إمّا لغياب الرؤية أو لوجود رؤية مضمرة تعمل على هندسة المجتمع وفق مقاسها، والأخطر أنّ تعاملها مع هذه الملفات لا يقوم على تكاملها، بل على الانتقاء المصلحي، إذ تُركّز اليوم على الجانب المالي الريعي، ساعيةً إلى تحقيق وفرة نقدية تُبقي على أجهزتها قائمة، دون أي رؤية اقتصادية أو اجتماعية شاملة، وهكذا تحوّلت إدارة المرحلة الانتقالية من مشروع وطني متكامل، إلى حساب مصرفي مفتوح، غايته ضمان استمرار السلطة لا بناء الدولة.
إن أخطر ما تولّده السلطة في مثل هذه المراحل ليس القهر المادي، بل الوعي الزائف، الوعي الذي يجعل الناس يصدّقون أنهم شركاء في عملية التغيير وبناء المستقبل، من دون أن يكون لهم دور حقيقي في ذلك، الأمر الذي يتطلب منا جميعاً مواجهة الذات وتفكيك أوهامها، وتحرير الوعي الجمعي من خطاب الخضوع الذي يُعيد تدوير الماضي باسم “الاستقرار” أو “الحفاظ على المكاسب”.
إن مراقبة عملية التشريع التي سيقوم بها المجلس التشريعي الانتقالي، يجب أن تكون شاملة ودقيقة، وأن يكون الجميع على أهبة الاستعداد للتعامل بكل جديّة مع هذه المرحلة الدقيقة، التي يغيب فيها التمثيل الديمقراطي لأسباب موضوعية، لكن يجب أن لا يغيب الوجود الشعبي بشكله الأولي الواعي من دون تزييف ومن دون الانجرار لخطاب إيهامي بأن ما نقوم به هو ” عرس ديمقراطي” أو أنه ” أفضل الممكن”، فما نحتاجه الآن ليس “اللعبة الوحيدة في المدينة”، بل مدينة جديدة تتّسع لأحلامنا جميعاً.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية