«نبض الخليج»
كان سلامة كيلة — وقد صادف الثاني من شهر أكتوبر الجاري الذكرى السابعة لوفاته — من أبرز ناقدي الماركسية العرب. لكنه، إلى جانب كونه ناقداً للماركسية، ولا سيما الماركسية اللينينية التي تناولها في نقده، كان من بين مفكرين عرب قلّة حاول أن يقدّم إجابات؛ وبالتالي لم يكن ناقداً للماركسية فحسب، بل كان مجدِّداً لها.
في كل كتبه التي أنجزها في هذا الموضوع، يظهر سلامة كيلة موقفاً ناقداً. ولو استعرضنا عناوين كتبه التي تناولت الماركسية، فسنجدها كلّها تشير إلى هذا الموقف الناقد، ومنها: “أطروحات من أجل ماركسية مناضلة”، “مشكلات الماركسية في الوطن العربي”، “التطور المحتجز”. ويبدو في كتابه “الماركسية الجديدة: العودة إلى ماركس من أجل تخطي الماركسيات الرائجة” منشغلاً بنقد “الماركسيات” المهترئة التي “انكفأت عن ماركس، وانحرفت عن المنهجية التي جاء بها، وعادت إلى المنهج الصوري الذي يقوم على قوانين وأفكار لا تنطلق من الواقع”، مقترِحاً ماركسيةً جديدة تناسب العصر.
لم يكتفِ سلامة بأن يكون مفكّراً ومنظّراً؛ فقد كتب مئات المقالات، وشارك في عشرات الندوات الفكرية والسياسية، وقدّم أطروحاتٍ لتأسيس حركاتٍ ماركسيةٍ جديدة.
يعتبر سلامة أن الماركسية “تحولت إلى أيديولوجيا حينما تخلّت عن النقد، وجرت محاولة تحويلها إلى نص مقدس”. وقد تمّ ذلك عندما وُضعت نصوص ماركس وإنجلز في سياقٍ مختلف عن سياقها الأصلي، بما يشبه عملية احتيال على تلك النصوص. لذلك يبدأ بمحاولة إعادة قراءةٍ للماركسية، بل أكثر من ذلك: عملية نقدها ممثَّلةً في الماركسية اللينينية، مفرِّقاً بينها وبين تراث ماركس وإنجلز. وهو يشير إلى أمرٍ مهم مفاده أن ماركس — وكذلك نصوصه — لم يُغلقا إمكان الاجتهاد والنقد، لافتاً إلى وجود مراجعةٍ ونقاشٍ لمفرداتٍ أساسية كانت تُعدّ مقدّسة في الماركسية، ابتداءً من فائض القيمة وصولاً إلى الثورة الاشتراكية ودكتاتورية البروليتاريا.
ويتساءل سلامة، في سياق نقده للماركسية “العربية”، عمّا إذا كانت قدّمت وعياً مطابقاً لمصلحة الطبقة العاملة العربية، ويجيب بالنفي. إذ كان ينبغي — برأيه — للماركسية العربية أن تقدّم تصوّراً أيديولوجياً مختلفاً عن التصوّر الذي رسمه ماركس وإنجلز، لأن المجتمع العربي — آنذاك بين الأربعينيات والستينيات — لم يدخل المرحلة الرأسمالية، ولم ينجز الثورة الديمقراطية ولا الاستقلال السياسي، وظلّ بعيداً عن المجتمع الصناعي.
وفي موضعٍ آخر من كتابه “مشكلات الماركسية في الوطن العربي”، ينتقد تخلّف الوعي الماركسي العربي الناتج عن الانتماء العفوي، الذي كان يقوّي تشكيل البُنى الحزبية القائمة على أساسٍ قبليٍّ/طائفيٍّ/محليٍّ — وهي انتماءات ما قبل قومية. وقد أدّى هذا التخلّف إلى انتشار الماركسية الستالينية لا الماركسية الأصلية، بل إلى انبهارٍ عربيٍّ بها، فنتجت بنيةٌ أيديولوجيةٌ وهمية تمنع الماركسيين العرب من القدرة على أداء الدور المنوط بهم.
لم يكتفِ سلامة بأن يكون مفكّراً ومنظّراً؛ فقد كتب مئات المقالات، وشارك في عشرات الندوات الفكرية والسياسية، وقدّم أطروحاتٍ لتأسيس حركاتٍ ماركسيةٍ جديدة — كما في أطروحته المعنونة “من أجل حزبٍ يمثّل العمال والفلاحين الفقراء في سوريا: الواقع الراهن والمهمات”. كما طمح إلى لعب دورٍ سياسيٍّ ونضاليٍّ على الأرض، كما فعل سابقاً في إطار القضية الفلسطينية بانتمائه إلى حركةٍ سياسيةٍ عسكرية، وكما فعل لاحقاً داخل الثورة السورية بانتمائه إليها منذ يومها الأول، وعبر تواصله مع الشباب الناشطين والمعارضين والمثقفين، ومشاركته في الحراك من خلال تأسيسه — مع مجموعةٍ من الماركسيين والشيوعيين ومجموعاتٍ يسارية — “ائتلاف اليسار السوري” بعد أربعة أشهر من بداية الثورة السورية، وإصداره مجلة “اليساري”. كأنه في شخصيته أراد الجمع بين موقع ماركس كمفكّرٍ ومنظِّر، وبين حركية لينين كمناضلٍ وثائر.
اهتمّ سلامة كيلة — المفكّر الفلسطيني السوري — بالاشتغال العملي والفكري على الثورة السورية من جوانب ومستوياتٍ عديدة. وكان — رحمه الله — مهتماً، حتى آخر يومٍ في حياته، بموقف الشيوعيين العرب وشيوعيي أوروبا من هذه الثورة؛ إذ إن مواقف الشيوعيين تجاه الثورة السورية غالباً ما ارتبطت بالموقف من الإمبريالية، وبكذبة الصراع بين نظام الأسد وأميركا، في وقتٍ كانت الأخيرة عملياً الحامي الأكبر لهذا النظام ولسواها من الأنظمة الدكتاتورية العربية. ويذهب سلامة إلى أن على الشيوعيين تحليل طبيعة الطبقة الحاكمة في سوريا وفهم طبيعة الثورة ووضعية الشعب السوري، ومن ثم تحليل طبيعة الصراع. وقد دعا الشيوعيين في كل مكان إلى دعم الثورة السورية، وكان هذا هاجساً مقيماً في فكره وروحه.
وصف الثورة السورية بأنها ثورةٌ بطولية وثرية شهدت مواجهةً وحشيةً من النظام “ممثَّلاً بالطبقة المافيوية العائلية الريعية المسيطرة التي شنّت حرب إبادة على الشعب المتمرّد”.
هاجم سلامة — على طول الخط — النظرة “السياسوية” لدى جزءٍ من الشيوعيين واليسار العربي الذين يعتقدون أن الصراع الطبقي الذي فجّر الثورة الشعبية السورية ليس سوى مؤامرةٍ إمبريالية على النظام الأسدي. ووصف الثورة السورية بأنها ثورةٌ بطولية وثرية شهدت مواجهةً وحشيةً من النظام “ممثَّلاً بالطبقة المافيوية العائلية الريعية المسيطرة التي شنّت حرب إبادة على الشعب المتمرّد”.
سيرة مختصرة:
سلامة جورج كيلة، مواليد سنة 1955 في بيرزيت/فلسطين. درس العلوم السياسية في كلية القانون والسياسة بجامعة بغداد. نشط في العمل السياسي، وعمل صحفياً (كاتب مقالات) لأربعة عقود، ماركسيٌّ نقدي انخرط في النشاط اليساري. أقام في دمشق منذ سنة 1981، وسُجن فيها بين 1992 و2000، وشارك في ما سُمّي “ربيع دمشق”. انخرط في الثورة السورية؛ اعتقله النظام وقام بتعذيبه ثمّ طرده من سوريا.
أصدر نحو أربعين كتاباً فكرياً وسياسياً تتناول الواقع العربي والتاريخ ونقد الأحزاب والوضع الدولي، والماركسية كنظرية. نشر أربعة كتب عن الثورة السورية، منها كتاب “التراجيديا السورية: الثورة وأعداؤها” (دار المتوسط، 2016)، وكتاب “ثورة حقيقية: منظور ماركسي للثورة …” (دار نون، 2014).
شارك هذا المقال
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية