«نبض الخليج»
جاء انتصار ثورة السوريين نهاية عام 2024 وهم في أعلى مراحل اليأس، نتيجة للحسابات الواقعية التقليدية حيث كان كل شيء قد انتهى: نظام أعيد تعويمه، معارضة مشتتة، دولٌ محيطة تبحث عمن يحقق لها مصالحها، دول كبيرة فقدت الأمل وبات شغلها في الملف السوري تضييع وقت، وكيف لا يشعرون باليأس وقد بقي النظام في أوج انسغال المجتمع الدولي في دعمهم سنوات 2011-2012!
كنت قد التقيت أحد الدبلوماسيين الهولنديين فقال لي: بصراحة حين نريد أن ندرج الملف السوري في أي زيارة لوزير خارجيتنا غالباً ما ترفض الدول مناقشته، لأنه بات حائطاً لتضييع الوقت وغير مجد الاشتغال فيه!
نحن السوريين المهاجرين عامة كذلك فقدنا الأمل، وبات أصحاب لنا يهيؤون أنفسهم وعوائلهم لحياة طويلة خارج بلدهم، بل إن من تجاوزوا الستين، غالباً، اشتروا قبراً أو اشتركوا في جمعية لدفن الموتى، وأوصى أحدهم ابنه: حين تغدو البلاد ممكنة لعلك تعيد رفاتي إلى سوريا، قدرنا أن ننتمي إلى بلاد ليست للأحياء بل للأموات!
الأمهات السوريات لم ينقطع دعاؤهن عقب كل صلاة: يا رب أريد أن يشارك ابني الغائب في دفني ويحضر عزائي إن متُّ!
لا تهتم الأمهات بالحسابات الواقعية أو رأي المحللين السياسيين، ومن جرب الحمل والأمومة والولادة لديه فهم مختلف للعالم وعن العالم، لعل أهم سماته الأمل والقدرة على الفعل وأثر الزمن في الإنجاز، والأهم: القدرة على الفعل وإرادة الوجود؛ وهي تُستمد من قيمة الحياة التي يكون فيها أول وجوده مضغة تتحول بمرور الزمن إلى كائن عاقل يدير عائلة جديدة بعد سنوات!
حدثَ الانتصارُ السوري نهاية عام 2024 حين رأت كذلك معظم القوى الخارجية أن ذلك غير ممكن، وتوالت النصائح من الجيران وسواهم بعدم دخول حلب، قائلين: السوريون لم يعودوا يتحملون كلفاً جديدة، لقد تعبوا، وهم حقاً تعبوا، ولم يعد لديهم إمكانية لقيادة نصر جديد، من دون أعباء نأت ظهورهم عنها!
وبعد الانتصار بدا أن البلد كبير جداً ومساحته شاسعة، وتفاصيله معقدة، وتعبه تعب جبال، فما الحل؟
الحل أولاً في رفض اليأس، بل في المحاولة تلو المحاولة، هناك عشرات الملاحظات والعثرات والتشابكات والتعقيدات، لكن لا حلَّ آخر بغير الأمل والنظر إلى الأمام، وعدم الانشغال بالخلف إلا بصفته درساً للتعلم، نقول الأمل وليس الوهم أو بيع الخيالات!
التركة ثقيلة والحمل كبير، ولئن كان لك ألف صديق فقد يكون لك ألف عدو، فكيف يمكنك أن تبدد تلك الأحمال والعثرات والصعوبات؟
لا تدار البلدان باليأس أو الخوف أو التراجع أو البكاء، تدار البلدان بالإقدام والتخطيط وتجزيء المشاكل والعمل والتنظيم، وتدار البلدان كذلك بإسناد المهام إلى الأكفاء، وتدار بالتشبيك الإقليمي والدولي والمحلي، فكيف يمكن أن يحدث ذلك، يحدث ذلك بالإقدام والحوكمة وتفعيل القانون والاستفادة من القدرات البشرية، وكذلك بالأمل، المستمد من النظر في وجوه الأمهات وقراءة تاريخ البلد والنظر إلى حجارته!
لو فتش السوريون في دفتر اليأس الخاص بكل منهم لوجدوا فيه آلاف القصص والخيبات والكسور والتصدعات لكن لا حلّ أمامهم إلا أن يغلقوه أولاً، ولا يغيِّبوا تفاصيله عن رؤوسهم بصفته فاتحة أمل!
لا مكان لليأس في سوريا الجديدة، لا مكان لحسابات الربح والخسارة، فالسير إلى الأمام هو الطريق الوحيد المتاح، لك الخيار أن تترك المركب إن تعبت أو لم يعجبك المسار، أو أن تجلس جانباً أو أن تغادر إلى بلد آخر ظروفه طبيعية وخدماته مؤمنة وديمقراطيته منجزة!
لا تثريب عليك إن لم تشارك في معركة النصر فقد كانت لك ظروفك الخاصة، لن يفتح أحد دفتر الثارات معك أو نضيع وقت بلدنا في اللطم على الماضي، فالبلدان قلوبها وأبوابها مفتوحة للبنائين، لا تنسى لكنها لا تحقد، وتحاسب من تعمد الإجرام أو الكراهية!
يسألني كثيرون من أين تستمد الأمل؟ وهل أنت منفصل عن الواقع؟
يقصد هؤلاء الإشارة بشكل رئيس إلى التجاوزات والقتل الذي حدث في الساحل والسويداء، وكذلك يقصدون الإعلان الدستوري ومؤتمر الحوار الوطني وانتخابات مجلس الشعب وتجاوزات أمنية هنا وهناك..
لا تغيب عني كل هذه التفاصيل السورية لحظة، وأنا متابع لأدقها، غير أني لا أغلِّب اليأس على الأمل، فإصرار الإنسان السوري على الحياة والعدالة سيجعل منهج المحاسبة هو الأكثر حضوراً، قد تكون في مرحلة ما غلبت الولاءات أو الفصائلية، أو جماعة: نحن وهم!
غير أن ذلك لن يستمر طويلاً، فالدول لا تستمر إلا بقيم المواطنة وتفعيل القانون وفصل السلطات وتوزيعها، والسوريون أصحاب التاريخ والثورة التي طال انتظارها لن يقبلوا أقل من ذلك!
لستُ بائعاً للوهم، لكنني ابن الثورة التي أعادتني إلى الحياة من جديد، الثورة التي أشبع مسارها بدماء أبناء بلدي لن تكون إلا فياضة بالعدل والأخلاق، ما عندي شك بذلك!
لستُ منفصلاً عن الواقع، غير أن الالتصاق به لا يعني أبداً أن أنكفئ أو أيأس أو أفقد الأمل، كيف لي أن أفقد الأمل وقد بشر العالم كله بانتهاء الثورة السورية فتفينق رجال لا بعرفون اليأس وحققوا النصر= لا مشكلة بالحرب أو الدهاء أو التفاوض أو الاتفاقات، هذا لا يعنيني إلا بصفته خطة ودرساً، ما يعنيني أنهم وصلوا إلى هدفهم بأقل عدد ممكن من الضحايا وقطرات الدم! فأي حرب وأي معركة لا بد لها من مسار تفاوضي يضع اللمسات الأخيرة على خطواتها تبعاً للظروف.
في لحظات الضعف البشرية التي يمر بها الجميع، وأنا منهم أمشي في شوارع دمشق أنظر إلى وجوه السوريين، أقرأ قصصها، أتعلم منها وأستمد الأمل، أنظر إلى الأبنية الصامدة في وجه الإهمال، أنظر إلى حجارتها وهي تقول لي: كم لبثنا! أبتسم لها وأكرر: كم لبثنا!
وفي سؤال صريح يسالك صديق: هل تثق بالسلطة الحالية ذات الجذور الدينية؟
نعم أثق!
كيف؟ أثق لأن الجذور الدينية تعني قيماً أخلاقية إنسانية، وأنا الذي يرى في الإسلام أركان الإيمان بكل ما تعنيه من قبول للأخر، أنا الذي يرى في الإسلام القيم الكبرى: العدالة والمساواة؛ تلك القيم التي جذبت الناس إليه، وأنا الذي يؤمن أن جوهر الأديان وسر بقائها هو قيمها وأخلاقها!
لا يعنيني تفسير منغلق هنا أو هناك، أو حالات فردية طاردة، بل يعنيني حضارة عمرها مئات السنين أقيمت تحت راية هذا الدين!
أستمدُّ الأمل كذلك من الشعب السوري المستمر في الزراعة، من أحلام الشباب اللذين حفروا الصخر في غربتهم فحولوها نجاحاً، أستمدّه كذلك من لحظات التكاتف ومن التاريخ العميق الذي واجه الغزوات والزلازل، وكذلك من اللغة والفن والشعر والموسيقا والحكايات التي تنبئ عن استمرارية السرد السوري!
أستمدّ الأمل وأمشي على طريقه الوحيد لأنه الطريق الوحيد الذي أحارب فيه اليأس والموت، لا طريق آخر أمام المستقبل سوى طريق يمر بباب الأمل، الذي إن لم أجده سأزرعه ليل نهار!
عثرات وخيبات وأخطاء وتجاوزات، لا مشكلة، سمِّها مجازر إن شئتَ أو كان هذا يشفي غليلك شرط أن يكون دافعك معرفي وليس ثأرثاً، إن كان هذا يريحك أخي السوري، لكن بلد المليون شهيد سيستطيع المشي إلى الأمام وأنا لن أنكفئ على نفسي ولن أعظِّم مظلوميتي ولن أتعاضد مع الشبيه فحسب ولن ألجأ إلى العدو لأقوى ولن أتراجع إلى هوياتي من دون الدولة لتغدو هي المعبرة عني، سأمشي في طريق جبر الضرر النفسي وأسلك مسار المصالحة الذاتية وأطالب بالمحاسبة والمصالحة، ولي في تجارب الشعوب الأخرى خير مثال فالغفران والذاكرة والنسيان والتعلم من التجارب مصطلحات رئيسية في حياتي في سوريا الجديدة التي لا يمكن أن تحيا بغير الأمل، الأمل وحده المفتاح نحو أي مسار نريد أن نمشي فيه، فاليائس لا يمكن أن يبني أو يساعد نفسه أو الآخرين، اليائس يبكي ويلوم نفسه ويتوقف عن الفعل وينزوي وتسود في وجهه الحياة مهما كانت مشرقة، لستً متوهماً بل صاحب أمل وصانعه ومتبنيه ومشارك فيه وزارعه وآكل ثمراته أنا ابن سوريا الجدية التي لا يليق بها اليأس!
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية