11
في غزة، لا تنتهي الحكايات عند آخر شهيد، ولا تتوقف البطولة عند اسمٍ واحد، لأن البطولة هناك تُورّث كما تُورّث الأرض والزيتون والكرامة. حين ترحل روح، تولد أخرى، تحمل الرسالة ذاتها، وتكمل المسير دون خوف ولا تردد. في كل بيت في غزة، هناك “صالح” جديد يولد، يحمل على كتفيه ما تركه من سبقه من عزّ وصمود وشرف.
صالح الجعفراوي لم يكن فردًا عاديًا، بل كان تجسيدًا لروح غزة التي لا تنكسر، لتلك المدينة التي تقف على حافة الحياة والموت كل يوم، وتصرّ أن تختار الحياة بشموخ الأحرار. عاش صالح كما يعيش الغزيون جميعًا: بين الألم والأمل، بين أنقاض البيوت وصوت الأذان، بين دمعة أم وابتسامة طفل. لكنه، كما هم الكبار دائمًا، آمن أن المعركة ليست فقط مع الحديد والنار، بل مع الخوف واليأس. فاختار أن يكون رمزًا للشجاعة التي لا تموت، وصوتًا لكل من قاوم بصمته، أو بكلمة، أو بدمعة خبأها خلف نافذة.
في غزة، البطولة لا تحتاج ميادين واسعة ولا كاميرات. البطولة أن تبتسم رغم الألم، أن تزرع شجرة في أرضٍ احترق نصفها، أن تحفظ حلمًا لطفلك في زمن تُقصف فيه الأحلام. هكذا عاش صالح، وهكذا يمضي كل من يشبهه. هناك أبطال لا يُعرفون بالأسماء، لكن رائحتهم تملأ الأزقة، وصورتهم محفورة في وجدان كل من مرّ من هناك.
ولأن غزة لا تعرف الهزيمة، فهي تنجب أمثال صالح كل يوم. طفل يولد في بيتٍ بلا سقف، لكنه يرفع رأسه للسماء كأنه يقول: “ما دام فينا نفس، فسنكمل.” أم تودّع أبناءها ودمعتها تتساقط على التراب، لكنها ترفع يدها إلى السماء وتقول “الحمد لله”. هذا الإيمان الذي يعيش فيهم ليس ضعفًا، بل هو سرّ القوة التي حيّرت العالم؛ كيف لمدينة محاصرة أن تكون بهذا الجمال وهذا الثبات؟
لقد كانت قصة صالح الجعفراوي تذكيرًا بأن فلسطين لا تُختصر في حدودٍ جغرافية، ولا تُقاس بموازين القوى. فلسطين هي الإنسان الذي لا يساوم، هي الجيل الذي يولد من رماد الألم ويعيد كتابة التاريخ. في زمنٍ امتلأ فيه العالم بالضجيج، تبقى غزة أكثر الأماكن صدقًا. فيها الحقيقة العارية التي لا يقدر الإعلام أن يزيّنها، ولا يستطيع الكذب أن يغطيها.
وغزة حين تنتصر، لا تنتصر بالسلاح فقط، بل تنتصر بالإنسان. تنتصر بالطفل الذي يذهب إلى مدرسته رغم الدمار، بالفتاة التي ترسم على جدارٍ مهدّم بيتها بيتًا جديدًا بالألوان، بالشاب الذي يكتب قصيدة بدل أن يحمل حجرًا. هذا هو النصر الحقيقي الذي لا يُقاس بعدد الشهداء ولا بخرائط السيطرة، بل بقدرة الإنسان على البقاء إنسانًا رغم كل شيء.
وفي كل بيت من بيوت غزة، حين تذكر الأم اسم صالح، لا تبكي فقط، بل تبتسم أيضًا. لأنها تعرف أن ما تركه لم يكن جسدًا، بل إرثًا من الكرامة لا يُمحى. صالح لم يمت، لأنه جزء من نبض غزة، من ترابها وهوائها وصوتها. كل من ولد بعده يشبهه، وكل من عاش في مدينته يعرف أن البطولة ليست حدثًا، بل طريقة حياة.
قد يظن العالم أن غزة فقدت الكثير، لكن من يعرفها حقًا يدرك أنها ربحت ما لا يُشترى: الإيمان بنفسها، واليقين أن الحرية لا تموت ما دام في الأرض طفل يردد اسمها. هذا هو سرها الأبدي، وسرّ من ساروا على دربها دون أن يلتفتوا إلى الخلف.
يا غزة… يا مدينة الأوجاع التي علمت العالم معنى الحياة، يا من جعلتِ من الدمار مدرسةً في الصبر، ومن الفقد نبعًا للكرامة. أنتم لم تخسروا يومًا، لأن الخسارة تُقاس بالانكسار، وأنتم لم تنكسروا أبدًا. في كل مرة يسقط فيها جدار، تبنون في القلوب وطنًا. في كل مرة تُقصف فيها سماؤكم، تضيئون نجمة جديدة في ضمير الإنسانية.
وحين نذكر صالح الجعفراوي، فإننا لا نرثيه، بل نُحييه فينا. لأنه رمز لما يجب أن يبقى فينا جميعًا: الشجاعة، الصبر، والإصرار على ألا يُقال إننا متنا ونحن واقفون. في زمنٍ خذلت فيه الكلمات أصحابها، ما زال صوت غزة يقول للعالم: “نحن لا نُهزم، لأننا لم نختر الحرب، بل اخترنا الكرامة.”
وفي الختام، نقول للعالم أجمع:
من أراد أن يتعلم معنى العزة فليتعلم من غزة، ومن أراد أن يعرف سرّ الكرامة فليقرأ في وجوه أطفالها، ومن ظن أن النصر يُقاس بعدد المدافع، فليسمع نبض أم شهيد تقول: “ابني ما مات… كبر في السماء.”
غزة لا تطلب الشفقة، بل الاحترام. لا تنتظر العون، بل الاعتراف بأن في داخلها روحًا لا تُقهر.
وفي كل طفل يولد هناك، صالح جديد… يحمل في عينيه وعدًا لا ينكسر: أن تظل فلسطين حيّة… ما دام في الأرض من يشبهها.