في الماضي العريق، أحبّتي، كان للكبار من حولنا — في العشيرة، وفي البيت، وفي الحارة — دورٌ لا يُنسى في رسم ملامح طريقنا. كانوا يرسمون بخبرتهم خطوط الأمان لحياتنا، يوجّهوننا بصدقٍ لا رياء فيه، وبخوفٍ محبٍّ لا مصلحة وراءه. كانت كلماتهم تتردّد في أسماعنا:
«حافظ على سمعتك»…
«احفظ اسم العشيرة»…
«دير بالك تسوّد وجهنا بين الناس»…
كلها كانت عباراتٍ تختزن خلفها حرصًا عميقًا على رصيدٍ ثمين من السمعة الحسنة، يخشون أن يُمسّ أو يُنقص.
تعلّمنا منهم، وتربّينا على أوامرهم ونواهيهم، التي قد تصيب أو تخطئ، لكنها كانت صادقة النية، نقية القصد. ومع مرور السنوات، في زمنٍ كانت فيه الإمكانيات محدودة والظروف أقسى، أدركت أن ما قالوه لم يكن عبثًا ولا مبالغة. فقد فهمت، من خلال تجارب المراهقة والشباب والرجولة، أن ما أرادوه هو أن نصنع لأنفسنا حاضرًا مشرفًا، يكون غدًا ماضيًا طيبًا نفاخر به، ومستقبلاً يستند إلى جذور ثابتة من السمعة الطيبة.
إن رصيد السمعة الحسنة — أحبّتي — لا يُشترى، ولا يُكتسب بالمال أو بالمناصب، بل يُبنى عبر سنوات من الصدق، والعطاء، والاحترام، والمواقف المشرفة.
فماضي آبائنا المشرق كان لنا عباءة سترٍ لحاضرنا، نستظلّ بها كلّما اشتدت شمس الحياة. غير أن هذا الرصيد، مهما كان عظيمًا، إن استُهلك دون أن نزيد عليه، سينفد.
فلا تُعلّقوا حاضرَكم فقط على ألقابٍ وأسماءٍ:
(أنا ابن فلان… عمي فلان… وخالي فلان…)
فالنسب الكريم جميل، لكنه لا يُغني عن العمل الصالح والسيرة العطرة التي ترفع الرأس في كل زمان.
لذلك، علينا أن نصنع لأنفسنا اليوم رصيدًا نقيًّا من السمعة والستر، نحافظ عليه ونزيده، قبل أن يطاردنا ماضٍ لم نحسن صناعته.
أما أنا، فشعاري كان وسيبقى:
(الماضي يطارد صاحبه).
فلنحافظ على رصيدنا من الستر، أحبّتي، قبل أن يأتي يومٌ لا ينفع فيه نسبٌ ولا لقب، بل يبقى للإنسان ما قدّمه من أثرٍ طيّب وذكرٍ جميل.