«نبض الخليج»
لا تبدو نساء سوريا، مكترثات بأن يكنّ نصف المجتمع. فأمّ محمد، تقول وهي تقلّب ربطات عشبة “الهندبة” على البسطة أمامها: “لو كان الأمر كذلك، لارتحنا من نصف الجهد الذي نقوم به اليوم”. هكذا يبدو المشهد في سوق “الفحامة” الشهير، الذي تفترشه منذ ساعات الصباح الباكر، أمهاتٌ ينزلن من قرى ريف دمشق، ليبعن منتجات “المونة” والأرض الزراعية، على أمل أن يعدن آخر النهار، بما يسد الرمق ويدفعه للاستمرار.
يقول صندوق الأمم المتحدة للسكان، إن “قدرة النساء والفتيات في سوريا على الصمود ليست أقل من استثنائية”، فما فعلته المرأة في الصحة والتعليم وأسواق العمل القاسية، يستحق أكثر من تدبيج المديح والثناءات.
ورغم أن تقرير المنظمة الدولية يضيف بأن النساء السوريات قد “تجاوزن ظروفهن، وأصبحن قادة مجتمعيين، وناشطات، وسيدات أعمال، يسعين جاهدات من أجل مستقبل أفضل لأنفسهن ومجتمعاتهن”، إلا أنهن لم ينلن سوى 6 مقاعد في مجلس الشعب من أصل 119 مقعداً، وهو ما دفع نائبة المبعوث الخاص للأمم المتحدة نجاة رشدي إلى القول: “إن الشعور السائد بين النساء السوريات، هو أن العملية الانتقال ونتائجها الأولية لم ترق لمستوى توقعاتهن والالتزامات التي تم التعهد بها”!.
تبتسم أم محمد، وتنصحني بشراء كيس “الهندبة” كاملاً، نظراً لفوائدها الكثيرة، ونوعيتها النادرة، باعتبارها مقطوفة من قرى جبل الشيخ. وتضيف: “فقدت زوجي خلال الحرب، وأنا مدينة للأعشاب البرية في تربية أبنائي، وليس للمنظمات الدولية والحكومات!”.
تختص بعض بائعات سوق الفحامة، بمنتجات الأجبان والألبان المصنعة منزلياً، عدا عن حضور ثمار الزيتون المقطوف حديثاً على البسطات، وتقول أم ياسر: “أتحدى أن تجد لبنةً أو جبنةً بلدية، مثل هذه التي أصنعها”، وتؤكد أن معظم المواد المباعة في المحلات، مغشوشة. لكن السماسرة والتجار، استطاعوا بمكرهم اختراق هذا السوق، فأرسلوا بضاعتهم مع نساء موظفات لديهن، حتى يبعنها على أساس أنها منتجات منزلية أصيلة، فسبّبوا ضرراً كبيراً للنساء الريفيات هنا.
لا يستغرب المرء، أن يعثر على المرأة السورية تعمل سائقة تكسي، أو تقود دراجة نارية، أو “توك توك”، فالسوريات “أخوات رجال”، كما تصفهنّ سائقة التكسي العمومي رشا الحسن، وهنّ قادرات على الإتيان باللقمة من فم السبع، إن جارت عليهن الظروف وضاقت الدنيا. وتضيف: “في البداية، كان عملي على التكسي أو التوك توك، صعباً، نظراً لعدم اعتياد الناس على دخول المرأة هذا المجال، لكن مع الوقت صار المشهد طبيعياً”.
لجأت رشا إلى التوك توك، ذي العجلات الثلاث، نظراً لغلاء وندرة البنزين خلال السنوات السابقة، لكنها لاحقاً قامت باستئجار سيارة تكسي عمومي اشتغلت عليها، وأصبحت شهيرة جداً في شوارع دمشق.
نساء محجبات و”سبور”
نساء محجبات و”سبور”، جدّات كبيرات في السن، وصبايا يانعات، ينحتن بالصخر من أجل الحصول على لقمة العيش، بينما يبدو الاتجاه الرسمي للحكومة، ميالاً للنهج الذكوري المحافظ، حيث الهيئات والمجالس، معظم أعضائهم من الرجال، وهو ما دفع رشا للقول: “الحكومة حتى الآن، غير قادرة على إعطاء راتب يكفي لدفع فاتورة الكهرباء، فكيف يريدون من المرأة أن “تتستّت” وتجلس في المنزل؟”.
ننتقل باتجاه مدخل سوق باب سريجة، حيث مشهد النساء البائعات، يبدأ من مدخل السوق، وكلما اقتربنا من الفرن، يبدأ مشهد النساء بائعات الخبز بالظهور، إلى جانب اللوز والجوز والدبس البلدي والزبيب، تقول أم علي: “انتهى موسم المكدوس، لكن الناس تحتاج الجوز في الكثير من الأكلات الأخرى..”.
تتقدم النساء في مجالات كثيرة، من الصعب على الرجال تغطيتها، في مقدمتها قطاع الصحة والتمريض، إضافة إلى التعليم، فعدا عن المهن التي كانت حكراً على الرجال، فإن هذا النوع من المهن، لا يمكن تخيلها من دون النساء.. في مشفى المواساة والمجتهد وابن النفيس وغيرها من المشافي العامة والخاصة، من الصعب سير العمل إذا استقالت النساء.. حتى في مجال الدعاية والتسويق، تحضر الصبايا على “ستاندات” الشوارع، لتبدو مقولة “الحرّات يأكلن بسواعدهن” واقعية جداً بالنسبة لنساء سوريا.
من الصعب إحصاء مهن النساء التي تنشأ في المنازل، مثل الخياطة وتحضير “المونة” في المواسم المختلفة، إضافة للعاملات بالتنظيف ومساعدة المسنّات المرضى كمرافقات طيلة اليوم.. تقول أم عبدو: “النصف الأول من النهار، أقضيه برفقة إحدى المسنّات، ثم أبدأ بعملي الثاني بعد الظهر، وهو تعزيل المنازل وتنظيف الألبسة وغيرها من الأعمال المنزلية”.
نساء تسبّع الكارات، كما يقول المثل الشعبي، حيث تبدو القوة العضلية التي تبذلها المرأة في سوريا، لا تقل شأناً عما يفعله الرجل، وهو ما يدفع العاملات المتمرسات، إلى الزهد بالعناية بالتجميل ونضارة البشرة.. تسخر أم محمد عندما نسألها عن هذا الأمر وتعلق: “بشرة؟ ما بدك يكون في بشر تهتم”!.
تكبر بانوراما عمل النساء في سوريا بشكل متسارع، انسجاماً مع الوضع الاقتصادي الصعب الذي يعصف بمعظم الأسر، وتبدو السياسات الحكومية تغرد في واد، بينما المجتمع يمشي في واد آخر.. تبتسم أم محمد، وهي تصر أن نشتري منها كيس الهندباء، وتقول: “هذه النبتة تخفف من حدة الكولون العصبي، وتهدىء الانفعالات وتغذي الدم.. خذ كامل الكيس اسمع مني”!.
شارك هذا المقال
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية