«نبض الخليج»
يدرج الآن سؤال على وسائل التواصل الاجتماعي وعلى أرض الواقع يطرحه أشخاص في عشرينياتهم موجه لمن ينتقدون أي سلوك للسلطة الحالية: “أين كنت خلال الأربعة عشر عاما السابقة لم نسمع لك كلمة واحدة تنتقد مجازر الأسد)، يطرحون السؤال بثقة المتأكد من صمتك والعارف بأنك من الفلول، دون أنهم في المدة التي يتحدثون عنها كانوا مجرد أطفال، وأن ذاكرتهم عن الثورة مبنية على سردية البيئة التي عاشوا فيها (لا يوجد في هذا الكلام أي قيمة للبيئة). ويمكن تبرير هذه الأسئلة من قبل هؤلاء وإيجاد الأعذار لهم، خصوصا من عاش منهم في المناطق الخارجة عن سيطرة الأسد أو في المخيمات، هؤلاء يرون الثورة فعلا جهادا عسكريا، وكل ما عداها لا قيمة له (أيضا لا يوجد هنا حكم قيمة). لكن المفزع أن يطرح عليك هذا السؤال أشخاص يعرفونك جيدا ويعرفون تاريخك وتربطك بهم علاقات تشكلت بعد الثورة، ولم يكونوا يوما من دعاة الجهاد المسلح، لكنهم فجأة الآن بدأوا بتقييمك وطرح الأسئلة عليك لمجرد انتمائك البيولوجي لطائفة ولدت بها بالصدفة مثلما يولد الجميع بطوائف وأديان لا يد لهم فيها.
ولأنني أحد الذين يتعرضون بشكل شبه يومي لهذه الأسئلة، ولأنني صدمت بمواقف ممن كنت أظنهم أصدقاء لمجرد أنني أنتقد سلوكات السلطة الحالية وأعترض على سياسات أراها تزيد في الشرخ الاجتماعي الحاصل الذي قد يودي إلى ما نخشاه جميعا وهو تفتيت سوريا وتقسيمها بما لن يكون في مصلحة أحد سوى أعدائها خصوصا العدو الإسرائيلي الذي لا يخفي رغبته في ذلك وسعيه اليومي لفرض هذا التقسيم، فإنني سوف أستغل هذا المنبر الذي أعتبره لجميع السوريين لأكتب قليلا عن نفسي لمن لا يعرفني من (الثوار الجدد) ولمن يتهمني بالارتداد الطائفي لمجرد منذ بدأت الحديث عما تم ارتكابه من مجازر في الساحل السوري، وعن الأخطاء السياسية التي من واجبنا جميعا كسوريين حريصين على سوريا وثورتها الحديث عنها.
قبل الثورة السورية لم أنخرط في أي نشاط معارض للنظام لكنني لم أكن يوما من المطبلين له ولم أحسب يوما على مثقفيه. كنت أعيش داخل سوريا، أعمل مثل كل السوريين في واحدة من مؤسسات الدولة، وأستفيد من المساحات المتاحة للعمل الثقافي. لم أملك شيئا في حياتي خارج راتبي الشهري، لم أملك بيتا ولا أرضا ولا سيارة ولا أي شيء، ملكت، ومازلت، أصدقاء رائعين من كل طوائف وإثنيات سوريا، ساندوني في كل أزمات حياتي، مع لحظة انطلاق الثورة لم أتردد لحظة واحدة في الوقوف معها وإعلان تأييدي لها، كنت أحلم بها منذ هروب بن علي في تونس.
كتبت عنها وخرجت في مظاهراتها، واعتقلت ابنتي في بدايات الثورة، وفصلت من عملي وشوهت سمعتي وسمعة عائلتي، و نفيت من سوريا، حرفيا، بطلب متكرر من الأمن العسكري تحت طائلة اعتقالي وابنتي، وهددت بالقتل من أبناء طائفتي ومنهم أقارب ومعارف لي. رفضت اللجوء إلى أوروبا كي لا يقال إنني استفدت من الثورة (هذا أيضا لا يحمل اتهاما أو حكم قيمة على من اختار اللجوء هو موقف شخصي يتناسب مع قناعاتي الشخصية). عشت في مصر مع كل الظروف الصعبة في الحصول علي الإقامة فيها. وأتتني عروض بعد سنوات من خروجي من سوريا للعودة إليها وإجراء مصالحة وتسوية ورفضت ذلك بشكل قاطع، وكنت أقول دائما علنا: لن أعود إلي سوريا مادام فيها واحد من آل الأسد. حرمت من بلدي مثل مئات الآلاف غيري. ولم أتوقف يوما عن الكتابة ضد النظام السوري، لدي مئات المقالات (موجودة كلها على جوجل) تفضح النظام وتساند الضحايا وحقهم في الحياة والحرية والعبادة والعمل السياسي والمدني، وحقهم في الحكم والتغيير، لم تعنني طائفتي يوما ولم أهتم بهذا الانتماء الذي لا يد لي فيه. أساسا أنا لا دينية، وعموما المرأة العلوية لا تعرف شيئا عن الدين العلوي فلماذا سأكون علوية ما دمت لا أعرف هذه العقيدة؟! لم أكترث يوما لطوائف الآخرين ولم أنتبه لها، وحين أنتقد الأديان فبوصفها عائقا أمام تقدم البشرية، كل الأديان من دون استثناء؛ وأعتبر أن أوروبا لم تتقدم إلا بعد إبعاد الدين عن السياسة. أنا امرأة تؤمن أن النظام العلماني هو الحل الوحيد الوحيد لمشكلات بلادنا، ومثالي على ذلك تركيا ودستورها ونظامها، وهي أقرب البلاد لنا اجتماعيا.
بعد سقوط النظام كانت فرحتي لا توصف، لم أتمكن من الذهاب مباشرة الى سوريا لأسباب لوجستية واقتصادية. وحين كنت أفكر بمن تسلم الحكم لا أنكر أنني كنت خائفة لكن الأمل كان يتغلب على الخوف عندي، الأمل بأن هؤلاء شباب اضطروا إلى اتباع نهج معين بسبب كل الإجرام الذي مورس عليهم وسيعودون إلى طبعهم المعتدل الموروث من الجينات السورية. بررت حتى حوادث القتل الفردية ضد العلويين واعتبرتها رد فعل طبيعي على ما حصل خصوصا مع غياب آليات العدالة الانتقالية وصعوبة تحقيقها. لكن مع ارتكاب مجازر يندى لها الجبين واستهداف المدنيين والأطفال والنساء وكل العمليات المروعة التي حصلت في الساحل بذريعة الفلول الذين كان يجب مواجهتهم عسكريا لا عبر تسليح المدنيين وإرسالهم لقتل مدنيين مثلهم، مترافقة مع خطاب إعلامي مقرب من السلطة محرض وطائفي وقاتل، وانتقال الخطاب الطائفي نحو الدروز، ومع كل ما يحدث من فشل على جميع المستويات، والتهميش لفئات واسعة من الشعب وغياب الشفافية وغياب المحاسبة وترك المجرمين يسرحون ويمرحون. لم أعد أرى في تبرير كل ذلك سوى إعادة صياغة دكتاتورية وفاشية جديدة بعقيدة دينية بدل الحزبية. لم أسرد كل ما سبق للتباهي، ولا لتقديم كشف حال وطني لمن يرى الوطن في طائفة؛ ولكن لأقول لمن يتهمني وغيري بالطائفية كلما انتقدنا الفشل وتحدثنا عن المجازر وطالبنا بالعدالة وبحثنا عن وطن للجميع: الإنسانية تعني أن ترى بعين غيرك قبل عينك، وأن ترى بعين ضميرك قبل عين هواك، وأن تشعر كما لو كنت الآخر قبل أن تكون أنت. الإنسانية تعني أن تقف مع الحق والحق لا يحده دين ولا تأسره طائفة، الحق رحب وواسع وجلي كما الرحمة. هل هناك ما يمكنه أن يأسر الرحمة؟ قبل أن تتهم أحدا بما تعتقد فتش في أعماق جوفك عن منبع هذا الاتهام لترى الحقيقة. لم أعد إلى سوريا حتى اللحظة، ولا أجرؤ على العودة، لن أحتمل أن يهينني شاب يمكنه أن يكون في سن حفيدي لو كان لي حفيد، ولن أحتمل أن يسألني مسلح ما عن طائفتي، إذ إنني لن أضمن ردة فعلي على سؤال مستفز كهذا. ولن أتجرأ على الذهاب لزيارة قبر والدي في قريتي إذ قد أقتل برصاص فصيل قرر اقتحام تلك المنطقة في لحظة ما. وخوفي هذا ليس من فراغ بل هو آت من خوف أهل قريتي والقرى المجاورة. خوف ينتقل إلي من أصواتهم كلما تكلمت مع أحدهم بقصد الاطمئنان عليه. هل البلاد التي يخاف فيها أبناؤها من سلطتها يمكن تسميتها أوطانا، لو كانت سوريا وطنا حقيقيا لما قام السوريون بثورة، ولو كانت شبه وطن بعد الثورة لما خرجنا منها جميعا خوفا على حياتنا. لماذا تريدون أن تعاد ذات السردية؟ سوريا أجبرت على إلحاقها بآل الأسد ودفع شعبها أثمانا باهظة نتيجة لذلك؛ ممن تنتقمون الآن وأنتم تجبرونها على الإلحاق بالشرع؟ تنتقمون من العلويين مثلا؟ هل لمصلحتكم بناء مظلومية جديدة محملة بإرث جديد من الدم سوف يجد له ضحايا جدد بعد حين يبنون مظلومية جديدة تبحث عن دم جديد، وهكذا حتى لا يبقى من هذا البلد سوى سيرة القتل والذاكرة الدموية. هذا البلد لأبنائنا جميعا.. قلنا هذا مرارا خلال الأربعة عشر عاما الماضية، وقلنا إن الدم لن يولد سوى الدم وإن غض الطرف عن المجازر المرتكبة سوف يربي الحقد، قلنا إن المجازر تتحرك وتنتقل وتمشي، لا شيء يوقف حركتها أو يشلها غير صوت الضمير، ذلك أن المجازر لا ضمائر لها، نحن من يفترض أن نكون الضمير الذي يمنع المجزرة من التمدد ومن إنجاب الجلادين والطغاة الذين يدمرون كل شيء. قلنا ذلك مرارا خلال الأربعة عشر عاما الماضية ولم يسمعنا أحد، يدفع الأبرياء اليوم ثمن الضمائر الميتة، وسيدفع أبرياء الغد ثمن ضمائر الحاضر الميتة.
شارك هذا المقال
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية