جدول المحتويات
«نبض الخليج»
في خطوة وُصفت بأنها الأهم منذ عقود في تاريخ تركيا الحديث، قرّر “حزب العمال الكردستاني (PKK)” حلّ نفسه وتسليم سلاحه، منهياً بذلك صراعاً مسلحاً استمر أكثر من أربعين عاماً ضد الدولة التركية وأودى بحياة أكثر من 40 ألف شخص. وحمل البيان الذي بثّته “وكالة فرات” المقرّبة من الحزب تحوّلاً كبيراً في مسار القضية الكردية، إذ أعلن أن الحزب “أنجز مهمته التاريخية” ونجح في “إيصال القضية الكردية إلى نقطة الحل عبر السياسة الديمقراطية”.
غير أن هذا الإعلان، على أهميته، لم يُجب عن الأسئلة الجوهرية التي تحيط بمستقبل الحزب ومصير امتداداته. فلا يزال الغموض يكتنف مصير زعيمه عبد الله أوجلان، المعتقل منذ عام 1999، كما لم تُحسم الآليات العملية للتعامل مع آلاف المقاتلين المنتشرين في شمالي العراق وسوريا. إلى جانب ذلك، يبقى مستقبل “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) محلّ تساؤل، وهي التي تُتهم بارتباط وثيق بالحزب تنظيمياً وعسكرياً رغم نفيها المتكرر، كما أنها تمثل لاعباً أساسياً في شمال شرقي سوريا، حيث تفرض سيطرتها على مناطق غنية بالموارد الطبيعية والثروات الزراعية والحيوانية، ما يشكّل تحدياً جدياً أمام مساعي الدولة السورية لاستعادة سيادتها الكاملة.
مبادرة سياسية من أردوغان وبهجلي أعادت إطلاق المسار
أعاد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تحريك ملف التسوية بعد نحو عقد من الجمود، من خلال مبادرة قدّمها حليفه القومي دولت بهجلي. وتضمنت المبادرة اقتراحاً نقله وفد من حزب “المساواة وديمقراطية الشعوب” إلى أوجلان في سجن جزيرة إمرالي، يدعو إلى نبذ العنف مقابل احتمال الإفراج المبكر عنه. حيث صف أردوغان هذه المبادرة بأنها “فرصة تاريخية”، لكنه حذّر من أن العمليات العسكرية ستستمر إذا لم يُنفّذ الاتفاق.
وفي مؤتمر استثنائي عقده “حزب العمال الردستاني” في جبال قنديل شمالي العراق بين 5 و7 أيار الجاري، أعلن قادته حل الهيكل التنظيمي وإنهاء الأنشطة المرتبطة باسم الحزب. وصرّح دوران كالكان، عضو اللجنة التنفيذية، لـ”وكالة فرات” أن هذه الخطوة “ليست نهاية، بل بداية جديدة”. وجاء هذا الإعلان بعد دعوة أطلقها أوجلان في شباط الماضي لأنصاره لتسليم السلاح، تلاها إعلان وقف لإطلاق النار في آذار.
ماذا بعد إلقاء السلاح؟
النائب السابق في حزب العدالة والتنمية، شامل طيار، كشف أن العملية جاءت نتيجة مفاوضات معقدة، لعب فيها أوجلان دوراً محورياً في توحيد القيادة الداخلية للحزب. وأوضح أن السلاح سيُسلّم في السليمانية وأربيل بإشراف تركي، بينما ستنتقل نحو 300 من قيادات الصف الأول إلى دول ثالثة مثل جنوب إفريقيا والنرويج، مع منع التوجه إلى إيران أو سوريا.
وتشمل الخطة أيضاً إعادة نحو 4000 عضو إلى تركيا، على أن يُستقبلوا عند النقاط الحدودية بعد دراسة ملفاتهم، استجابةً لمطالب “أمهات ديار بكر” اللواتي نظمن اعتصامات لسنوات للمطالبة بأبنائهن. كما سيعاد الاعتبار لرؤساء بلديات أُقيلوا بسبب ارتباطاتهم السابقة بالحزب، وفق ما أشار إليه طيار.
كما سيعاد تشكيل سيُعاد هيكلة “وحدات حماية الشعب” (YPG) التي تشكل العمود الفقري لـ”قسد” بالتنسيق مع دمشق، مع ترحيل المقاتلين الأجانب ودمج العناصر المحليين في الجيش السوري. كما سيتوقف استخدام اسم “PKK” سياسياً أو عسكرياً في أي كيان لاحق.
تعديلات قانونية مرتقبة في تركيا
وأكد طيار، نقلاً عن مسؤول رفيع المستوى، أن عبد الله أوجلان سيبقى في سجنه. غير أن التعديلات القانونية المرتقبة قد تتيح الإفراج عن المرضى وكبار السن، وربما تُمهّد لاحقاً لطرح عفو مشروط أو لصياغة دستور جديد عبر تفاهمات برلمانية.
وسياق متصل، نقلت “صحيفة تركيا” عن مصادر حكومية أن ظروف احتجاز أوجلان، البالغ من العمر 76 عاماً، ستُخفف عبر تدابير إدارية تشمل تكليف ضابط لمساعدته، وزيادة وتيرة زيارات عائلته ووفود الأحزاب الكردية. لكن إطلاق سراحه لا يزال غير مطروح، إذ يخشى أوجلان على حياته في حال خروجه من السجن، ويُدرك أنه قد يواجه تهديدات أمنية.
من دمشق إلى قنديل.. جذور الكردستاني وتحالفه التاريخي مع نظام الأسد
تأسس “حزب العمال الكردستاني” في جنوب شرق تركيا عام 1978، متأثراً بالأفكار الماركسية اللينينية، وبدأ تمرّده المسلح في عام 1984 للمطالبة بدولة كردية. تطورت أهدافه لاحقاً نحو الحكم الذاتي والحقوق الثقافية للأكراد. وقد خاض الحزب مواجهات دامية، ما دفع تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى تصنيفه كمنظمة إرهابية.
تلقى الحزب دعماً مباشراً من نظام حافظ الأسد، الذي استضاف أوجلان في دمشق ووفّر له معسكرات تدريب في سهل البقاع اللبناني. إلا أن دمشق، وتحت ضغط تركي، طردته عام 1998. وبعد شهور من فراره، اعتقلته القوات التركية في كينيا، وصدر بحقه حكم بالإعدام عام 1999، خُفف إلى السجن المؤبد في 2002 بعد إلغاء تركيا لعقوبة الإعدام. وما زال أوجلان مسجوناً في جزيرة إمرالي.
وبعد أشهر من انطلاق الثورة السورية عام 2011، سيطر “حزب الاتحاد الديمقراطي” (PYD)، الذي تعتبره أنقرة الفرع السوري للحزب، عبر ذراعه العسكري “وحدات حماية الشعب” (YPG)، على مناطق واسعة في شمالي سوريا، وأسس لاحقاً “الإدارة الذاتية” التي حافظت على علاقة براغماتية مع نظام بشار الأسد حتى سقوطه في 8 كانون الأول الماضي.
ورغم بعض التوترات، أكد قادة الحزب استمرار التواصل مع نظام بشار الأسد. وصرّح جميل بايك، القيادي البارز، أن العلاقة مع عائلة الأسد “تاريخية ووثيقة”، مضيفاً: “لا يمكننا أن نكون مناهضين لسوريا أو ضد الأسد”. وأعرب بايك في حينها عن رغبة الحزب في تقريب وجهات النظر بين “الإدارة الذاتية” والنظام، لحل الخلافات ضمن إطار لا مركزي.
موقف “قسد” والشارع الكردي من القرار
وبينما تُركّز أنقرة جهودها على إعادة ترتيب أولوياتها الأمنية داخلياً بعد قرار الحزب حلّ نفسه، تتابع باهتمام تطورات المشهد في شمال شرقي سوريا، حيث تتجه أنظارها نحو “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، التي تُتّهم بكونها امتداداً تنظيمياً وعسكرياً لـ”PKK”، رغم نفيها المتكرر لذلك.
وفي هذا السياق، صرّح القائد العام لـ”قسد”، مظلوم عبدي، أواخر شباط الماضي، بأن قرار عبد الله أوجلان بشأن حل الحزب يخصّ “العمال الكردستاني” فقط، مؤكداً أن الأوضاع في شمال شرقي سوريا تفرض مقاربة مختلفة لا تنفصل عن تعقيدات المشهد المحلي والإقليمي.
بالتوازي، تواصل اللجنة المشتركة بين “قسد” والحكومة السورية عقد اجتماعات مجدولة في قاعدة التحالف الدولي بحقل العمر النفطي في ريف دير الزور. ويشارك في الاجتماعات من جانب الحكومة رئيس جهاز المخابرات العامة، حسين عبد الله السلامة، بينما يقود وفد “قسد” مظلوم عبدي.
ورغم وصف مصادر مطلعة لتلك اللقاءات بأنها “مثمرة”، إلا أنها لم تسفر حتى الآن عن نتائج ملموسة، في ظل إصرار “قسد” على البقاء ككتلة عسكرية موحدة والحصول على مناطق حكم ذاتي أو كما تطلق عليها “إدارة لا مركزية”، وهو ما يُعد تهديداً بإعادة إشعال التوترات مع أنقرة.
في المقابل، حظي قرار الحل بترحيب حذر من الشارع الكردي في تركيا، إذ عبّر سياسيون أكراد عن أملهم في أن يكون هذا التطور فرصة لبناء سلام دائم. واعتبر طيب تمل، نائب الرئاسة المشتركة لحزب المساواة والديمقراطية للشعوب، أن للقرار “أهمية بالغة للشعب الكردي وللشرق الأوسط ككل”.
وبدوره، رحب رئيس إقليم كردستان العراق، نيجيرفان بارزاني، بقرار “حزب العمال الكردستاني حل نفسه وإلقاء السلاح، مثمنا جهود الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لإنجاح العملية، وشدد على أن الإقليم على كامل الاستعداد لتقديم كافة أشكال الدعم والمساعدة لإنجاح هذه “الفرصة التاريخية”.
موقف تركي متوجّس وتحذير من استغلال الساحة السورية
عبّر وزير الخارجية التركي هاكان فيدان عن حذر بلاده وترقّبها لما بعد قرار الحل، مؤكداً في مؤتمر صحفي مشترك مع نظيريه السوري والأردني، أن “احتلال الحزب لثلث الأراضي السورية لا يزال يشكّل تهديداً مباشراً لوحدة البلاد واستقرارها”.
وشدد على ضرورة تفكيك البنية العسكرية لـ “PKK” داخل سوريا والعراق، محذراً من أن تركيا ستتخذ ما يلزم إذا لم تُترجم القرارات إلى وقائع. وأوضح أن تركيا ما تزال تحتفظ بجاهزيتها للتدخل في أي لحظة إذا لزم الأمر، وأن القرار ستكون له تداعيات مباشرة على المشاريع التنموية المنتظرة في الإقليم، وعلى رأسها مشروع “طريق التنمية” الممتد من العراق إلى تركيا.
ومشروع “طريق التنمية” طريق بري وسكة حديدية تمتد من العراق إلى تركيا وموانئها، يبلغ طوله 1200 كيلومتر داخل العراق، ويهدف إلى نقل البضائع بين أوروبا ودول الخليج. وبعد سقوط نظام بشار الأسد، أعلنت أنقرة عزمها على ضم سوريا إلى هذا المشروع الضخم، مما يمهد الطريق لتطورات اقتصادية وجيوسياسية مهمة.
مستقبل غامض.. ومكاسب سياسية كبيرة لأردوغان
رسم تفكيك “حزب العمال الكردستاني” معالم مرحلة جديدة لا تزال ملامحها غير مكتملة، إذ تشير تصريحات المسؤولين الأتراك إلى إمكانية تكثيف الضغوط على “قسد”، وتحقيق مكتسبات في شمالي سوريا. وفي الوقت نفسه، يُنتظر أن ينعكس القرار إيجاباً على الاستقرار الاقتصادي والسياسي التركي، كما ظهر في استقرار الليرة وارتفاع مؤشر الأسهم بنسبة 3 في المئة بعد الإعلان.
ويمنح هذا التحول السياسي أردوغان فرصة لتسريع المشاريع الاقتصادية والتنموية، خصوصاً في جنوب شرقي تركيا، وكسب أصوات الشارع الكردي، في ظل الاستقطاب السياسي الحاد في البلاد بعد رئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، منذ 19 آذار الماضي، بتهم تتعلق بالفساد، إذ ترى غونول تول، مديرة برنامج تركيا في معهد الشرق الأوسط، أن الدافع الأساسي وراء تسريع إعلان حزب العمال الكردستاني حل نفسه كان “تعزيز سلطة أردوغان”، وهو ما قد يدفعه للترشح في انتخابات 2028 من موقع قوة، مستفيداً من معارضة متشرذمة.
ومنذ أشهر، تتكثف المشاورات داخل “تحالف الشعب” بقيادة “العدالة والتنمية”، بشأن تعديل محتمل في توقيت أو طبيعة الانتخابات المقبلة. وكان مصطفى أليطاش، نائب رئيس الحزب، أشار إلى إمكانية تقديم موعد الانتخابات إلى خريف 2027، وهي خطوة قد تتيح لأردوغان تجاوز القيود الدستورية التي تمنعه من الترشح مجدداً، لكنها تحتاج إلى 60 في المئة من البرلمان. كما عاد الحديث مجدداً عن تعديل دستوري، بهدف إزالة العوائق القانونية أمام تجديد الولاية الرئاسية.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية