جدول المحتويات
«نبض الخليج»
بدأت الولايات المتحدة فرض العقوبات على سوريا منذ عقود. أُدرجت سوريا على قائمة الدول الراعية للإرهاب منذ نهاية 1979، مما وضعها تحت طائفة من القيود بسبب دعمها المزعوم للتنظيمات الإرهابية. على مر الثمانينات والتسعينات، استمرت هذه القيود وشملت حظر تصدير الأسلحة إلى سوريا والقيود على المساعدات الأميركية نتيجة هذا التصنيف.
في أوائل الألفية الجديدة، تصاعدت الضغوط الأميركية مع إقرار قانون محاسبة سوريا واستعادة سيادة لبنان لعام 2003 الذي تبناه الكونغرس. استند القانون إلى اتهام سوريا بدعم الإرهاب، واستمرار وجود قواتها في لبنان، والسعي لامتلاك أسلحة دمار شامل وصواريخ باليستية، وتقويض جهود الاستقرار في العراق المجاور.
وعلى إثر ذلك، أصدر الرئيس الأميركي في 11 أيار 2004 الأمر التنفيذي 13338 معلناً حالة طوارئ وطنية في العلاقات مع سوريا، لتنفيذ هذا القانون وفرض عقوبات إضافية بموجب قانون السلطات الاقتصادية الطارئة الدولية (IEEPA). شكلت هذه الخطوة نقطة انطلاق لبرنامج عقوبات أميركي أشمل على سوريا اعتباراً من 2004.
خلال السنوات التالية، توسعت العقوبات مع تغير الأوضاع الإقليمية. في نيسان 2005، وبعد اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري، أصدر الرئيس الأمر التنفيذي 13399 الذي استهدف المسؤولين عن هذا الاغتيال وفرض عقوبات إضافية ضمن حالة الطوارئ المعلنة. ولاحقاً في شباط 2008، صدر الأمر التنفيذي 13460 لمعاقبة المتورطين في أعمال الفساد العام التي مكّنت نظام الأسد المخلوع من مواصلة سلوكياته المرفوضة دولياً.
مع اندلاع الاحتجاجات الشعبية في سوريا في آذار 2011 والتي تحولت إلى نزاع مسلح، بادرت واشنطن إلى فرض حزمة جديدة وقاسية من العقوبات. أصدر الرئيس في نيسان 2011 الأمر التنفيذي 13572 الذي وسّع حالة الطوارئ لتشمل انتهاكات حقوق الإنسان بوصفها تهديداً غير عادي للأمن القومي الأميركي.
تلاه في أيار 2011 الأمر التنفيذي 13573 مستهدفاً مسؤولين كبار في النظام المخلوع بمن فيهم بشار الأسد ومسؤولين آخرين متورطين في تصعيد العنف. ثم جاء الأمر التنفيذي 13582 في آب 2011 ليفرض أوسع عقوبات حتى ذلك التاريخ، حيث جُمّدت ممتلكات الحكومة السورية، وحُظر على الأشخاص الأميركيين الاستثمار في سوريا أو تصدير الخدمات إليها، وحُظر استيراد النفط والمنتجات النفطية ذات المنشأ السوري.
بحلول نهاية 2011، كانت العلاقات الدبلوماسية قد تدهورت أيضاً مع إغلاق السفارة الأميركية في دمشق وتعليق معظم أشكال التعاون.
استمرت العقوبات بالتوسع خلال السنوات اللاحقة. في نيسان 2012 صدر الأمر التنفيذي 13606 لمعاقبة من يساعدون النظامين السوري والإيراني في انتهاك حقوق الإنسان عبر تكنولوجيا المراقبة وغيرها. وفي أيار 2012، صدر الأمر التنفيذي 13608 لاستهداف الأشخاص والشركات الأجنبية التي تساعد في التهرب من العقوبات المفروضة على سوريا وإيران. كما واصلت وزارة الخزانة إضافة كيانات وأفراد سوريين أو داعمين لهم إلى قوائم العقوبات بشكل منتظم بسبب أنشطتهم المزعزعة للاستقرار أو انتهاكاتهم.
وفي تطور نوعي، أقر الكونغرس الأميركي في عام 2019 قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا ضمن موازنة الدفاع، ودخل حيز التنفيذ في حزيران 2020. وسّع هذا القانون نطاق العقوبات بشكل غير مسبوق ليشمل الأطراف الأجنبية التي تدعم النظام المخلوع.
على سبيل المثال، يفرض القانون عقوبات على أي جهات أو أفراد أجانب يقدمون دعماً مالياً أو تقنياً كبيراً للحكومة السورية أو لقطاعيها العسكري والنفطي أو يشاركون في مشاريع إعادة الإعمار لصالح النظام.
وقامت وزارة الخزانة في حزيران 2020 بإدراج أول مجموعة من الأفراد والكيانات بموجب قانون قيصر، مؤكدةً أن أي شخص أو جهة تتعامل مع النظام المخلوع معرضة للإجراءات الأميركية. وبذلك أصبح برنامج العقوبات على سوريا أحد أكثر برامج العقوبات شمولاً وتعقيداً التي تطبقها الولايات المتحدة.
الأطر القانونية والتشريعات الأساسية
ترتكز العقوبات الأميركية على سوريا إلى مزيج من الأطر القانونية التي تشمل قرارات تنفيذية صادرة عن السلطة التنفيذية وتشريعات أقرها الكونغرس:
- قوانين تصنيف سوريا كدولة راعية للإرهاب (1979): أُدرجت سوريا في قائمة الدول الراعية للإرهاب منذ 1979 بموجب قوانين أميركية مثل قانون مراقبة تصدير الأسلحة وقانون المساعدات الخارجية. أدى هذا التصنيف إلى فرض حظر على بيع الأسلحة لسوريا وقيود على المعونات الأميركية وغيرها من التدابير العقابية.
- قانون محاسبة سوريا واستعادة سيادة لبنان لعام 2003 (Public Law 108-175): يشكل الإطار التشريعي الأساسي للعقوبات التي بدأت في 2004. أوجب هذا القانون على الرئيس فرض عقوبات اقتصادية ودبلوماسية على سوريا ما لم تقم بعدة خطوات بينها وقف دعم المنظمات الإرهابية (كحزب الله وحماس)، وسحب قواتها من لبنان، ووقف تطوير أسلحة الدمار الشامل والصواريخ الباليستية. منح القانون الرئيس صلاحية تعليق بعض العقوبات إذا شهد بتحقق تقدم في سلوك سوريا. قام الرئيس بوش بالتوقيع على القانون في ديسمبر 2003، ثم أصدر الأمر التنفيذي 13338 في مايو 2004 لتنفيذه.
- حالة الطوارئ الوطنية والأوامر التنفيذية (2004-حتى الآن): اعتمد الرؤساء المتعاقبون على قانون السلطات الاقتصادية في حالات الطوارئ الدولية (IEEPA) وقانون الطوارئ الوطنية (NEA) لإصدار أوامر تنفيذية تفرض عقوبات على سوريا. من أبرز هذه الأوامر:
- الأمر 13338 (2004): جمّد أصول أشخاص مرتبطين بالحكومة السورية وحظر تصدير معظم السلع الأميركية إلى سوريا باستثناء المواد الإنسانية، ومنع الطائرات السورية من الهبوط أو التحليق في الولايات المتحدة، وغيرها.
- الأمر 13399 (2006): استهدف المتورطين باغتيال الحريري بموجب قانون مشاركة الأمم المتحدة (UNPA) إضافة لـ IEEPA، لمعاقبة المسؤولين السوريين الضالعين في زعزعة استقرار لبنان.
- الأمر 13460 (2008): عاقب شخصيات سورية متورطة بالفساد الذي دعم سلوك النظام (كإثراء غير مشروع للمقربين).
- الأمر 13572 (2011): جمّد أصول مسؤولين متورطين في انتهاكات حقوق الإنسان وقمع المتظاهرين بما فيهم مسؤولون أمنيون.
- الأمر 13573 (2011): استهدف بشار الأسد وأفراد دائرته المقربة بالاسم، مجمّداً أصولهم وحاظراً تعامل الأميركيين معهم.
- الأمر 13582 (2011): فرض حظراً اقتصادياً شاملاً تقريباً، بما في ذلك منع أي صفقات أو تعاملات مالية مع النظام المخلوع، وحظر استيراد النفط السوري، ومنع أي استثمار أميركي في سوريا.
- الأمر 13606 (2012): استهدف الجهات التي تساعد النظام إلكترونياً في مراقبة وقمع المواطنين (بالشراكة مع أمر مشابه ضد إيران).
- الأمر 13608 (2012): خوّل معاقبة الجهات الأجنبية التي تحاول التهرب من العقوبات الأميركية على سوريا أو تساعد في ذلك.
- قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا لعام 2019: يمثل أحدث إطار تشريعي كبير، وفرض عقوبات ثانوية (عابرة للحدود) تطال غير الأميركيين الذين يتعاملون مع النظام المخلوع. يوجب القانون على الرئيس معاقبة أي شخص أو شركة أجنبية توفر دعماً مالياً أو تقنياً مهماً للحكومة السورية أو الجيش أو قطاع النفط والغاز أو تشارك في مشاريع البناء والهندسة الكبيرة لصالح النظام. كما يفرض عقوبات على من يزود النظام بطائرات أو قطع غيار عسكرية أو معدات قد تُستخدم في قمع المدنيين. تشمل العقوبات بموجب القانون قيصر تجميد الأصول وحظر الدخول إلى الولايات المتحدة لهؤلاء الداعمين. يتيح القانون للرئيس تعليق العقوبات إذا رأى أنه يصب في المصلحة القومية الأميركية أو في حال تنفيذ النظام المخلوع لمعايير محددة مثل وقف قصف المدنيين وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وغير ذلك من شروط حقوق الإنسان. يُذكر أن القانون استُوحِي اسمه من المصور العسكري السوري المنشق المعروف باسم “قيصر” الذي وثّق تعذيب وقتل معتقلين في سجون النظام، ويهدف إلى محاسبة مرتكبي جرائم الحرب في سوريا.
إلى جانب هذه الأطر، هناك أيضاً قرارات من الكونغرس وتصريحات سياسة تجعل من العقوبات جزءاً ثابتاً من النهج الأميركي تجاه سوريا. على سبيل المثال، أصدر الكونغرس قوانين تمنع تقديم أي مساعدة لإعادة الإعمار في المناطق التي يسيطر عليها الأسد ما لم يتحقق انتقال سياسي. كما أبقى الكونغرس سوريا ضمن قائمة الدول الخاضعة لعقوبات مشددة بموجب قوانين مكافحة انتشار الأسلحة ودعم الإرهاب. هذا المزيج من الأوامر التنفيذية والتشريعات يجعل العقوبات الأميركية على سوريا شاملة ومتينة، ومن الصعب رفعها إلا بتغير ملموس في سياسات دمشق وفق الشروط الأميركية.
أنواع العقوبات الأميركية المفروضة على سوريا
تطوّرت العقوبات على سوريا لتشمل طيفاً واسعاً من التدابير الاقتصادية والدبلوماسية، بالإضافة إلى استهداف أفراد وكيانات محددين. فيما يلي أبرز أنواع هذه العقوبات:
- العقوبات الاقتصادية:
تشمل العقوبات الاقتصادية حظراً شبه كامل على التعامل التجاري والمالي مع سوريا. فرضت واشنطن حظراً على تصدير وإعادة تصدير معظم السلع الأميركية إلى سوريا – باستثناء بعض المواد ذات الطابع الإنساني (مثل الغذاء والدواء). كما مُنع تصدير الخدمات الأميركية إلى سوريا (كخدمات الاستشارات والتكنولوجيا وغيرها). في المقابل، حُظر استيراد المنتجات السورية إلى الولايات المتحدة، وعلى رأسها النفط والمنتجات النفطية السورية. إضافة لذلك، فُرضت قيود مالية صارمة تمنع أي استثمارات أميركية في سوريا أو أي تعاملات مالية عبر البنوك الأميركية تتعلق بسوريا. وتم تجميد الأصول التابعة للحكومة السورية في الولايات المتحدة، وحُظر على أي شخص أو شركة أميركية التعامل التجاري أو المالي مع مؤسسات حكومة النظام المخلوع أو الشركات التي تملكها. ونتيجة لهذه العقوبات، أصبحت سوريا معزولة إلى حد كبير عن النظام المالي العالمي بقيادة الولايات المتحدة، إذ امتنعت المصارف الدولية عن إجراء التحويلات المرتبطة بسوريا خشية التعرض لعقوبات أميركية، ما أدى إلى قطع أوصال الاقتصاد السوري الخارجية. كما تستخدم واشنطن نفوذها في المؤسسات المالية الدولية (كصندوق النقد والبنك الدولي) لمنع أي قروض أو مساعدات مالية لسوريا. - العقوبات الدبلوماسية:
اتخذت الولايات المتحدة إجراءات دبلوماسية لعزل النظام المخلوع دولياً. فعلى صعيد العلاقات الثنائية، علّقت واشنطن عملياً التمثيل الدبلوماسي منذ 2012 وأغلقت سفارتها في دمشق، كما منعت منذ 2011 دخول العديد من المسؤولين السوريين إلى أراضيها. بالإضافة إلى ذلك، أُدرجت سوريا في برامج حظر السفر والهجرة؛ فمثلاً كانت سوريا من الدول المشمولة بقرار حظر السفر الذي أصدرته الإدارة الأميركية سنة 2017، مما منع معظم السوريين من السفر أو الهجرة إلى الولايات المتحدة. وفي المحافل الدولية، تعمل الدبلوماسية الأميركية على منع عودة سوريا إلى المنظمات والهيئات الدولية أو الإقليمية المؤثرة ما لم تستوفِ شروط الحل السياسي (كما عارضت سابقاً جهود إعادة دمج سوريا في الجامعة العربية قبل أن تتخلى عن هذه المعارضة في 2023 ضمن تفاهمات إقليمية). هذا إضافة إلى أن العقوبات الاقتصادية نفسها لها أبعاد دبلوماسية، حيث تُرسل رسالة سياسية بعزل النظام المخلوع واعتباره منبوذاً دولياً. أيضاً، تنص التشريعات الأميركية على اعتراض الولايات المتحدة على أي دعم مالي دولي لسوريا عبر المؤسسات متعددة الأطراف، وهو إجراء ذو طابع دبلوماسي-اقتصادي يحد من شرعية النظام دولياً. - عقوبات على الأفراد والكيانات:
اعتمدت واشنطن بكثافة ما يُعرف بـالعقوبات الموجّهة أو الفردية. إذ أدرجت مئات من الشخصيات السورية على قائمة العقوبات، وبينهم مسؤولون حكوميون وأمنيون رفيعو المستوى (بشار الأسد وأفراد أسرته وكبار الضباط ومدراء الأجهزة الأمنية) ورجال أعمال بارزون معروفون بتمويلهم للنظام. تؤدي هذه الإدراجات إلى تجميد أي أصول للمذكورين تقع ضمن الولاية القضائية الأميركية، كما يُمنع على أي شخص أو شركة أميركية التعامل معهم مالياً أو تجارياً. وبالمثل، أُدرجت عشرات الكيانات السورية (شركات عامة وخاصة، وبنوك، وواجهات تجارية للنظام، ووحدات عسكرية وأمنية) على قوائم العقوبات. على سبيل المثال، تم إدراج مصرف سوريا المركزي نفسه على قائمة العقوبات واعتباره كياناً ذا مخاطر عالية لغسل الأموال، مما يعني عزل البنك المركزي عن الدولار والنظام المالي الأميركي. كذلك فرضت عقوبات على مصرف التجارة السوري ومصارف خاصة وعلى قطاع النفط السوري (وزارة النفط والشركات العاملة فيه). وضمن تنفيذ قانون قيصر، امتدت هذه العقوبات لتشمل أيضاً الأفراد والجهات غير السورية الداعمة للنظام؛ فقد تم معاقبة شركات من روسيا وإيران وصين وغيرها ثبت دعمها العسكري أو التقني أو تمويلها لمشاريع مع النظام المخلوع. هذه العقوبات الثانوية (على غير الأميركيين) تهدف إلى ردع أي دولة أو شركة أجنبية عن التعامل مع دمشق تحت طائلة فقدان الوصول للأسواق الأميركية. وبموجب الأوامر التنفيذية، هناك أيضاً حظر على منح تأشيرات دخول إلى الولايات المتحدة للمشمولين بالعقوبات، ما يعني منع سفرهم إليها بشكل مباشر. وبهذا، خلقت واشنطن شبكة واسعة من العزلة تستهدف تجفيف موارد النظام المالية وعزل داعميه.
الآثار السياسية والاقتصادية والإنسانية للعقوبات
أدت العقوبات الأميركية المكثفة على مدار سنوات إلى آثار عميقة على سوريا على الصعد السياسية والاقتصادية – مع جدل حول تأثيرها على الوضع الإنساني. فيما يلي عرض لأبرز هذه الآثار:
- العزل السياسي والدبلوماسي: ساهمت العقوبات في ترسيخ عزلة النظام المخلوع دولياً لعقد من الزمن. فمن الناحية السياسية، أصبحت سوريا منبوذة في المجتمع الدولي الغربي؛ قطعت الولايات المتحدة ومعظم الدول الأوروبية علاقاتها مع دمشق، وجمّدت عضوية سوريا في المنظمات الإقليمية كجامعة الدول العربية لعدة سنوات. كما استخدمت واشنطن العقوبات لإرسال رسالة واضحة لأي دولة تفكر في إعادة تأهيل النظام بأن التطبيع له ثمن. وقد انخفض مستوى الزيارات الرسمية المتبادلة مع سوريا بشكل حاد، وفرضت قيود السفر على المسؤولين السوريين حدّت من حركتهم. هذا العزل السياسي زاد من اعتماد النظام على عدد محدود من الحلفاء (روسيا وإيران بشكل أساسي)، وعزّز من ارتهانه لهم سياسياً واقتصادياً.
- الضغط الاقتصادي وإضعاف موارد النظام: لا شك أن الاقتصاد السوري تعرّض لضرر بالغ نتيجة تزامن الحرب الداخلية مع العقوبات الخارجية. فقد انكمش الناتج المحلي السوري بأكثر من 50٪ خلال عقد الحرب، ويقدّر البنك الدولي أن الانكماش ربما بلغ 84٪ بين 2010 و2023 عند الأخذ بالاعتبار مؤشرات مثل انقطاع الكهرباء والنشاط الليلي. انهارت قيمة العملة السورية (الليرة) بشكل غير مسبوق، فتراجعت من حوالي 50 ليرة مقابل الدولار عام 2010 إلى مستويات تجاوزت 15 ألف ليرة لكل دولار بحلول 2023. أدى هذا إلى ارتفاع هائل في معدلات التضخم وأسعار السلع الأساسية، مما أثقل كاهل المواطنين. وتشير بيانات الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 90% من السوريين باتوا تحت خط الفقر نتيجة تدهور الاقتصاد.
العقوبات الأميركية – إلى جانب الأوروبية – حرمت النظام من موارد مالية هامة. فعلى سبيل المثال، الصادرات النفطية السورية (التي كانت تشكل قرابة ثلثي عائدات الحكومة قبل الحرب) توقفت تقريباً؛ إذ حظر كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة استيراد النفط السوري منذ 2011، كما استهدفت العقوبات أي شركة أو دولة تساعد دمشق في بيع نفطها أو نقله. وبما أن النفط السوري الثقيل كان يجد سوقاً في أوروبا تحديداً، فقد خسر النظام مليارات الدولارات من الإيرادات السنوية كانت تستخدم سابقاً في تمويل جهاز الدولة والحملة العسكرية. أيضاً، جمّدت أصول بمليارات الدولارات تابعة لمؤسسات حكومية وشركات ورجال أعمال مرتبطين بالنظام في الخارج، مما قيّد قدرة دمشق على الوصول لاحتياطيات النقد الأجنبي في البنوك الدولية. علاوة على ذلك، قيود القطاع المالي تعني أن التحويلات المصرفية إلى سوريا ومنها أصبحت شبه مستحيلة عبر القنوات الرسمية. حتى الدول الحليفة كإيران وروسيا واجهت صعوبة في إجراء معاملات مالية مع سوريا بسبب الخوف من العقوبات الأميركية على بنوكها. هذا أضعف التمويل الخارجي المتاح للنظام، الذي اعتمد أكثر على الأساليب غير الرسمية ونقل الأموال نقداً أو عبر شبكات تهريب.
كل ذلك ساهم في تفكيك أوصال الاقتصاد السوري وربطه فقط بقنوات ضيقة. فقد تقلصت التجارة الشرعية إلى حدودها الدنيا، وازدهرت في المقابل اقتصادات الظل والتهريب لتلبية بعض الاحتياجات. كما أن قطاعي الكهرباء والصناعة تأثرا بشدة نتيجة صعوبة استيراد قطع الغيار والتقنيات الحديثة بسبب الحظر التقني الغربي. وأصبحت سوريا معزولة عن النظام المصرفي العالمي، حيث انقطعت عن نظام التسويات المالية بالدولار وغيرها، مما أجبرها على الاعتماد على عملات بديلة كاليورو واليوان والروبل ضمن ترتيبات محدودة مع حلفائها.
- التداعيات الإنسانية والمعيشية: يشكّل تأثير العقوبات على الشعب السوري مسألة جدلية. تؤكد الولايات المتحدة أن عقوباتها تستثني صراحةً الغذاء والدواء والمواد الإنسانية، وتشير إلى وجود تراخيص خاصة وعامة تسمح للمنظمات غير الحكومية بإيصال المساعدات. كما أصدرت وزارة الخزانة الأميركية إرشادات تشرح آليات تقديم المساعدات الإنسانية رغم العقوبات (مثل الرخصة العامة رقم 22 و 23 اللتين سمحتا مؤقتاً بتحويل الأموال للإغاثة عقب كارثة الزلزال عام 2023). وتؤكد واشنطن أنها تواصل كونها أكبر مانح إنساني للسوريين عبر دعم برامج الأمم المتحدة والإغاثة، وأن العقوبات “لا تستهدف وصول المساعدات إلى الشعب”. على سبيل المثال، شددت وزارة الخزانة في 2020 عند بدء تنفيذ قانون قيصر أن العقوبات لن تعيق أنشطة الاستقرار والإغاثة في شمال شرق سوريا، وأن المساعدات الإنسانية ستستمر حتى في مناطق يسيطر عليها النظام.
رغم ذلك، يرى كثير من المراقبين والعاملين في المجال الإنساني أن العقوبات فاقمت المصاعب المعيشية للسوريين بشكل غير مباشر. فالعقبات القانونية والمصرفية جعلت استيراد مواد أساسية – وإن كانت معفية رسمياً – عملية بالغة الصعوبة. الشركات الأجنبية وحتى المنظمات الإنسانية باتت تتجنب التعامل مع سوريا خوفاً من التعرض لعقوبات أو لعدم وضوح الاستثناءات، ما أدى إلى ما يسمى “امتثال زائد عن اللزوم” حيث يوقف الجميع التعامل تماماً مع سوريا تجنباً للمخاطرة. هذا أثر على واردات الوقود والمعدات الطبية ومكونات الصناعات الغذائية، وساهم في نقصها أو ارتفاع أسعارها. كما أدى انهيار العملة وتجميد الأصول إلى انهيار القدرة الشرائية للمواطن السوري وارتفاع معدلات البطالة والفقر كما أسلفنا. أضف إلى ذلك أن انقطاع العلاقات المصرفية أخّر أو أعاق وصول تحويلات المغتربين السوريين التي تُعد شريان حياة لكثير من الأسر. وبسبب قيود الطيران والعقوبات على شركات الشحن الجوي، تقلّصت الرحلات الجوية المباشرة إلى سوريا، ما أثّر على حركة المرضى الذين يحتاجون علاجاً بالخارج ودخول السلع.
ومع دمار البنى التحتية بفعل الحرب، وجدت المنظمات الدولية صعوبات لوجستية ومالية في تنفيذ مشاريع إعادة التأهيل (مثل إصلاح شبكات الكهرباء أو توفير آلات زراعية) نظراً لكون هذه الأنشطة قد تُفسَّر على أنها دعم لإعادة الإعمار تحت مظلة النظام المحظورة أميركياً. وقد حذرت منظمات حقوقية دولية من أن بعض العقوبات، خاصة عبر قانون قيصر، تجرّم عملياً المشاركة في إعادة إعمار البنية التحتية المدنية (كالمستشفيات والمدارس ومحطات المياه) حتى لو كان الهدف إنسانياً، ما لم يتم التأكد أن النظام لن يستفيد منها. ورداً على ذلك، قامت وزارة الخزانة في 2021 و2022 بتوسيع نطاق التراخيص الإنسانية والسماح ببعض الاستثمارات المحدودة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام للتخفيف من معاناة المدنيين، مع الاستمرار في منع أي منفعة عن دمشق.
في المحصلة، ساهمت العقوبات في تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الناتجة أساساً عن حرب مدمرة. وأصبح السوريون العاديون يواجهون ندرة في فرص العمل وارتفاعاً خيالياً في الأسعار وانهيار الخدمات العامة. بالمقابل، تمكن النظام إلى حد ما من التكيف عبر الاقتصاد غير الرسمي ودعم حلفائه، لكن ذلك جاء على حساب زيادة معاناة الشعب. ورغم أن الضرر الأكبر نتج عن الحرب والفساد وسوء الإدارة في المقام الأول، إلا أن العقوبات عمّقت العزلة المالية وقلّصت الموارد بشكل جعل التعافي مستحيلاً تقريباً في ظل غياب حل سياسي. وهكذا تقف سوريا اليوم أمام اقتصاد منهار ومأزق إنساني كبير، تداخلت فيه عوامل الحرب والعقوبات معاً.
- تأثير العقوبات على سلوك النظام: سياسياً، لم تحقق العقوبات حتى الآن تغييراً جذرياً في سلوك القيادة السورية. فقد استمر النظام، بدعم روسي وإيراني، في حملته العسكرية واستعادة مناطق واسعة بالقوة. ولم يقدم تنازلات جوهرية في مفاوضات العملية السياسية (مسار جنيف ولجنة الدستور) رغم الضغوط الاقتصادية الخانقة. يشير محللون إلى أن النظام تعامل مع العقوبات باعتبارها أقل كلفة من تقديم تنازلات وجودية قد تهدد بقائه. بل إن بعض الدوائر في دمشق استخدمت العقوبات كذريعة لتبرير التدهور المعيشي وإلقاء اللوم كله على “الحصار الخارجي”، ملتفة بذلك على لوم سياساتها الداخلية.
ومع ذلك، أثرت العقوبات على حسابات النظام التكتيكية. فعلى سبيل المثال، يعزو البعض امتناع دمشق عن شن حملات عسكرية كبرى جديدة بعد 2020 جزئياً إلى الخشية من تشديد إضافي للعقوبات أو فقدان دعم الحلفاء المتضررين اقتصادياً هم أيضاً. كما أن تجميد الأرصدة أصاب الدائرة الضيقة المحيطة بالأسد، وربما ولّد تململاً مكتوماً بين بعض النخب التي رأت ثرواتها في الخارج تتبخر. وقد دفعت الضغوط الاقتصادية النظام إلى قبول جزئي بتسويات محلية مع قوات كردية أو مع الأردن بشأن فتح معابر، في مسعى لاستعادة بعض العوائد التجارية لتخفيف الأزمة المالية. لكن هذه التغييرات المحدودة لم ترقَ بعد لتلبية الشروط الأميركية المعلنة لرفع العقوبات.
المصادر:
- وزارة الخارجية الأميركية – نشرة حقائق البيت الأبيض حول سوريا (2011).
- مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (وزارة الخزانة الأميركية) – برنامج عقوبات سوريا، نظرة عامة (2013).
- الكونغرس الأميركي – قانون محاسبة سوريا واستعادة سيادة لبنان 2003؛ قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا 2019
- وزارة الخزانة الأميركية – أسئلة شائعة حول عقوبات سوريا؛ بيان صحفي: عقوبات على داعمي إعادة الإعمار الفاسدة في سوريا (2020).
- وزارة الخارجية الأميركية – تصريحات حول تنفيذ عقوبات قيصر (2020)؛ تصريحات رسمية حول أهداف العقوبات منذ 2011.
- معهد كارتر – تقرير “العقوبات الأميركية والأوروبية على سوريا“ (أيلول 2020).
- وكالة رويترز للأنباء – تغطية حول تأثير الحرب والعقوبات على الاقتصاد السوري (2025).
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية