«نبض الخليج»
منذ الإطاحة بنظام المخلوع بشار الأسد، تركزت النقاشات في واشنطن حول الفرص المُحتملة التي يجلبها التحول السوري للولايات المتحدة.
وعلى الرغم من أن المبادرات التي اتخذتها كل من إدارة الرئيس السابق جو بايدن والإدارة الحالية كانت متواضعة وتجنّبت حتى وقت قصير الاعتراف بالحكم الجديد، إلاّ أن إدارة الرئيس دونالد ترامب بدأت في وقت مُبكّر بالتواصل مع دمشق وقدّمت قائمة من ثمانية مطالب مُعلنة لها وكان لها كذلك انخراط مباشر في رعاية اتفاقية دمج قوات سوريا الديمقراطية بالدولة السورية الجديدة. وعليه، ينبغي النظر إلى قرار ترامب رفع العقوبات عن سوريا واجتماعه بالرئيس أحمد الشرع في الرياض على أنّه مُحصّلة مجموعة من المسارات التي أفضت في نهاية المطاف إلى اعتقاد أمريكي بأن اللحظة قد حانت للاعتراف بالشرع ورفع العقوبات.
لا ينبغي بالطبع تجاهل الدور الكبير، الذي لعبته المملكة العربية السعودية وتركيا وقطر على وجه الخصوص في تحفيز إدارة ترامب على هذه الخطوة، لكنّ ترامب هو رئيس الولايات المتحدة، وهو مثل أي رئيس أمريكي، يتخذ قراراته الكبيرة في السياسة الخارجية بما ينسجم مع المصالح الأمريكية أولاً. وفي حالة سوريا، فإن المصالح الأمريكية تكمن في الانفتاح على الحكم الجديد وتفكيك نظام العقوبات لتمكين سوريا من الشروع في عملية التعافي وإعادة الإعمار وتحقيق الاستقرار السياسي والأمني والمجتمعي، وفي التعاون الوثيق مع دول المنطقة وعلى رأسها السعودية وتركيا لتحقيق هذه الأهداف. لقد كان الهاجس من الرئيس أحمد الشرع أحد الأسباب التي تجعل الأمريكيين أكثر حذراً في اتخاذ نهج واضح في سوريا في الفترة الماضية. لكنّ استمرار التردد الأمريكي في التعامل مع دمشق لفترة طويلة لن يؤدي سوى إلى نتائج معاكسة للمصالح الأمريكية.
إن المرحلة الراهنة ستظل مرحلة اختبار ثقة بين واشنطن والقيادة السورية الجديدة.
وعند الحديث عن هذه المصالح، تظهر في الواجهة رغبة ترامب بسحب القوات من سوريا وضمان أن لا تتحول إلى ملاذ للإرهاب العابر للحدود مرّة أخرى ومصالح إسرائيل، التي هي تحصيل حاصل، والوصول إلى حقول النفط والغاز فضلاً عن قائمة المطالب الثمانية. إن جميع هذه المصالح تندرج ضمن مصلحة كُبرى للولايات المتحدة وهي تحويل سوريا إلى دولة حليفة لها في الشرق الأوسط. والواقع أن هذه الرغبة تُشكل مُحرّكاً رئيسياً للسياسة الأمريكية. لقد ظلت سوريا لأكثر من سبعة عقود في المعسكر الشرقي المعادي للولايات المتحدة في المنطقة. كما أنها دولة مركزية إقليمية تقع على خط صدع جيوسياسي كبير. وأي تحوّل في هويتها الجيوسياسي سيترك آثاراً كبيرة على الشرق الأوسط والدور الأمريكي فيه. قد لا يكون هذا الهدف هو المُحرك المباشر لقرار ترامب رفع العقوبات، لكنّ إعادة تشكيل العلاقات السورية الأمريكية على نطاق واسع سيصب في صالح هذا الهدف على المدى البعيد.
مع ذلك، لا تبدو الطريق وردية بالكامل. إن المرحلة الراهنة ستظل مرحلة اختبار ثقة بين واشنطن والقيادة السورية الجديدة. ومن المفيد التذكير بأن إزالة جميع العقوبات المفروضة على سوريا لن تكون على الأرجح عملية يسيرة تُنجز في بضعة أسابيع أو حتى أشهر وسنوات. والخطوات المُنتظرة من الإدارة الأمريكية بهذا الخصوص هي إصدار تراخيص عامة من العقوبات تشمل قطاعات حيوية في الاقتصاد السوري وستُغطي مجالات واسعة لعملية إعادة الإعمار، لكنّ السبب الذي يحول دون إنهاء هذه العقوبات دفعة واحدة وإلى الأبد ليس تقنياً بحتاً وإن بدا كذلك. فإدارة ترامب ستُدير عملية بناء الثقة مع الرئيس الشرع بمزيج من المُحفّزات والتذكير بأن كل المبادرات يُمكن أن تتوقف إذا لم تؤدي العملية إلى النتائج المرجوة. بمعزل عن المخاطر المُحيطة بهذا الوضع، فإن مبادرة ترامب توجد بالفعل فرصة كبيرة لسوريا الجديدة لتدشين عملية التعافي وللرئيس أحمد الشرع لإثبات صدق نواياه للمجتمع الدولي. وسيتعين عليه الاستفادة من هذه الفرصة إلى أبعد الحدود.
إن الانعطافة الأمريكية الكبيرة تجاه سوريا تتجاوز في أهميتها وأبعادها الانفتاح على حكم الرئيس أحمد الشرع إلى التأسيس لتحول تاريخي في العلاقات السورية الأمريكية
لقد كانت إدارة ترامب قادرة على ممارسة ضغط كبير على سوريا فيما لو قررت مواصلة ترددها تجاه الحكم الجديد. لكنّها بهذا الانفتاح أصبحت في الواقع أكثر قدرة على التأثير. من الواضح أن الرئيس أحمد الشرع يُريد أن ينجح في العبور بسوريا نحو الدولة الجديدة وإعادة تشكيل علاقاتها الخارجية بما ينسجم مع واقعها الجديد ومصالحها الوطنية. لكنّ بعض العقبات الكبيرة التي تواجه سوريا لن تُزال بمُجرد توفر هذه الرغبة. وعلى رأس هذه العقبات النهج العدواني الذي تتبعه إسرائيل ضد سوريا. إن العلاقة الجيدة مع الولايات المتحدة تُساعد دمشق في تفكيك هذه العقبة وتحفيز إدارة ترامب على الانخراط القوي في إعادة ضبط السياسة الإسرائيلية بما ينسجم مع المصالح الأمريكية مع دمشق. كما أنّها تُساعد في إدارة أكثر سلاسة لتعارض المصالح التركية الإسرائيلية في سوريا. لهذه الأسباب وغيرها، يجلب الانفتاح الأمريكي على دمشق فرصاً كثيرة لسوريا ويوجد بيئة دولية مُحفّزة لها. إن الانعطافة الأمريكية الكبيرة تجاه سوريا تتجاوز في أهميتها وأبعادها الانفتاح على حكم الرئيس أحمد الشرع إلى التأسيس لتحول تاريخي في العلاقات السورية الأمريكية يُعيد تعريف سوريا في السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط ودورها الإقليمي.
شارك هذا المقال
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية