جدول المحتويات
«نبض الخليج»
تقول وكالة الطاقة الذرية إن أهم المفاعلات النووية الإيرانية لم تتضرر بشكل لافت حتى الآن من الحملة الجوية الإسرائيلية التي بدأت أساساً لثني إيران عن إنتاج سلاح نووي، باعتباره تهديداً وجودياً لإسرائيل بحسب ادعائها. ويندرج تحت هذا الصراع تفاصيل كثيرة متشعبة، لكن العنوان الأساسي له هو سباق تسلح نووي في ظل تهديد وجودي مفترض، يتشابه إلى حد كبير مع مسار دول عدة حصلت على القنبلة النووية بعد مخاض طويل.
اختارت إسرائيل، منذ أواخر ستينيات القرن الماضي، سياسة “الغموض النووي”، رافضة الاعتراف رسمياً بامتلاكها للسلاح النووي، لكنها أبقت “خيار شمشون”، أي التلويح باستخدام الردع النووي كملاذ أخير في حال واجهت تهديداً وجودياً، وهو ملازم لها منذ لحظة نشأتها.
أما إيران فسارت في مسار مغاير، إذ استثمرت في تطوير برنامج نووي متقدم دون أن تتخذ الخطوة الأخيرة نحو إنتاج القنبلة فعلياً، محافظةً على ما يسمى بـ “العتبة النووية”. واختارت القيادة الإيرانية نهج المناورة بين دفع البرنامج إلى حدود الامتلاك الفعلي للسلاح، وبين تجنّب التصعيد الذي قد يؤدي إلى مواجهة عسكرية شاملة أو عقوبات ساحقة. ويبرر النظام الإيراني استراتيجيته بحاجة أمنية أمام تهديدات مستمرة وتدخلات خارجية، مع التأكيد رسمياً على سلمية البرنامج. في الوقت ذاته، يستخدم ملف “العتبة النووية” كورقة ضغط إقليمية ودولية، في لعبة معقدة تتداخل فيها الحسابات الأمنية والرغبة في تثبيت مكانة إيران الإقليمية، والتي انتهت باعتداء إسرائيلي لم تتضح نتائجه بعد.
وحملت العملية منذ لحظتها الأولى ملامح عقيدة الردع القصوى التي لطالما اتبعتها إسرائيل، في محاولة جديدة لتكريس نفسها قوة نووية وحيدة في الشرق الأوسط وفرض معادلة “خيار شمشون” (نسبة للبطل التوراتي الذي انهار المعبد عليه وعلى أعدائه) مجدداً على الإقليم. وجاء ذلك امتداداً لسجلها في تنفيذ ضربات استباقية ضد برامج نووية اعتبرتها تهديداً وجودياً؛ فقد سبق أن دمرت المفاعل العراقي في عملية “أوبرا” عام 1981، وقصفت منشآت سورية عام 2007، ولعبت دوراً في تعطيل البرنامج الليبي في 2003.
وبعد خمسة أيام من الحرب، كشفت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن الهجوم الإسرائيلي ألحق دماراً واسعاً بمحطة نطنز النووية، إذ يُحتمل أن نحو 15 ألف جهاز طرد مركزي دُمرت أو تعطلت جراء انقطاع الكهرباء عن المنشأة. كما تضررت منشآت أخرى في أصفهان، بينها مرافق معالجة وتحويل اليورانيوم، فيما لم تتأثر منشأة فوردو المحصنة تحت الجبل إلا بشكل محدود جداً. ورغم هذا الدمار، تبرز صعوبة قدرة إسرائيل على تدمير كامل البرنامج النووي الإيراني دون دعم أميركي مباشر، خاصة مع بقاء منشآت فوردو ومخزون اليورانيوم المخصب في مواقع محصنة تحت الأرض يصعب استهدافها بضربات تقليدية.
مسارات معقدة ومتشابهة
نستعرض كيف حصلت 5 دول خارج الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن على القنبلة النووية الأولى بعد ظهور تهديد خارجي لنظام الحكم أو الدولة، وكان السلاح النووي في معظم الحالات، وللمفارقة، ضامناً للاستقرار على حدود كادت أن تتحول إلى مناطق صراع تحصد آلاف القتلى، كما حصل بين الهند والصين، وباكستان والهند، والكوريتين الشمالية والجنوبية. ورغم ذلك، حاولت دول عظمى منع انتشار هذا السلاح وامتلاكه من قبل دول منافسة أو حتى صديقة.
على مدى العقود الماضية، تمكنت عدة دول من امتلاك قدرات نووية عسكرية منها كوريا الشمالية، باكستان، الهند، إسرائيل (رغم سياسة الغموض النووي وعدم الإعلان الرسمي)، وجنوب أفريقيا (قبل تخلّيها الطوعي عن برنامجها النووي)، بالإضافة إلى الحالة الخاصة لإيران. لكل من هذه الدول مسار سياسي وعسكري مميز سبق لحظة امتلاك (أو الاقتراب من امتلاك) السلاح النووي. تتضمن هذه المسارات أزمات أمنية وحروبًا ساهمت في تشكيل القرار النووي، وتبريرات رسمية أو ضمنية لتطوير القنبلة، وتفاعلات دولية بين ضغوط وعون خارجي، فضلاً عن تأثير تهديدات إقليمية وصراعات حدودية على تلك القرارات.
إسرائيل: غموض نووي و”خيار شمشون”
البدايات والسياق الأمني: تختلف الحالة الإسرائيلية عن غيرها كون إسرائيل اتبعت سياسة الغموض النووي دون إعلان رسمي عن امتلاكها للسلاح، رغم توفره بحوزتها منذ أواخر الستينات على الأرجح. بن غوريون أطلق المشروع النووي السرّي معتمدا على دعم خارجي حيوي. بحلول أواخر الخمسينات، حصلت إسرائيل على فرصة ذهبية عندما وافقت فرنسا (في إطار تفاهمات حرب السويس) على مساعدة إسرائيل في بناء مفاعل نووي في ديمونة بالنقب ومصنع لإعادة معالجة البلوتونيوم. ورغم أن الرئيس الفرنسي ديغول حاول مرتين وقف المشروع بين 1958 و1960، إلا أن المهندسين الفرنسيين بالتنسيق مع نظرائهم الإسرائيليين استمروا سرا، حتى تم التوصل لحل وسط يقضي بانسحاب الحكومة الفرنسية رسميا مع بقاء عقود الشركات الخاصة قيد التنفيذ.
مع حلول أوائل الستينات، كان مفاعل ديمونة يعمل سرا. أثار اكتشاف الاستخبارات الأميركية للموقع (عبر صور جوية عام 1958) قلق واشنطن، فمارس الرئيس جون كينيدي ضغطا كبيرا على بن غوريون وخلفه ليفي أشكول لوقف مشروع القنبلة. وحتى 1969، أوفدت الولايات المتحدة فرق تفتيش إلى ديمونة، لكن الإسرائيليين تحايلوا على عمليات التفتيش، حيث أطلعوا المفتشين على أجزاء منتقاة وزيّفوا بعض المرافق لإخفاء النشاط العسكري. وقد تلاشت الضغوط الأميركية بعد اغتيال كينيدي، ومع نهاية 1966 كان لدى إسرائيل القدرة التقنية على تفجير جهاز نووي. يُعتقد أن إسرائيل امتلكت أولى القنابل عشية النكسة في 1967 أو بعدها بقليل. وأبلغ العالم الأميركي إدوارد تيلر (أبو القنبلة الهيدروجينية الأمريكية والذي زار إسرائيل عدة مرات كمستشار) وكالة المخابرات المركزية أن إسرائيل “ربما لديها القنبلة بالفعل”. ونقلت الـCIA المعلومة للرئيس ليندون جونسون، لكن الأخير اختار إبقاء الأمر سريا حتى عن وزيري خارجيته ودفاعه.
وفي 1968، كانت إسرائيل على وشك الحصول على طائرات فانتوم أميركية متطورة؛ حاول البنتاغون ووزارة الخارجية الأميركية ربط الصفقة بانضمام إسرائيل لمعاهدة عدم الانتشار وقبول التفتيش الشامل، غير أن السفير الإسرائيلي آنذاك إسحق رابين استعان بنفوذ أصدقاء إسرائيل في واشنطن لإقناع الرئيس جونسون بالتراجع عن تلك الشروط. نجحت المساعي، فحصلت إسرائيل على الطائرات دون التزام نووي. وهكذا تشكل ما يُعرف بـالتفاهم الضمني بين إسرائيل والولايات المتحدة منذ 1969: تقبل واشنطن أمر واقع بامتلاك إسرائيل للقنبلة ما دامت الأخيرة لا تعلن ذلك ولا تختبره علنا.
على مدى السبعينات، استكملت إسرائيل بناء ترسانة صغيرة من القنابل. ويُرجح أنها أجرت اختبارا نوويا سريا (ربما بالتعاون مع جنوب أفريقيا) فيما عُرف بـ”حادثة الوميض المزدوج” عام 1979، رغم عدم تأكيد ذلك رسميا. كما تشير وثائق أفرج عنها في 2010 إلى لقاء سري عام 1975 بين وزير الدفاع الإسرائيلي شيمعون بيريز ووزير الدفاع الجنوب أفريقي بي. دبليو. بوتا، عُرض فيه بيع رؤوس نووية إسرائيلية مع صواريخ لجنوب أفريقيا. وعلى الرغم من التحفظ الإسرائيلي، فإن هذه الشواهد تدعم امتلاك إسرائيل قدرات نووية متقدمة منذ تلك الفترة.
الدعم والقيود:
كان حصول إسرائيل على التقنية النووية مرهونًا بدعم خارجي حاسم في الخمسينات والستينات. فبدون مساعدة فرنسا (تقنيًا وماديًا) ما كانت إسرائيل لتبني مفاعل ديمونة وتكتسب المعرفة اللازمة لإنتاج مادة انشطارية. كذلك لعبت الولايات المتحدة دورًا ملتبسا: فواشنطن عارضت بشدة سعي إسرائيل للقنبلة في عهد كينيدي وضغطت بتفتيشات دورية، لكنها بحلول أوائل السبعينات – في ظل الحرب الباردة ورغبة أميركية بعد 1967 في دعم إسرائيل كحليف إستراتيجي – غضّت الطرف عن البرنامج. منذ لقاء رئيسة الوزراء غولدا مائير والرئيس نيكسون عام 1969، يعتقد أنه تم التوصل لتفاهم بأن لا تسعى أمريكا لفتح ملف نووي إسرائيل علنًا ولا تعاقبها، مقابل أن تحافظ إسرائيل على سرية برنامجها ولا تقوم بتجربة نووية علنية قد تحرج واشنطن. هذا التفاهم صمد لعقود. على صعيد آخر، ورغم سخط العرب وإيران من الترسانة الإسرائيلية، لم تتمكن أي دولة من فرض تفتيش دولي عليها لأن إسرائيل لم تنضم قط لمعاهدة عدم الانتشار. حاولت بعض الدول العربية وإيران إبراز هذه الإزدواجية في المحافل الدولية – كيف يُغض الطرف عن إسرائيل فيما يُحاسب الآخرون – وأشاروا إلى صعوبة مطالبة دول المنطقة بالتخلي عن طموحات نووية طالما إسرائيل محتفظة بقنبلتها. لكن القوى الغربية ظلت تتفادى تناول ملف إسرائيل علنًا. ومن جهة موازية، كشفت تقارير عن تعاون نووي وعسكري سري بين إسرائيل ونظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا خلال السبعينات والثمانينات، شمل تبادل الخبرات وربما إجراء اختبار نووي مشترك عام 1979. كذلك استفادت إسرائيل من تسامح دولي تجاه ممارسات مثل حادثة اختطاف التقني موردخاي فعنونو عام 1986 – الذي سرب معلومات عن برنامج ديمونة – وإعادته قسرًا إلى إسرائيل حيث سجن لسنوات طويلة.
تأثير البيئة الإقليمية على البرنامج النووي الإسرائيلي:
عززت الظروف الإقليمية والسياسات العدوانية الإسرائيلية التوجه نحو امتلاك السلاح النووي، في ظل حالة العداء المستمر مع الدول العربية ومحاولات إسرائيل فرض وجودها بالقوة منذ النكبة عام 1948. شهد الفلسطينيون والعرب كيف استخدمت إسرائيل التفوق العسكري والدعم الغربي لفرض نفسها كدولة على حساب شعب فلسطين وأرضه، وتوسعت لاحقًا على حساب الجوار عبر الحروب المتكررة مع مصر وسوريا والأردن والعراق، مرورًا بعدوان 1956، ووصولًا إلى حرب 1967 التي انتهت باحتلال مزيد من الأراضي العربية.
لم يكن خيار التسلح النووي الإسرائيلي منعزلًا عن مناخ التصعيد في تلك الفترة؛ فإسرائيل استغلت مخاوفها من المحيط العربي، واستخدمت الخطاب العربي الداعي لتحرير فلسطين، مبررًا لتعزيز قدراتها العسكرية بشكل غير مسبوق. تعاملت إسرائيل مع نفسها كدولة معزولة في “بحر من الأعداء”، فعملت على بناء ما تسميه “الدرع الأخير” النووي لضمان أن أي محاولة جدية لإزالتها ستقود إلى دمار متبادل. وبرزت في الفكر الاستراتيجي الإسرائيلي فكرة “خيار شمشون”، المستلهمة من الرواية الدينية، والقائمة على التهديد بإسقاط الجميع في حال تعرض وجود إسرائيل للخطر.
هذا المنطق لعب دورًا في كبح خيارات بعض الجيوش العربية في الحروب الكبرى، كما في حرب تشرين 1973، إذ أصبح الرهان العربي على الحسم العسكري محفوفًا بعامل ردع نووي غير معلن. وعلى الرغم من تفوق إسرائيل العسكري التقليدي واستمرارها في امتلاك الدعم الغربي، ظل السلاح النووي عنصر توازن ورعب تلوح به إسرائيل ضد أي تغير في ميزان القوى الإقليمي.
إيران: البرنامج النووي “على العتبة”
خلفية البرنامج وأبرز الأزمات: بدأ السعي الإيراني للطاقة النووية في زمن الشاه محمد رضا بهلوي بدعم غربي في سبعينات القرن الماضي، وكان الشاه يطمح حينها إلى امتلاك خيار نووي عسكري أيضًا كجزء من رؤيته لجعل إيران قوة إقليمية عظمى. إلا أن الثورة الإسلامية عام 1979 أوقفت مؤقتًا معظم البرنامج النووي؛ إذ اعتبره آية الله الخميني في البداية مشروعًا “غير إسلامي” وتبدّد اهتمام النظام الجديد به خلال فورة الأحداث. لكن الحرب الإيرانية–العراقية (1980–1988) غيّرت كل الحسابات. خلال تلك الحرب الطويلة أدركت القيادة الإيرانية وبعدها أهمية وجود قوة ردع إستراتيجية تحول دون تكرار تجربة استفراد عدو قوي بها. مع نهاية الحرب التي أنهكت إيران، أُعيد إحياء الطموح النووي بشكل فعّال في عهد هاشمي رفسنجاني في أوائل التسعينات. وبالتوازي، بدأ الحرس الثوري وأنصار الخط المتشدد ينظرون إلى السلاح النووي كوسيلة لضمان أمن النظام ومكانة إيران الإقليمية، خاصة مع تزايد الوجود العسكري الأميركي في الخليج بعد حرب الكويت 1991.
منذ التسعينات واجهت إيران سلسلة أزمات أكدت مخاوفها الأمنية. فقد صنّفت الولايات المتحدة إيران ضمن “محور الشر” عام 2002 وهددت بتغيير نظامها بعد غزوها لأفغانستان والعراق. كما كثّفت إسرائيل العداء ضد إيران معتبرة برنامجها النووي تهديدًا وجوديًا، وبدأت بتنفيذ عمليات اغتيال لعلماء نوويين وتخريب منشآت (مثل هجوم فيروس Stuxnet الإلكتروني 2010). وفي هذا المناخ، كشفت جماعات معارضة إيرانية عام 2002 عن منشآت نووية سرية (كالمنشأة لتخصيب اليورانيوم في نطنز)، ما فتح فصلًا جديدًا من الأزمة النووية الإيرانية مع المجتمع الدولي. وجدت إيران نفسها تحت تحقيق الوكالة الدولية للطاقة الذرية ثم طائلة عقوبات مجلس الأمن بدءًا من 2006. لكنها سارت على حبل مشدود: فقد استمرت بتطوير قدراتها (أجهزة طرد مركزي، بناء مفاعل آراك للماء الثقيل، تخصيب اليورانيوم بنسب متصاعدة) مع تفادي اتخاذ خطوة تصنيع قنبلة فعلية التي قد تشعل حربًا وقائية ضدها. هذا النهج المزدوج – التقدم نحو العتبة النووية دون تجاوزها – تبلور خصوصًا بعد الغزو الأميركية للعراق 2003. تُفيد تقارير استخباراتية غربية بأن طهران أوقفت برنامجًا لتصميم الأسلحة النووية العسكرية عام 2003 خوفًا من انكشافه، لكنها واصلت مسار التخصيب والتكنولوجيا الداعمة. وفي عام 2015 توصلت إيران لمفاوضات ناجحة مع مجموعة 5+1 أثمرت عن خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA)، التي قلّصت برنامجها مؤقتًا ورفعت عنها العقوبات. غير أن انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق عام 2018 أعاد التوتر، وعادت إيران لزيادة أنشطة التخصيب بشكل كبير وإن ظلت تؤكد أن “برنامجها سلمي”.
ردود الفعل الدولية والإقليمية: أثار البرنامج النووي الإيراني أخطر مواجهة دبلوماسية في مجال عدم الانتشار منذ مطلع القرن الجديد. فالمجتمع الدولي، بقيادة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فرض سلسلة عقوبات موجعة شملت حظرًا نفطيًا وعزلًا مصرفيًا قلّص اقتصاد إيران. كما صدرت ستة قرارات من مجلس الأمن تطالب إيران بوقف التخصيب بين 2006 و2010، وضعتها تحت البند السابع. إسرائيل بدورها لم تخفِ خيار العمل العسكري الوقائي ضد منشآت إيران (كما فعلت ضد العراق 1981 وسوريا 2007)، وكثّفت استخباراتها داخل إيران لتنفيذ عمليات تخريبية وتصفية علماء. في المقابل، حصلت إيران على بعض العون أو الحياد من قوى كبرى: روسيا أقامت مفاعل بوشهر المدني وسلّمت الوقود ودربت الكوادر (مع أن موسكو أيدت قرارات أممية ضد طهران بشكل معتدل)؛ الصين وفّرت لإيران دعمًا اقتصاديًا وواصلت شراء النفط الإيراني متحدية العقوبات جزئيًا. وعلى الجانب الآخر، وفّرت شبكة عبد القدير خان الباكستانية لإيران في منتصف الثمانينات تصاميم ومكونات أجهزة طرد مركزي (طراز P-1) والتي كانت النواة التي انطلق منها برنامج التخصيب الإيراني. كما يُعتقد أن كوريا الشمالية زودت إيران بخبرات صاروخية وتعاونت في تطوير صواريخ بعيدة المدى قادرة على حمل رؤوس نووية. لكن لم يثبت نقل معرفة مباشرة بصنع قنبلة من أي جهة لإيران، ما يعني أن الجهد الإيراني ذو طابع محلي بشكل أساسي وإن بُني على اقتباس تقنيات مستوردة في البداية.
إقليميًا، أثار تقدم إيران النووي سباق نفوذ إقليمي غير مباشر. فدول الخليج العربية (السعودية والإمارات خاصةً) ضغطت على واشنطن لكبح إيران، ملوحة بأنها قد تضطر هي الأخرى لامتلاك قدرات نووية إذا صار لإيران سلاح. إسرائيل اعتبرت أي اتفاق دولي يترك لإيران قدرات تخصيب “تهديدًا وجوديًا مؤجلًا”، وبالتالي اتفقت مع الدول العربية ضمنيًا على ضرورة عدم السماح لإيران بالحصول على قنبلة. أسست دول المنطقة تحالفات ضغط (مثل المنتدى الأمني الإقليمي) لمواجهة ما اعتبروه “التهديد النووي الإيراني”. أما تركيا فتحفظت لكنها أعلنت أنها لا تريد سباق تسلح بالمنطقة. عمومًا، أدت الأزمة الإيرانية إلى طرح مفهوم إخلاء الشرق الأوسط من السلاح النووي في المحافل الدولية، غير أن إسرائيل (القوة النووية الفعلية الوحيدة) رفضت الانضمام لأي ترتيبات قبل تحقيق السلام. وبقيت المنطقة في حالة توتر إستراتيجي: إيران لم تحصل على السلاح لكن امتلاكها المعرفة والبنية التحتية المتقدمة أبقى جيرانها في حالة قلق دائم.
كوريا الشمالية: برنامج نووي تحت وطأة التهديد الوجودي
الأزمات الأمنية والدوافع: نشأ طموح كوريا الشمالية النووي في سياق شعورها المزمن بالتهديد الوجودي. بعد الحرب الكورية (1950–1953) وتقسيم شبه الجزيرة، تبنت بيونغيانغ نهجًا يهدف لتحقيق قدرات دفاعية قصوى. حاول النظام في مطلع الستينات الحصول على عون سوفييتي وصيني لبناء برنامج نووي عسكري، لكن موسكو وبكين رفضتا ذلك واكتفتا بالدعم في المجال النووي السلمي. مع نجاح الصين في اختبار قنبلة ذرية عام 1964، كررت كوريا الشمالية طلب الدعم من حلفائها الشيوعيين لتطوير سلاح نووي لكن قوبل الطلب بالرفض مجددًا. بناءً على ذلك، اتجه كيم إيل سونغ نحو بناء برنامج نووي محلي يعتمد على مفاعل يعمل بالغرافايت لإنتاج البلوتونيوم في يونغبيون نهاية السبعينات، بهدف تقليل الاعتماد على الخارج. بحلول منتصف الثمانينات، كان مفاعل يونغبيون جاهزًا للعمل. في 1985، وافقت بيونغيانغ تحت ضغط موسكو على الانضمام لمعاهدة عدم الانتشار (NPT) مقابل حصولها على مفاعلات طاقة سوفييتية، لكنها ماطلت لاحقًا في تطبيق إجراءات التفتيش.
تفكك الاتحاد السوفييتي نهاية الحرب الباردة شكّل صدمة أمنية لكوريا الشمالية. فخلال 1990–1991 وجدت بيونغيانغ نفسها بلا حليف عظيم؛ لقد انهار الاتحاد السوفييتي وأقامت كل من روسيا والصين علاقات دبلوماسية مع كوريا الجنوبية، مما أشعر القيادة الكورية الشمالية بانكشاف أمني حاد. في تلك الفترة طالبت كوريا الشمالية بضمانات أمنية أمريكية وبرفع “التهديد النووي” الأمريكي من شبه الجزيرة كثمن للانصياع لنظام الضمانات الدولية. وبالفعل، سحبت الولايات المتحدة أسلحتها النووية التكتيكية من كوريا الجنوبية أواخر 1991، الأمر الذي رحبت به بيونغيانغ مبديةً استعدادها لتوقيع اتفاق الضمانات. تكلل ذلك بإبرام إعلان مشترك لنزع السلاح النووي في شبه الجزيرة الكورية (يناير 1992) حيث تعهد كل من الشمال والجنوب بعدم تطوير أسلحة نووية وبمنع عمليات التخصيب وإعادة المعالجة. لكن سرعان ما انقلبت الأجواء التفاؤلية مع انكشاف عدم شفافية كوريا الشمالية خلال عمليات تفتيش الوكالة الدولية في 1992–1993، حيث رُصدت مواقع سرية ومواد مفقودة أشارت إلى احتمال قيام بيونغيانغ بأنشطة نووية عسكرية مخفية. حين طالبت الوكالة بتفتيش خاص لمواقع مشبوهة، ردت بيونغيانغ في مارس 1993 بإعلان نيتها الانسحاب من معاهدة الـNPT، ما أشعل فتيل أول أزمة نووية خطيرة. تفاقم التوتر إلى حد وضع القوات الأمريكية والكورية الجنوبية في حالة تأهب وإجراء مناورات عسكرية، ورد الشمال بتحذير أن شبه الجزيرة “على شفا حرب”. رفضت الصين آنذاك تأييد فرض عقوبات أممية صارمة على حليفها الشمالي خوفًا من انهياره، بينما لوّحت واشنطن بالخيار العسكري إن فشل المسار الدبلوماسي. في النهاية نجحت وساطة دبلوماسية (قام بها الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر) بتهدئة الموقف، وتم إبرام اتفاق الإطار المتفق عليه Agreed Framework في أكتوبر 1994 الذي جمّد برنامج البلوتونيوم الكوري الشمالي مقابل مساعدات في مجال الطاقة وتطبيع العلاقات.
الدعم والضغوط الدولية: واجهت كوريا الشمالية خلال مسارها النووي ضغوطًا وعقوبات دولية متصاعدة. فبعد انكشاف برنامجها السري في مطلع التسعينات، فرضت عليها الولايات المتحدة وحلفاؤها عقوبات اقتصادية وشكّلت إطارًا تفاوضيًا (المحادثات السداسية 2003–2009) لمحاولة تفكيك البرنامج. وعلى مدى السنوات، أصدر مجلس الأمن قرارات عقابية متتالية عقب كل تجربة صاروخية أو نووية (بدءًا من أول اختبار نووي عام 2006). ورغم علاقة الصين التاريخية مع بيونغيانغ، دعمت بكين بعض العقوبات المحدودة لكنها بقيت تتجنب أي ضغط يخاطر بانهيار النظام الكوري الشمالي نظرًا لقلقها من تداعيات ذلك (كأزمة لاجئين أو توسع النفوذ الأمريكي قرب حدودها). من جانب آخر، حصلت كوريا الشمالية على قدر من الدعم التقني غير المباشر؛ فقد كشف في أواخر التسعينات عن تعاون سري بين بيونغيانغ وشبكة عبد القدير خان الباكستانية لتهريب معدات وتقنيات تخصيب اليورانيوم. وتشير المصادر إلى أن كوريا الشمالية بدأت حوالي 1998 في تلقّي مساعدة من شبكة خان، مما مكّنها من تشغيل برنامج تخصيب موازٍ لبرنامج البلوتونيوم. إلى ذلك، استفادت كوريا الشمالية من علاقات تبادل مع دول أخرى (مثل تبادل تكنولوجيا الصواريخ مع باكستان مقابل تقنيات نووية). ورغم كل الضغوط، برهنت بيونغيانغ أنها قادرة على الصمود أمام العزلة؛ إذ نجح نظام كيم في امتصاص العقوبات الشديدة مستندًا إلى اقتصاد معسكر ومساعدات صينية، وواصل تطوير ترسانته حتى باتت الدولة النووية التاسعة في العالم بحكم الأمر الواقع.
باكستان: سباق نووي تحت شعار “لن تتكرر الهزيمة”
الأزمات والصدمات المؤدية للبرنامج: جاءت انطلاقة برنامج باكستان النووي كرد فعل مباشر لهزيمة باكستان المذلة في حرب عام 1971 التي انتهت بانفصال شرق باكستان (بنغلاديش). شكل سقوط نحو 90 ألف جندي باكستاني أسرى لدى الهند وضياع نصف البلاد صدمة كبرى للمؤسسة الباكستانية. في أعقاب تلك الحرب، تعهد رئيس الوزراء ذو الفقار علي بوتو بألا تتكرر مثل هذه الهزيمة أبدًا، حتى لو اضطرت باكستان “أن تأكل العشب” في سبيل امتلاك القنبلة النووية. وبالفعل، أطلق بوتو عام 1972 مشروعًا سريًا لتطوير سلاح نووي، معتبرًا إياه “الضمانة المطلقة” لأمن بلاده حيال خصمها اللدود الهند. وجاء إجراء الهند تجربة نووية عام 1974 (أعلنت نيودلهي أنها “انفجار سلمي”) ليؤكد مخاوف باكستان ويدفعها لتسريع جهودها النووية. خلال أواخر السبعينات، تمكن العالم الباكستاني عبد القدير خان من تأمين تصاميم وتقنيات أجهزة الطرد المركزي لتخصيب اليورانيوم بوسائل غير مشروعة (سرقة تقنية من أوروبا)، مما أعطى باكستان القدرة على بدء برنامج تخصيب محلي. بحلول منتصف الثمانينات يُعتقد أن باكستان وصلت مستوى إنتاج مادة انشطارية صالح لصنع أسلحة، وربما أنتجت قنبلتها الأولى سرًا في تلك الحقبة. لكن باكستان التزمت الغموض ولم تختبر أي جهاز نووي حتى عام 1998.
الأزمات العسكرية مع الهند وفرت السياق المباشر لاستمرار البرنامج. فبعد حرب عام 1971، شهدت العقود اللاحقة عدة حالات شبه صراع: أزمة مناورة “برازتاكس” عام 1987 حين حشدت الهند قواتها بشكل هدد باكستان، وأزمة إقليم كشمير عام 1990 التي بلغ فيها التوتر ذروته. يُعتقد أن باكستان خلال تلك الأزمات لوّحت بشكل خفي بقدرتها النووية الناشئة لردع الهند. وفي مايو 1998، عندما فجّرت الهند مجموعة من التجارب النووية معلنة نفسها قوة نووية رسمية، ردت باكستان بسرعة بإجراء تجارب نووية متتالية (خمسة تفجيرات في 28 مايو 1998) مؤكدة امتلاكها السلاح النووي. وهكذا أعلنت إسلام آباد نفسها قوة نووية حفاظًا على التوازن الإستراتيجي مع الهند ومنعًا لأي تفوق هندي حاسم.
التبريرات الرسمية وغير الرسمية: منذ البداية طرحت القيادة الباكستانية مشروع القنبلة في إطار قومي إسلامي تحت مسمى “القنبلة الإسلامية” أحيانًا، لكنها فعليًا كانت تراه سلاح بقاء في مواجهة الهند. صرّح المسؤولون مرارًا أن امتلاك الردع النووي هو الذي يحمي باكستان من جار أكبر حجمًا وأكثر تسليحًا سبق أن “عدوانيًا” تجاهها. وكما قال رئيس الوزراء عمران خان في تأبين عبد القدير خان عام 2021، فإن برنامج باكستان النووي “وفّر لنا الأمن في مواجهة جار نووي أكبر وأكثر عدوانية”. ضمنيًا، حمل البرنامج أيضًا بُعدًا نفسيًا يتعلق باستعادة الكرامة الوطنية بعد هزيمة 1971؛ فالقنبلة أصبحت رمزًا للعزّة الوطنية وللقدرة العلمية للدولة. يُشير المحللون إلى أن باكستان تبنّت شعار “لن نسمح بتكرار الهزيمة” لتسويغ أي ثمن اقتصادي أو اجتماعي يدفع مقابل القنبلة. وإلى جانب الأمن، اعتُبر السلاح النووي أداة لتوحيد الهوية الوطنية المتصدعة في باكستان (المنقسمة إثنيًا ومناطقيًا)، إذ منح المؤسسة العسكرية مزيدًا من النفوذ بوصفها حامي القوة النووية الإسلامية الأولى.
الدعم الدولي والضغوط: حظي برنامج باكستان النووي منذ بداياته بدعم ضمني أو صريح من بعض الدول، وفي الوقت نفسه واجه فترات من العقوبات والضغط. فعلى عكس الهند التي اعتمدت بدرجة كبيرة على قدراتها الذاتية، استفادت باكستان من دعم خارجي رئيسي من الصين في مرحلة حرجة من برنامجها. تشير تقارير إلى أن الصين قدمت لباكستان مساعدات تقنية ومادية، بما في ذلك تصاميم أسلحة نووية مجربة في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات. كما زوّدت الصين باكستان بتقنية صاروخية (مثل صواريخ “م-11”) ساعدت باكستان على تطوير وسائل إيصال لأسلحتها النووية. في المقابل، اتسم موقف الولايات المتحدة بازدواجية خلال الحرب الباردة؛ فواشنطن كانت على علم بنشاط باكستان النووي، لكنها غضّت الطرف في الثمانينات لأن باكستان كانت حليفًا محوريًا في دعم المجاهدين الأفغان ضد الاتحاد السوفييتي. خلال 10 سنوات من الاحتلال السوفييتي لأفغانستان، كان الرؤساء الأمريكيون يُصدرون شهادات (مطابقة لقانون “تعديل برسيلر”) بأن باكستان لا تطور أسلحة نووية، لاستمرار تدفق المساعدات الأمريكية عبرها. لكن ما إن انسحبت القوات السوفييتية عام 1989 حتى غيرت واشنطن نهجها؛ ففي 1990 فرضت عقوبات قاسية على إسلام آباد بعدما بات من الواضح أنها تمتلك برنامجًا للأسلحة النووية. وفي عام 1992 أكد مسؤولون أمريكيون أن باكستان امتلكت بالفعل قدرة نووية، منهين عمليًا سنوات الإنكار.
بعد الاختبارات النووية في 1998، واجهت باكستان (كما الهند) موجة جديدة من العقوبات الاقتصادية الدولية وفقًا لتشريعات عدم الانتشار الأمريكية. أوقفت الولايات المتحدة واليابان ودول أخرى المساعدات والاستثمارات عن البلدين، وإن جرى رفع معظم تلك العقوبات عن باكستان بعد 11 سبتمبر 2001 حين عادت حليفًا مهمًا في “الحرب على الإرهاب”. تجدر الإشارة أيضًا إلى دور باكستان نفسه في شبكات الانتشار النووي الدولية: فبعد تطويرها للقنبلة، انخرط علماء باكستان (بقيادة عبد القدير خان) في نقل تقنيات أجهزة الطرد المركزي إلى دول أخرى مثل إيران وليبيا وكوريا الشمالية خلال التسعينات، مقابل مصالح مادية أو تكنولوجية. هذا الدور عرّض باكستان لانتقادات شديدة لكنه لم يؤثر جذريًا على مكانتها؛ إذ أصبحت إسلام آباد بحلول القرن الحادي والعشرين عضوًا معترفًا به ضمنيًا في النادي النووي، وتسعى بعض الأصوات لإدماجها “كدولة نووية طبيعية” رغم بقائها خارج معاهدة عدم الانتشار.
التهديدات الإقليمية ودورها: كان التهديد الهندي هو المحدّد الرئيس لكل حسابات باكستان النووية. فالهند، بسكانها وحجم جيشها واقتصادها الأكبر، كانت الخصم التقليدي منذ Partition عام 1947. خاض البلدان عدة حروب (1948، 1965، 1971) تكبّدت باكستان في الأخيرة هزيمة كارثية. بناءً عليه، نظرت إسلام آباد إلى القنبلة النووية كـ”موازن استراتيجي” يمنع الهند من التفكير في القضاء عليها عسكريًا. كما شعرت باكستان بالقلق من البرنامج النووي الهندي منذ بداياته، خاصة بعد التفجير النووي الهندي الأول عام 1974. وقد صرّح المسؤولون الباكستانيون أنهم سيكونون مستعدين للتخلي عن سلاحهم النووي فقط إذا تخلت الهند عنه أيضًا – في إشارة إلى أن السلاح موجّه بالأساس لردع الهند وليس لأطماع هجومية. كذلك أثّر العامل الصيني: فالهند لطالما بررت برامجها الصاروخية والنووية بالخطر الصيني، ما دفع باكستان للمسارعة في سد أي فجوة. وهكذا أصبح في جنوب آسيا معادلة ردع ثلاثية غير رسمية (الصين–الهند–باكستان)، حيث دعمت الصين باكستان لإبقاء الهند محاصرة إستراتيجيًا. ويمكن القول إن السلاح النووي أمّن لباكستان شعورًا بالأمان ضد أي حرب شاملة قد تشنها الهند، بدليل أنه حتى خلال نزاع كارغيل المحدود عام 1999، وظلّت الحرب دون التصعيد الشامل نظرًا لوجود الردع النووي لدى الطرفين.
الهند: تطلعات القوة العظمى أمام تهديد الصين
السياق السياسي-العسكري للبرنامج: رغم أن الهند كانت سباقة في آسيا إلى استغلال الطاقة النووية للأغراض السلمية (منذ الخمسينات)، إلا أنها تبنّت سياسة نووية مترددة فيما يخص السلاح خلال العقود الأولى من استقلالها. قاد جواهر لال نهرو – أول رئيس وزراء للهند – مشروعًا طموحًا للطاقة النووية المدنية واعتبر أن القوة الهندية العظمى يجب أن تتجلى أخلاقيًا بنبذ الأسلحة النووية. غير أن الهزيمة العسكرية المفاجئة أمام الصين في حرب حدودية عام 1962، ثم نجاح بكين في اختبار قنبلتها الذرية سنة 1964، دقّا ناقوس الخطر في نيودلهي. بدأت أصوات داخل النخبة الإستراتيجية الهندية (مثل العالم حومي بهابها وبعض السياسيين) تجادل بأنه لا يمكن الاعتماد على المثاليات وحدها، وأن الهند قد تحتاج الخيار النووي العسكري لحماية أمنها. توازى ذلك مع تصاعد الخصومة التقليدية مع باكستان، حيث خاضت الهند وباكستان حربين في 1965 و1971. خرجت الهند منتصرة في حرب عام 1971 وأصبحت القوة العسكرية المهيمنة في جنوب آسيا. وشعرت حكومة رئيسة الوزراء أنديرا غاندي في ذلك الحين بالثقة لإبراز قدراتها العلمية؛ فسمحت في 1974 بإجراء أول تفجير نووي هندي تحت اسم “بوذا المبتسم” مدعيةً أنه انفجار سلمي لأغراض مدنية. بالرغم من هذا الإعلان الملتبس، أثبتت تجربة 1974 أن الهند امتلكت قدرة تصنيع سلاح نووي ووفرت لها مخزونًا من البلوتونيوم يكفي لعشرات الرؤوس.
مع ذلك، امتنعت الهند عن إجراء اختبارات إضافية طوال 24 عامًا تالية، منتهجةً إستراتيجية “الخيار النووي المُؤجَّل”. خلال هذه الفترة، تذبذبت الحسابات الهندية بفعل عدة عوامل: فمن جهة، استمرت التحديات الأمنية من الجارتين الصين وباكستان، وتفاقمت في الثمانينات مع شروع باكستان سرًا في برنامج نووي بدعم صيني. ووجدت الهند نفسها بحلول أوائل الثمانينات تفقد تفوقها: فبعد أن كانت “القوة الإقليمية العظمى” عقب 1971، أدى تحالف الصين مع باكستان ودعم الولايات المتحدة للأخيرة خلال الغزو السوفييتي لأفغانستان إلى تراجع نسبي لمكانة الهند. شعرت نيودلهي أنها محاصرة إستراتيجيًا: الصين تساعد باكستان نوويًا، وواشنطن تتجاهل طموحات إسلام آباد النووية بسبب الحرب الباردة، مما جعل الهند ترى في الولايات المتحدة ذاتها خصمًا محتملاً آنذاك. حاولت الهند الرد عبر تعزيز تحالفها مع الاتحاد السوفييتي وزيادة الإنفاق العسكري بشكل ضخم في الثمانينات، لكن ذلك لم يبدد مخاوفها النووية. في الوقت ذاته، أثارت التطورات على صعيد النظام الدولي لعدم الانتشار قلق نيودلهي؛ فتمديد معاهدة عدم الانتشار إلى أجل غير مسمى عام 1995 ثم الدفع toward إقرار معاهدة الحظر الشامل للتجارب (CTBT) اعتبرتهما الهند خطوات ترسّخ “اللامساواة النووية” بين الدول وتجعلها دولة من الدرجة الثانية إذا استمرت دون سلاح. واعتبر الكثير من الهنود تلك المعاهدات “فخًا دوليًا” يهدف إلى منع الهند من تحقيق مكانتها المستحقة.
مع تغير المشهد السياسي الداخلي في الهند بوصول حكومة قومية هندوسية (حزب بهارتيا جاناتا BJP) إلى السلطة عام 1998، اتخذ القرار الحاسم بإجراء تفجيرات نووية كاملة في مايو 1998. بررت نيودلهي هذه الخطوة بأسباب أمنية مباشرة تتعلق “بالبيئة الإستراتيجية المتدهورة” – في إشارة إلى امتلاك الصين وباكستان أسلحة نووية وصواريخ قادرة على إصابة العمق الهندي. وأرسل رئيس الوزراء أتال بيهاري فاجبايي رسالة إلى قادة العالم (ضمنها الرئيس الأمريكي) يشرح فيها أن الهند وجدت نفسها مضطرة لحيازة الردع النووي بسبب التهديد الذي تشكله الصين نوويًا وبسبب العداء مع باكستان. وبهذا أعلنت الهند نفسها رسميًا دولة نووية، معتبرةً أن الاختبارات كانت لإثبات قدرتها على “تصميم أسلحة نووية ذات مردودات مختلفة ومنصات إيصال متنوعة”. عقب ذلك، التزمت الهند بمسؤولية عدم الاستخدام أولاً وعدم نقل التقانة النووية، وسعت إلى قبول دولي لوضعها الجديد.
جنوب أفريقيا: القنبلة في ظل نظام الفصل العنصري ثم التخلي الطوعي
السياق التاريخي للبرنامج: تُعد جنوب أفريقيا الحالة الفريدة التي قامت بتطوير أسلحة نووية ثم تخلّت عنها طواعية. بدأ برنامج بريتوريا النووي في ستينات القرن العشرين، مستفيدًا من وفرة اليورانيوم محليًا والتقدم التقني النسبي لديها. في البداية ركزت الأبحاث على استخدام المتفجرات النووية لأغراض مدنية مثل تفجير المناجم (مشروع PNE)، لكن مع تصاعد التوتر الإقليمي في السبعينات وتحول نظام الفصل العنصري إلى دولة منبوذة دوليًا، تحول البرنامج تدريجيًا نحو تصنيع أسلحة نووية فعلية. جاء ذلك على وقع أحداث رئيسية مثل استقلال المستعمرات البرتغالية في أفريقيا 1975 وصعود حكومات يسارية في أنغولا وموزمبيق المجاورتين بدعم كوبي/سوفييتي. واجه نظام الفصل العنصري الأبيض في جنوب أفريقيا آنذاك شبح تطويق شيوعي: قوات كوبانية وسوفييتية في أنغولا، تهديدات أمنية على حدود ناميبيا التي كانت تحت الإدارة الجنوب أفريقية، وضغط دولي متزايد لإنهاء الأبارتهايد. هذا المناخ الأمني دفع قادة جنوب أفريقيا العسكريين إلى النظر للسلاح النووي كـضمان لردع أي تدخل خارجي أو غزو محتمل لقوات معادية.
بحلول أواخر السبعينات، كانت جنوب أفريقيا قد أنشأت موقع اختبار نووي في صحراء كالاهاري. وفي عام 1977 التقطت أقمار اصطناعية سوفييتية دلائل على تحضيرات لاختبار نووي هناك، فمارست موسكو وواشنطن معًا ضغطًا دبلوماسيًا على بريتوريا لتعليق أي تجربة. تشير المعلومات المتاحة إلى أن جنوب أفريقيا تبنّت إستراتيجية تدريجية لردع الخصوم سُميت “خيار التفجير المُعلن تدريجيًا”. تضمنت هذه الإستراتيجية ثلاث مراحل متصاعدة: أولاً الإبقاء على الغموض المتعمد (“عدم التأكيد ولا النفي” لحيازة القنبلة) – أي خلق حالة شك لدى العدو بشأن القدرات. ثانيًا، في حال تعرض النظام لخطر عسكري جسيم (مثل اجتياح قوات كوبية/سوفييتية للحدود)، يتم الإفصاح السرّي للقوى الغربية الكبرى (أمريكا بالذات) عن امتلاك جنوب أفريقيا لأسلحة نووية، في مسعى لاستدراج دعم تلك القوى أو دفعها للضغط على العدو. وإذا فشل ذلك، تنتقل الخطة إلى إجراء اختبار نووي تحت الأرض بشكل استعراضي لإثبات القدرة بشكل لا لبس فيه. وأخيرًا، إذا استمر التهديد الوجودي، يتم التهديد العلني باستخدام السلاح أو حتى استخدامه ميدانيًا كخيار أخير. هذه الإستراتيجية السرية أقرّها رسميًا وزير الدفاع ماغنوس مالان عام 1986 تحت مسمى “خطة كرامات”. وضمن هذا التصور، صنعت جنوب أفريقيا ست قنابل نووية من نوع المدفع (يورانيوم عالي التخصيب) خلال الثمانينات وخزّنتها “على الرف” بانتظار الحاجة. لم يكن مخططًا استخدام هذه القنابل في ساحات القتال الأفريقية فعليًا، بل لتكون ورقة مساومة كبرى – “القنبلة في القبو” – بهدف منع “سقوط بريتوريا” إن جاز التعبير.
جنوب أفريقيا طوّرت برنامجًا نوويًا سريًا في ظل نظام الأبارتهايد بدافع الخوف من تهديدات خارجية، خصوصًا التدخل السوفييتي عبر أنغولا، ولتعويض العزلة الدولية المفروضة عليها بسبب سياساتها العنصرية. هدفت القنبلة إلى ردع الغزو المحتمل أو دفع الغرب للتدخل لحمايتها كحليف مناهض للشيوعية. كما أرادت بريتوريا أن يمنحها السلاح النووي مكانة استراتيجية تفرض على العالم التعامل معها رغم نبذ نظامها.
مع نهاية الحرب الباردة وتراجع التهديدات الأمنية، قررت القيادة السياسية بقيادة دي كليرك وقف البرنامج وتفكيك الترسانة النووية قبل انتقال الحكم للأغلبية السوداء. في 1993، أعلنت جنوب أفريقيا رسميًا عن برنامجها النووي السابق، مؤكدة تدمير 6 قنابل طوعًا والانضمام إلى معاهدة عدم الانتشار.
تلقت جنوب أفريقيا دعمًا نوويًا محدودًا من الولايات المتحدة وألمانيا، لكن أبرز شريك لها كان إسرائيل، التي يُعتقد أنها ساعدت في تطوير الصواريخ وربما شاركت في اختبار نووي. واجهت بريتوريا عقوبات دولية ورفضًا واسعًا لسعيها النووي، ما جعل البرنامج عبئًا سياسيًا واقتصاديًا في نهاية المطاف.
التهديدات الإقليمية تمثلت في تصاعد النفوذ السوفييتي بأنغولا وموزمبيق، واحتمال اجتياح مدعوم من كوبا أو موسكو، ما دفع جنوب أفريقيا لامتلاك سلاح ردع نووي. ومع تفكك التهديدات ونهاية نظام الأبارتهايد، تحوّلت البلاد إلى داعية لنزع السلاح النووي، وشاركت في إنشاء معاهدة بليندابا لجعل أفريقيا منطقة خالية من الأسلحة النووية.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية