جدول المحتويات
«نبض الخليج»
بعد تحرير سوريا وفي الأسبوع الأول من شهر كانون الأول/ ديسمبر المجيد، بعد أن وصلت إلى الشام ورأيت الأهل والأصحاب، بدأت باستعادة الذكريات من خلال زيارة الأماكن التي ما زالت عالقة بالبال من أيام الطفولة، أحدها كان زيارة كنيسة السريان في قطنا بريف دمشق.
جلست مع راعي الكنيسة الأب يوسف، والذي استقبلني في مكتبه في جلسة ودية برفقة أخي بدر، تحدثنا عن تاريخ الكنيسة التي شيدت عام 1906، وأهميتها التاريخية وأصالتها بالنسبة للمدينة، ثم ناقشنا نجاح الثورة وأهمية أن نكون أكثرية سورية وليس أكثريات وأقليات في بلد واحد.
ولدت في بيت قريب جداً من كنيسة السريان، وعلى مقربة أخرى من بيتنا كانت “تيتة” أم سمير سمعان، الخالة العزيزة التي كانت تعتني بي إلى جانب حفيدها طوني، لم يكن ذلك غريباً في قطنا، كانت عندما تراني تعانقني، وعندما سافر حفيدها في هجرة إلى أميركا، صارت تبكي عندما تراني لأنني صرت أذكرها به.
أخبرت الأب يوسف، أن أحد الأصدقاء من عائلة صبرة (التي ينتمي لها المناضل والسياسي السوري جورج صبرة) في قطنا، اتصل بي في بدايات التحرير ليسألني عن بيوت عائلتهم التي سرق ما فيها ويعيش بها أشخاص لا يعرفونهم – تواصل معي أنا وليس مع شخص آخر وهو ما أشعرني بالفخر وزيادة المحبة – تحركت فوراً وسألت عن الموضوع ووصلته بمن تكفل بالبيوت في غيابهم، وهو محامي في المدينة. قبل أسابيع عاد جورج صبرة إلى قطنا وحُمل على الأكتاف بهتافات الاستقبال التي تليق بابن الثورة السورية.
جورج صبرة الذي أراد رستم غزالة أن يجعله أحد شركاء تأسيس الإمارة الإسلامية في قطنا والتحريض على التظاهر، بقيادة الشهيد أحمد سعيد القادري.
دار هذا الحوار بين رستم غزالة رئيس شعبة الأمن السياسي وجورج صبرة:
“غزالة: أنت بالتحريض على التظاهر وتأسيس إمارة إسلامية؟
صبرة: لا يا سيادة اللواء من وين جايبلي هي التهمة؟ أنا أحرض على التظاهر أما يتعلق بالإمارة الإسلامية، اسمي ليس محمد صبرة وإن كنت أفتخر بهذا الاسم، أنا اسمي جورج صبرة ووقت بدي غير ديني في طريقة إلى ذلك؟
غزالة: شو قصتك مع الله أكبر، شو دخلكم بـ الله أكبر؟
صبرة: مين قلك أنو الله أكبر الكم بس؟ كمان نحنا عنا الله أكبر، وأنا سوري والسوريين بيناموا وبيفيقوا خمس مرات باليوم على نداء الله أكبر، بأي حق تعيب علي الله أكبر؟”.
تفجير دويلعة الآثم
جاء تنظيم داعش منذ اللحظات الأولى لتأسيسه بعد فتح السجون في سوريا وإخلاء الفرق العسكرية في العراق عام 2013، حاملاً السكين يبتر فيها الآخرين، والمفخخات والانتحاريين، يطبش بالكل، وفي مقدمتهم المسلمين (حيث كان معظم ضحاياه منهم) في مناطق الموصل والرقة ودير الزور وريف حلب بشكل خاص، ورغم أنه أجرم أيما إجرام بالجميع، واستخدم التوحش والحالة البربرية مع خصومه، إلا أن التركيز الغربي كان دوماً متعلق بـ “الأقليات”، مع أهمية التأكيد على ضرورة حماية الجميع من هذا الفكر الجنوني الذي يستحل دماء الناس بدون أي رادع أخلاقي وديني، بل ينطلق من قراءة كارثية للإسلام، ذلك الدين الذي تميز في تاريخه في حفظ حقوق الجميع، الآخرين قبل المسلمين.
ما حدث في دويلعة، من استهداف لكنيسة مار إلياس، ومقتل 22 مدنياً وإصابة 59 آخرين، من أهلنا في دمشق، تفجير يحمل بصمات داعش وأسلوبه، ومن خلفه توجيهات تريد تمزيق وحدة سوريا وإعادة العقارب إلى الوراء، والدندنة مجدداً على ملف حماية وتطمين الأقليات.
وبحسب مراسل تلفزيون سوريا في دمشق، محمد فهد، فقد وقع الهجوم داخل كنيسة مار إلياس خلال قدّاس مسائي، وبدأ بإطلاق نار من شخص مسلّح، أعقبه دخول عنصر آخر إلى الكنيسة، كان يرتدي حزاماً ناسفاً، ففجّره وسط الحضور، متسبباً بدمار كبير وسقوط عدد من الشهداء والجرحى.
رحم الله هؤلاء الشهداء وانتقم من قاتلهم ومن أمره وخطط معه وسهل له، إن أصالة هؤلاء الأشخاص في بلدهم سوريا، لا تحتاج تذكيراً، فهم أقدم من المسلمين جذوراً، والمواطنة تقتضي الدفاع عنهم وحمايتهم ليسوا لأنهم مسيحيون بل لأنهم سوريون لهم حقوق المواطنة الكاملة كما هي لأي مسلم أو مهما كان مشربه أو مذهبه أو عرقه.
ما قصة “حماية الأقليات”؟
أول ما ظهر مصطلح حماية الأقليات في نهايات القرن الثامن عشر ثم أخذ بعداً أوسع في القرن التاسع عشر (وما زال مستمراً حتى اليوم)، وهو
مصطلح غربي استخدمته الدول الاستعمارية لقضم أراضي الدولة العثمانية بهدف حماية الأقليات المسيحية المشرقية أو الطوائف الأخرى، كأداة غير بريئة ولا إنسانية في جوهرها إنما استخدام ناعم وأحياناً صلب لتفتيت المجتمعات المحلية وزرع التبعية وإعادة رسم الخرائط السياسية لصالح القوى الكبرى، مع التعويل في بعض الأحيان على اختراق الحكومات أو غبائها أو توجيه جماعات مسلحة لتنفيذ ذلك.
وفي الحقيقة نجحت بريطانيا وفرنسا ثم روسيا والولايات المتحدة ومؤخراً إيران، في استخدام ورقة الطائفة أو الأقلية للدخول إلى أي بلد من أجل حمايتهم من البعبع المسلم أو غير المسلم، ثم جعلها النظام السوري حصرية له، فضرب الأقلية بالأكثرية وجعل مصيره مقترن بمصيرها.
الغرب بشكل أساس، لا سيما في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، تبنّى خطاب “حقوق الإنسان” و”حماية الأقليات” كجزء من استراتيجية جديدة للهيمنة الناعمة.
رئيس الاستخبارات التركي (الكاتب والمفكر) إبراهيم كالن يرى أن الغرب أنشأ خطاباً مؤسسياً يصنّف الشعوب غير الغربية، ومنهم المسلمون، على أنهم بحاجة إلى “توجيه” و”رعاية”، مما يمهّد لقبول التدخل الغربي باعتباره عملاً إنسانياً أو حضارياً.
وهذا ينسجم تماماً مع منطق “حماية الأقليات” أو تطمينهم، حيث تُقدَّم التدخلات الغربية وكأنها لحماية “ضحايا”، بينما الهدف الحقيقي هو ضبط المجال السياسي والثقافي في المنطقة.
ركز كالن في كتابة “مقدمة إلى تاريخنا والآخر” على كيف أن خطاب “الآخر” الغربي يعمل على تقسيم المجتمعات الإسلامية إلى هويات فرعية (طائفية، عرقية، مذهبية…)، ويُبرزها على حساب الهوية الدينية أو الوطنية الجامعة، بهدف تسهيل السيطرة عليها.
وأشار إلى أن الغرب يستخدم خطاب حقوق الإنسان بشكل انتقائي، يتوافق مع مصالحه الاستراتيجية. فتارة يدعم حقوق الأقليات، وتارة يتغاضى عنها إن تعارضت مع مصالحه السياسية أو الاقتصادية.
كالن الذي بدأ كتابه بقصيدة شهيرة للشاعر والقاص البريطاني روديارد كبلينغ (1865-1936م)، أول حائز على جائزة نوبل “الشرق شرق، والغرب غرب.. لن يلتقيا أبداً. كما الأرض والسماء..”.
وهو بذلك يعبر عن واحدة من الخصائص الأساسية للشرق في الحس السائد في العالم الغربي. ويشير إلى أن الانفصال بين الثقافتين هو الوضع الطبيعي، فيما أن تقاربهما حالة استثنائية تستدعي التدخل الإلهي.
في كتابه الاستشراق الشهير، يرى إدوارد سعيد يرى أن الخطاب الاستشراقي صوّر الشرق على أنه: “كائن عاجز، غير قادر على الحكم الذاتي، غير عقلاني، وعاطفي، ويحتاج إلى التوجيه والرعاية من الغرب المتفوّق”.
وهذا الوصف لم يكن مقتصراً على الشعوب ككل، بل انطبق أيضاً على الجماعات الصغيرة أو “الأقليات”، التي غالباً ما صوّرها المستشرقون والرحالة والسياسيون الغربيون على أنها ضحايا الأغلبية المسلمة، وتالياً يجب “حمايتها” و”رعايتها”.
أما الباحث الشهير صموئيل هنتغتون، فقد أشعل جدلاً كبيراً في كتابه “صراع الحضارات” يبرز كيف تم تصنيف الأقليات داخل الحضارات المختلفة كعناصر قابلة للاستخدام أو التهديد، وفق المنظور الجيوسياسي الغربي.
وفي سياق ذلك قال: إن “المناطق التي تلتقي فيها الحضارات تكون عرضة للعنف أكثر من غيرها، لأن المجموعات التي تنتمي إلى حضارات مختلفة داخل الدولة الواحدة غالباً ما تسعى للدعم من الخارج، ما يفتح الباب لتدخلات دولية تحت ذرائع إنسانية أو ثقافية”.
القراءة الأخطر
كانت القراءة الأخطر من قبل المفكر اليهودي البريطاني الأمريكي برنارد لويس الذي مات عام 2018، والذي درس تاريخ الإسلام، في مرحلة الدكتوراه، وألف العديد من الكتب عن الإسلام والعرب وتركيا، وبلور ملامح مشروعه المتكامل للسيطرة على الشرق الأوسط والعالمين العربي والإسلامي، سياسياً ومالياً وعسكرياً، بل وثقافياً، من خلال أطلق عليه “تفتيت الشرق إلى مكوناته الدينية والمذهبية والعرقية والعشائرية” وهو المشروع الذي اعتمده الكونغرس الأمريكي علم 1983، والذي نُظر إليه على أساس أنه النسخة المتطورة من اتفاقية “سايكس بيكو” التي كانت “تدبيراً غربياً خاطئاً، ولم تعد صالحة اليوم” حسب تقييم لويس.
ظهر تأثير لويس المباشر في كتابات العديد من صناع القرار في دولة الاحتلال الإسرائيلي، مثل كتاب “الشرق الأوسط الجديد” للرئيس الإسرائيلي الأسبق شيمون بيريز، الصادر عام 1992، وكتاب رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي بنيامين نتنياهو “مكان تحت الشمس” الصادر عام 1993، وفي الأهم أنه ظهر في قرارات وأفعال الولايات المتحدة والغرب في أفغانستان والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين.
قال برنارد لويس حرفياً: “ما يُسمى بالعالم العربي ليس كتلة متجانسة.. هناك أقليات كبيرة من الأكراد والأمازيغ والمسيحيين وغيرهم.. قد لا تبقى هذه المجموعات مكتوفة الأيدي في حال تفكك الدول المركزية”.
وللمصادفة المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا توماس باراك قال إن الغرب فرض قبل قرن من الزمان خرائط وانتدابات وحدوداً مرسومة بالحبر وإن اتفاقية “سايكس بيكو” قسمت سوريا والمنطقة لأهداف استعمارية لا من أجل السلام.
واعتبر باراك في منشور على حسابه بمنصة “إكس” أن ذلك التقسيم كان خطأ ذا كلفة على أجيال بأكملها ولن يتكرر مرة أخرى، وأن زمن التدخل الغربي انتهى وأن المستقبل سيكون لحلول تنبع من داخل المنطقة وعبر الشراكات القائمة على الاحترام المتبادل.
وأشار باراك إلى أن مأساة سوريا ولدت من الانقسام وأن ميلادها الجديد يأتي عبر الكرامة والوحدة والاستثمار في شعبها، مضيفاً “نقف إلى جانب تركيا ودول الخليج وأوروبا ليس بالجيوش وإلقاء المحاضرات أو بالحدود الوهمية”.
هل انتهى زمن التدخل الغربي أو الإقليمي أو من يريد من يعبث في أمننا فعلاً؟ أو هل سينتهي قريباً ويترك الفرصة لأبناء هذا الشرق المعجون بالتنوع والاختلافات أن يأخذ دوره المستقل، ربما تفجير دويلعة لا يشي بذلك.
هل تحتاج الأقليات الحماية أو التطمين؟ أم تحتاج إلى شيء واحد بسيط، وهو بناء عقد اجتماعي يكفل حقوق الجميع في مواطنة كاملة، دولة جديدة تحترم الحقوق وتكفل الرعاية وتحفظ حرية الرأي والعبادة والفكر؟
قانون نافذ يمنع التجييش الطائفي بكل أنواعه، خصوصاً على مواقع التواصل الاجتماعي، التي تزيد من الأحقاد والشقاق معتمدة على خطاب شعبوي فارغ مبني على تصورات خاطئة تضرب عمق السلم الأهلي.
لا لتطمين الأقليات، ونعم لمواطنة الأكثرية السورية التي تشمل الجميع بدون تفرقة أو تمييز، وهذا ما يجعل مشاريع داعش أو إسرائيل أو إيران أو أي دولة أخرى تخسر أمام مشروع سوريا الجديدة.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية