جدول المحتويات
«نبض الخليج»
يُعدّ اعتقال وسيم الأسد في 21 يونيو/حزيران 2025 محطة مهمة في مسار سوريا الانتقالي بعد الصراع، ويُشير إلى مستوى من الجدية لدى السلطات الانتقالية في تفكيك شبكات الإفلات من العقاب التي رسّخت خمسة عقود من الحكم الاستبدادي. وبصفته أول معتقل من عائلة الأسد منذ انهيار النظام في ديسمبر/كانون الأول 2024، فإن لهذا الاعتقال أبعادًا تتجاوز تداعياته القانونية المباشرة، ليحمل دلالات رمزية عميقة بالنظر إلى أن وسيم الأسد كان يمثل التداخل بين الامتيازات العائلية، والاستغلال الاقتصادي، والمشاريع الإجرامية.
في الإطار النظري للعدالة الانتقالية، ينبغي فهم هذا الحدث ضمن مقاربة تحليلية متعددة الأبعاد. فالعدالة الانتقالية، كما تُصاغ في سياقات ما بعد الصراع، تشمل مجموعة من الآليات القضائية وغير القضائية المصممة لمعالجة الإرث الثقيل للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، مع تمكين عملية التحول المجتمعي. ويُجسّد احتجاز وسيم الأسد مثالًا على العدالة الجزائية، أي محاسبة الجناة على جرائم محددة، وفي الوقت ذاته يُعدّ وسيلة لإضفاء الشرعية المؤسسية على السلطة السياسية الجديدة في سوريا.
البعد المؤسسي لاعتقال وسيم الأسد
تُمارس العدالة الانتقالية في سياقات ما بعد الاستبداد من خلال تفاعل مركب بين آليات قانونية وسياسية واجتماعية تهدف إلى معالجة الانتهاكات المنهجية، مع تعزيز الانتقال نحو الديمقراطية. ويُقرّ الإطار النظري، كما طوّره باحثون في مجال التحول السياسي، بأن العدالة في هذه السياقات تخدم أهدافًا متعدّدة ومتداخلة أحيانًا: المحاسبة عن جرائم الماضي، إضفاء الشرعية على النظام السياسي الجديد، المصالحة بين الجماعات المنقسمة، وإنشاء ضمانات مؤسسية تحول دون تكرار الانتهاكات مستقبلًا.
ويُعدّ دور الملاحقات القضائية رفيعة المستوى في إرساء شرعية هياكل الحكم الجديدة عنصرًا محوريًا في نظرية العدالة الانتقالية. إذ تُنتج هذه الملاحقات ما يصفه بعض المنظّرين السياسيين بـ “الأثر الاستعراضي”، لما تحمله من مؤشرات على التزام النظام الجديد بسيادة القانون. في السياق السوري، يُعدّ اعتقال شخصية بارزة من عائلة الأسد تجسيدًا لما تطلق عليه الخبيرة روتي تايتل بـ “العدالة الجنائية الانتقالية”، حيث تساهم المحاسبة الفردية في إنجاح التحول السياسي الأوسع. وتعمل هذه العدالة على مستويين متكاملين: من ناحية مادية، تُسهم في تفكيك شبكات الإفلات من العقاب؛ ومن ناحية رمزية، تؤكد أن موقع الفرد السياسي لم يعد يضمن له الحصانة من العواقب القانونية. ومن هنا، يُصبح نجاح السلطات الجديدة في اعتقال رموز النظام ومحاكمتهم معيارًا لمدى نضجها المؤسسي وقدرتها السياسية.
ويُجسّد وسيم الأسد الثلاثية التي شكلت عماد سلطة النظام السابق: امتيازات عائلية تُحصّن أفرادًا من القانون، واستغلال اقتصادي لموارد الدولة وتحويلها إلى مكاسب خاصة، ومشاريع إجرامية تماهت فيها مؤسسات الدولة مع شبكات الجريمة المنظمة. ويبرز تورّطه في تجارة الكبتاغون ( صناعة المخدرات التي حققت لنظام الأسد أرباحًا بمليارات الدولارات) كمثال صارخ على ما يُعرف في أدبيات الجريمة بـ “تجريم الدولة”، حيث تُصبح مؤسسات الحكم غير متميزة عن المنظمات الإجرامية. ومن منظور العدالة الانتقالية، لا تقتصر
أهمية محاكمة شخصيات كهذه على أفعالها الجنائية الفردية، بل تمتد إلى مقاربة الفساد الممنهج داخل مؤسسات الدولة، وهو ما يتماشى مع الاتجاهات الحديثة في العدالة الانتقالية التي تؤكد ضرورة التصدي للجرائم الاقتصادية والفساد باعتبارهما ركيزتين أساسيتين للمساءلة ما بعد الصراع.
يجسّد التناغم بين الآليات المحلية للمساءلة ونظيراتها الدولية، ولا سيما من خلال التعاون المأمول مع “الآلية الدولية المحايدة والمستقلة لسوريا” (IIIM)، نموذجًا ناشئًا لبنية هجينة في منظومة العدالة الانتقالية.
تفكيك اقتصاد الجريمة
يشكّل اعتقال وسيم الأسد حافزًا لتفكيك منهجي لشبكات الكبتاغون التي كانت تشكّل دعامة رئيسية في الاقتصاد السياسي لنظام الأسد. فقد مثّلت هذه البُنى التمويلية غير المشروعة ما يُعرف في أدبيات إجرام الدولة بـ “حوكمة المخدرات” – أي اندماج تجارة المخدرات في بنية الدولة لإنشاء أدوات ذاتية الاستدامة للسيطرة الاستبدادية. وتتجاوز الأهمية النظرية لهذا التطور مجرد تنفيذ القانون، إذ تعكس بداية لإعادة هيكلة جذرية للاقتصاد السياسي السوري، من اقتصاد قائم على النشاطات الإجرامية إلى آخر يستند إلى قواعد قانونية ومؤسسية. ويُظهر استيلاء السلطات الجديدة على منشآت إنتاج الكبتاغون وشبكات توزيعه في الأشهر التالية لانهيار نظام الأسد التزامًا مؤسسيًا واضحًا بقطع العلاقة بين أجهزة الحكم والجريمة المنظمة. ويُعزز هذا المسار ما تؤكده أدبيات العدالة الانتقالية حول الأبعاد الاقتصادية لتحولات ما بعد الصراع، والتي ترى أن تحقيق سلام مستدام يقتضي تفكيك البنى الاقتصادية التي كرّست القمع واستدامة النزاع.
يُعدّ بناء قدرات الدولة عبر تنفيذ عمليات أمنية ناجحة بُعدًا بالغ الأهمية (وإن كان قليل الدراسة) في سياق تطبيق العدالة الانتقالية.
فقد أظهرت العملية الدقيقة التي أفضت إلى اعتقال وسيم الأسد مدى ما بلغته الحكومة الجديدة من قدرات عملياتية تشمل جمع المعلومات الاستخباراتية، والتنسيق بين الأجهزة الأمنية، وتنفيذ مهام معقدة في إطار قانوني. ومن منظور مؤسسي، تُحقق هذه العمليات جملة من الأهداف؛ إذ تُرسخ احتكار الدولة لاستخدام القوة المشروعة، وتعزز ثقة المواطنين في المؤسسات الأمنية. ويُسهم هذا النوع من الإنجاز في ترسيخ ما يُعرف في الأدبيات بـ “شرعية الأداء”، أي الشرعية التي تستمدها السلطة من فعاليتها الملموسة، لا من الخطابات الأيديولوجية أو السيطرة القسرية.
ويجسّد التناغم بين الآليات المحلية للمساءلة ونظيراتها الدولية، ولا سيما من خلال التعاون المأمول مع “الآلية الدولية المحايدة والمستقلة لسوريا” (IIIM)، نموذجًا ناشئًا لبنية هجينة في منظومة العدالة الانتقالية. فالوصول غير المسبوق لهذه الآلية إلى الأراضي السورية عقب انهيار نظام الأسد، مكّن من حفظ الأدلة وتوثيقها، ما عزّز الجهود القضائية على الصعيدين المحلي والدولي. وتعكس هذه الشراكة مبدأ “التكامل الإيجابي” المنصوص عليه في القانون الجنائي الدولي، حيث تُعزّز الآليات الدولية عمل العدالة المحلية بدلًا من أن تُستبدل بها. وتكمن فرادة هذا النموذج في طبيعته الطوعية، إذ تتجه الدولة الخارجة من الصراع بنفسها نحو شراكة دولية لتعزيز مسارات المساءلة لديها. ويُعدّ هذا النهج نقلة نوعية تتجاوز ثنائية السيادة الوطنية والتدخل الدولي، نحو إطار تعاوني يستفيد من ميزات مختلف الفاعلين المؤسسيين.
في هذا المسار الطويل والمعقد، يُشكّل اعتقال وسيم الأسد إنجازًا وتحديًا معًا؛ فهو يُظهر ما يمكن تحقيقه، ويُضيء في الآن ذاته على حجم العمل المتبقي في رحلة سوريا نحو إنهاء الإفلات من العقاب وتحقيق العدالة الفعلية.
خاتمة
يُجسّد اعتقال وسيم الأسد ظاهرة متعددة الأبعاد تتجاوز في مغزاها مجرد احتجاز فرد. فمن خلال أبعاده الرمزية، والمؤسسية، والمادية، يُبرز هذا الاعتقال التحولات المعقّدة التي تمرّ بها سوريا في مسارها نحو العدالة والمساءلة بعد عقود من الحكم الاستبدادي. ويُظهر
التحليل النظري أن الملاحقات الفردية قد تمثّل محفزًا لتحولات أوسع، تشمل تفكيك الشبكات الإجرامية، وبناء القدرات المؤسسية، وتأسيس معايير جديدة للحكم الرشيد. وبهذا، تكشف هذه القضية عن ترابط آليات العدالة الانتقالية، التي تسعى لتحقيق أهداف انتقامية وتصالحية وتحويلية في آنٍ واحد.
أما من منظور دراسات العدالة الانتقالية، فتوفر الحالة السورية مادة تحليلية غنية لفهم تطور نماذج المساءلة في السياقات المعاصرة لما بعد النزاع. ويشكّل التكامل الطوعي بين الآليات الدولية والمحلية تحديًا لنماذج الفصل التقليدية بين العدالة الوطنية والدولية، مقترحًا بديلاً تعاونيًا يُعزز الانسجام المؤسسي. كما يوسّع التركيز على تفكيك الأبعاد الاقتصادية للسلطوية، لا سيما في ما يتعلق بهياكل “حوكمة المخدرات” التي مثّلتها تجارة الكبتاغون، نطاق المفاهيم التقليدية للعدالة الانتقالية، لتشمل الجريمة الاقتصادية المنهجية إلى جانب العنف السياسي.
ويبرز في هذا السياق الإطار المفاهيمي الذي ينظر إلى العدالة الانتقالية كـ “عملية مستمرة” لا كنقطة نهاية، حيث يجب تقييم نجاحها من خلال التقدم التدريجي في إرساء معايير المساءلة داخل المجتمع. ويتطلب ذلك ترتيبًا مدروسًا لمبادرات العدالة، تبدأ بقضاء مستقل، ويواكبها دعم دولي مستمر، والأهم من ذلك، انخراط فعّال لمجتمعات الضحايا ومنظمات المجتمع المدني، لضمان أن تكون آليات العدالة معبّرة عن احتياجات المجتمع لا انعكاسًا للتجاذبات السياسية. وفي هذا المسار الطويل والمعقد، يُشكّل اعتقال وسيم الأسد إنجازًا وتحديًا معًا؛ فهو يُظهر ما يمكن تحقيقه، ويُضيء في الآن ذاته على حجم العمل المتبقي في رحلة سوريا نحو إنهاء الإفلات من العقاب وتحقيق العدالة الفعلية.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية