«نبض الخليج»
رغم أن كلمة Cute الإنكليزية تحيل إلى معان إيجابية عدة، كالذكي والجذاب واللطيف؛ إلا أنها استقرت، في الاستخدام السوري، على الأخير فقط، ثم انزاحت به، بسبب ظروف الحرب التي عاشتها البلاد على الأرجح، إلى محتوى يقود اللطف إلى أقصاه، مطلاً على رخاوة تُعاب في الشرق على “الرجال”.
ربما بدأت القصة مع تمايز الخلايا الثورية البدئية إلى ناشطين ومقاتلين، وإلى “على الأرض” و”في الخارج”، مع تنامي مسارين كبيرين: العسكرة من جهة، والإقامة المؤقتة أو المتقطعة في دول الجوار من جهة أخرى.
ففي حين كان مَن بقوا يزدادون خشونة وشظف عيش وتعرضاً للمخاطر؛ حظي الناشطون، المدنيون والإعلاميون والحقوقيون والسياسيون، بحياة أكثر رفاهاً مما ألفوه في سوريا أحياناً، وفي الوقت نفسه تلقوا تدريبات، قصيرة لكن متكررة، على قواعد العمل الإعلامي، وأصول التوثيق، وضوابط القانون الدولي في أثناء النزاعات، في حين كان نظراؤهم يتلقون تدريبهم العملي على السلاح والدم والموت في مدن انقسمت السيطرة على أحيائها، كحلب وحمص ودير الزور، أو تجاورت كما في العاصمة وضواحيها وغوطتها.
ولمواجهة القصف الوحشي الذي مارسه النظام لجأت الكتائب والفصائل المتشكلة حديثاً إلى الرد بما أوتيت من أسلحة، بعضها من صناعة محلية متواضعة وبعضها عشوائي بذخائر متهالكة.
كان الهدف هو الرد على مصادر النيران، أو ضرب ثكنات الجيش ومقار المخابرات التي كانت في وسط الأحياء المأهولة، ولم يكن احتمال عدم إصابة الهدف، ووقوع ضحايا بين المدنيين، غائباً عن أذهان المطلقين الذين كان يدفعهم الحنق أو الثأر أو مجرد الرغبة في فعل شيء لمواجهة ذلك الجحيم.
من المعروف أن التحرير أطلق “الداخل” من عقاله الشمالي الأسير، مزهواً بما أنجزه خلال وقت سريع، متعالياً على “الخارج” بمنظماته ورجاله وقيمه، وعملياً أتيح للخشنين، أو لمن يُفترض أنهم كذلك، أن يسيطروا على البلد، حكماً ومجالاً عاماً ومعايير..
في المقابل لم يكن هذا مسوّغاً لدى معظم ناشطي الخارج، وعدد من ناشطي الداخل، لأسباب بديهية تتعلق بالعدالة والحس الإنساني، خاصة وأنّ بعضهم كان في الأصل من سكّان دمشق، أو من أبناء “حلب الغربية” التي تقع عليها القذائف، فشاع تجاه هؤلاء الاتهام بأنهم “كيوت” من قبل رفاقهم القساة بما يكفي لعدم حساب النتائج أو الاستهتار بما سيحدث، حتى لو كان قيام النظام بموجة قصف أشد مما سبقها.
مرت الأيام، وتباعدت خطوط التماس إثر التهجيرات المتتالية، لكن التمييز بين “الناشت الكيوت”، كما يقال للسخرية في العادة، وبين “الزلم الخشنة” كان قد استقر، إلى أن استيقظ بضراوة بعد سقوط النظام.
فمن المعروف أن التحرير أطلق “الداخل” من عقاله الشمالي الأسير، مزهواً بما أنجزه خلال وقت سريع، متعالياً على “الخارج” بمنظماته ورجاله وقيمه، وعملياً أتيح للخشنين، أو لمن يُفترض أنهم كذلك، أن يسيطروا على البلد، حكماً ومجالاً عاماً ومعايير، ومن ضفة أخرى عاد المنفيون ليطالبوا بحصتهم من الثورة ومن صنع سوريا الجديدة، فلم يجدوا لهم مكاناً مؤثراً.
وانضم إلى الفريقين جمهور جديد من مناطق سيطرة النظام السابق، فإلى السلطة انحاز أنصار من العرب السنّة، مشكّلين مع إخوانهم الأقدم الظاهرة الأموية الملحوظة بوضوح، وإلى جو الناشطين -بمختلف تنويعاتهم- دخل عدد من معارضي بشار الأسد والمثقفين والإعلاميين والفنانين وسواهم، وطوائف كاملة كانت بعيدة نسبياً.
المسألة الأخيرة، أي الطائفية، شديدة الاتصال بما نبحثه، فقد نُظر، ليس من دون وجه حق، إلى الأقليات الإسلامية في سوريا على أنها حاضنة للعلمانية ونمط الحياة الحديث، وفي حين تفهم الأكثرية هذا الأمر، من دون أن تتقبله على طول الخط؛ فإنّ قطاعاً واسعاً منها ينظر باستهجان إلى “التحاق” بعض أبنائه بقيم الأقليات أو دفاعه عنها.
وعلى هؤلاء المنشقين من العرب السنّة أُطلق وصف “الكيوت” أصلاً، طالما أن طباع الأقليات سجايا لا تحتاج إلى تفسير، أما غير المفهوم فهو “انسلاخ بعضنا” عن الجماعة الأهلية وتبنيه المواقف السياسية، أو مجرد الدفاع الإنساني، عن “الآخرين”، خاصة بعدما اصطدمت الأموية مع العلويين في آذار ومع الدروز في الأسبوع الماضي، وربما تتأهب لغيرهم.
المأمول أن يكون الواقع أحد تجليات اضطراب الشعوب بعد تحول كبير مفاجئ، وأن تستكمل القلة العنيدة من الأذكياء الجذابين اللطفاء (Cute) مسار التغيير، مهما كان طريقه طويلاً ووعراً ومحفوفاً بالنيران الصديقة
تستبعد أكثرية ساحقة من “الأمة” العربية السنّية أن تدخل عقولُ أبنائها قناعات مغايرة عن السياق المفترض لما يجب أن يصنعه القالب الجمعي، فإن ظهرت أعراض “الكياتة” وجب البحث عن أسباب غير عقلانية لها، كالتلبّس بمعايير حقوق الإنسان سعياً وراء رضى الممولين الغربيين، أو انتهاج سلوك متحرر للاندماج في علاقات اجتماعية متحللة، أو الضعف الفكري والتأثر بالغزو الثقافي الذي يهدد “حصوننا” من داخلها كما عُنوِن كتاب شهير، أو عقدة الخنوع للأغراب نتيجة لـ “شذوذ” في النفس أو الجسد، أو لمجرد لفت الأنظار وكسب الشهرة أو المال عبر المشاهدات.
ومن البديهي أن كل ذلك مقطوع الصلة بقيم الفردية والحرية وما ينبني عليها من مفهوم المواطنة الذي لا بديل عنه، اليوم، لبناء بلد منخرط في العالم، وهو ما يبشّر به كبار مسؤولي السلطة الجديدة التي باتت تبدو كائناً هجيناً برأس كناري وقدمي فيل، لا سيما مع تداخلها مع الفزعات، الفصائلية والشعبية باتجاه الساحل، والعشائرية نحو السويداء.
وعلى من لم يلتحق بالفزعة، فعلياً أو إعلامياً أو فيسبوكياً، أن يدفع ثمن موقفه “الغريب” في “خذلان” أهله، إقصاءً غليظاً.
يبدو المشهد شرساً وقاتماً بعد ثورة كانت الحرية والتعددية والحق في الاختلاف بعض أهدافها الأساسية الأولى، لكن المأمول أن يكون الواقع أحد تجليات اضطراب الشعوب بعد تحول كبير مفاجئ، وأن تستكمل القلة العنيدة من الأذكياء الجذابين اللطفاء (Cute) مسار التغيير، مهما كان طريقه طويلاً ووعراً ومحفوفاً بالنيران الصديقة.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية