«نبض الخليج»
لم تعد النفايات مجرّد بقايا تُدفن أو تُحرَق، بل أصبحت جزءاً من منظومة الاقتصاد الدائري الذي يحوّل ما يُعتبَر «زائداً» إلى موردٍ جديد. فإدارة النفايات لم تعد مسألة نظافة فقط، بل قضية تتعلّق بالاقتصاد والاستدامة. غير أنّ ما يجري اليوم في دمشق يعكس عقلية مختلفة تماماً؛ فقرار بلدية دمشق الأخير بنقل مكبّ النفايات باتجاه الغوطة الشرقية يكشف عن ذهنية إدارية عاجزة عن إدراك القيمة الاقتصادية والبيئية، وحتى الرمزية لهذه المنطقة التي كانت وما زالت تُعدّ «رئة المدينة».
هذا القرار ليس مجرد خطأ تقني في اختيار موقعٍ جديد، بل مرآة تعكس الفارق بين منظومتين فكريتين: واحدة ترى في النفايات مورداً قابلاً لإعادة التوظيف، وأخرى تراها عبئاً، والطريقة الوحيدة للتخلّص منه هي دفنه أو حرقه. وبين هاتين الرؤيتين تكمن الفجوة بين دولٍ تتقدّم في طريق الاستدامة ودولٍ تُغرق نفسها في نفاياتها حرفياً ومعنوياً.
ثمة بُعد اقتصادي قوي وفاعل؛ إذ توظّف صناعة التدوير في ألمانيا عشرات الآلاف من العمّال والمهندسين المختصين وتنتج عائدات بمليارات اليوروهات سنوياً (16 ملياراً في عام 2023).
في ألمانيا، على سبيل المثال، تُدار النفايات ضمن منظومة متكاملة تبدأ من المنزل وتنتهي في المصانع. القانون الألماني يُلزِم المواطن بفرز النفايات عند المصدر: الورق في حاوية زرقاء، الزجاج في خضراء، المواد البلاستيكية والمعدنية في صفراء، وبقايا الطعام في حاوية بنية. هذه البساطة الظاهرية تُخفي وراءها بنية تشريعية وتقنية معقّدة تنظّم أدقّ تفاصيل دورة تدوير النفايات.
فـ«قانون التغليف» (Verpackungsgesetz) مثلاً، يُلزم الشركات بتسجيل كل عبوة تُطرَح في السوق، ويُحمّلها جزءاً من مسؤولية تدويرها. أما نظام الرهن (Pfandsystem) فيحوّل الزجاجات والعبوات البلاستيكية إلى عملةٍ صغيرة يمكن استرداد قيمتها عند إعادتها، ما يجعل إعادة التدوير سلوكاً اقتصادياً أيضاً يحفّز المواطن على الالتزام به، لأنه يستفيد مالياً.
لا شكّ أنّ شبكة تدوير النفايات هذه لا تسير بتلك المثالية، لكنها تحقّق نتائج جيدة. ودائماً ما تتضمّن برامج الأحزاب خططاً جديدة لتطوير تلك الصناعة. فقد بلغت نسبة إعادة تدوير النفايات البلدية في ألمانيا أكثر من 67%، بحسب بيانات المكتب الاتحادي للبيئة لعام 2023، وهي من أعلى المعدلات في العالم. هذا النجاح لم يأتِ مصادفة، بل نتيجة استثمارٍ طويل في البنى التحتية والوعي المجتمعي، وتضمين ذلك في المناهج التعليمية، إضافة إلى التكييف القانوني وتطوير منظومة رقابة دقيقة لضمان التزام المواطنين. كما أنه، في الشرح والتصنيف القانوني المدون في الخطط الحكومية، تُعامَل النفايات بوصفها «مورداً خاماً ثانوياً» (Sekundärrohstoff) يُعاد استخدامه لتقليل استيراد المواد الأولية وتوفير الطاقة وتقليل انبعاثات الكربون. فكل كيلوغرام يُعاد تدويره هو استثمار في البيئة والاقتصاد معاً.
إلى جانب البعد البيئي، ثمة بُعد اقتصادي قوي وفاعل؛ إذ توظّف صناعة التدوير في ألمانيا عشرات الآلاف من العمّال والمهندسين المختصين وتنتج عائدات بمليارات اليوروهات سنوياً (16 ملياراً في عام 2023). فالمواطن الذي يُلقي زجاجته في الحاوية المناسبة لا يقوم بعملٍ أخلاقي فقط، بل يشارك في سلسلة إنتاج جديدة تبدأ من النفايات وتنتهي بمنتَجٍ جديد. إنها فلسفة تقوم على تحويل العبء إلى قيمة، والمشكلة إلى فرصة.
لا يمكن المقارنة بين بلدٍ يخصّص مليارات الدولارات للبنية التحتية الخاصة بصناعة تدوير النفايات ويطوّرها منذ عشرات السنين، وبلدٍ تعرّض للإهمال والتخريب على مدار خمسين عاماً، وقد خرج تواً من حرب مدمرة.
النفايات كعبء: المشهد السوري
في سوريا، تبدو الصورة على النقيض تماماً. النفايات ليست مورداً يُستثمَر، بل عبئاً يُرمى ثم يُدفَن أو يُحرَق بأكثر الأساليب بدائية. فبحسب تقارير محلية تقديرية، تنتج دمشق وريفها يومياً نحو 1500 طن متري من النفايات الصلبة، يُنقل معظمها إلى مكبّات مفتوحة تُحرَق في العراء، مسبّبة تلوثاً في الهواء والتربة والمياه. وفي تقرير لموقع «عنب بلدي» عام 2025، أُشير إلى عجز البلديات عن جمع النفايات بانتظام بسبب نقص العمالة وتداعي الآليات، في حين تغيب أي منظومة لفصل النفايات أو إعادة تدويرها، باستثناء محاولات محدودة في بعض الورش الخاصة التي تعمل ـ وللمفارقة ـ بشكلٍ غير قانوني.
قرار بلدية دمشق الأخير بنقل المكبّ إلى منطقة باتجاه الغوطة الشرقية لا يعبّر فقط عن سوء تخطيط إداري، بل عن جهل بيئي خطير. فالغوطة ليست مجرد أراضٍ زراعية، بل نظام بيئي حيوي يمدّ العاصمة بالأوكسجين ويضبط مناخها المحلي، وهي المتنفس لسكان دمشق وريفها. كما أنها تنتج محاصيل زراعية ضخمة وتُرفد المدينة بصناعات غذائية ذات مردود اقتصادي كبير مثل الكونسروة وقمر الدين وغيرها. وتحويلها إلى مكبّ نفايات يعني حرفياً خنق رئة دمشق وريفها معاً.
يُذكّرنا القرار بالعقلية الإدارية والسياسية لدولة الأسد البائدة، إذ يُعيد إنتاج منطق المركز الذي يُلقي بأعبائه على الأطراف. فبدلاً من أن تُوزَّع الخدمات بعدالة بيئية، يُحمَّل الريف عبءَ المدينة، ويُعامَل المكان بمنطق التضحية: حماية المركز (واجهة البلد السياسية والاقتصادية والسياحية) على حساب الهامش.
يكمن الفارق بين النموذجين الألماني والسوري لا في الإمكانات فقط، بل في الذهنية. فالنظام الألماني قائم على المشاركة: المواطن، والبلدية، والشركات جميعهم مسؤولون ضمن منظومة قانونية متكاملة تضمن المحاسبة والتوعية والتكامل بين الأدوار. بينما في سوريا، يغيب القانون الفعّال، وتغيب الرقابة، ويتحوّل العمل البلدي إلى سلسلة قرارات رأسية وارتجالية من المركز نحو الأطراف تُتَّخذ دون دراسات بيئية أو اقتصادية محكمة، ويغيب قانون المحاسبة الذي يكفل الأداء الصحيح للمسؤولين.
الغوطة ليست مكبّاً، بل ذاكرة وتاريخ. وكل قرارٍ يسيء إليها هو خطوة أخرى نحو خنق ما تبقّى من روح دمشق ورئتها وهوائها.
المثال الأكثر وضوحاً يتجلّى في نسخ التجربة التركية في دفن النفايات في حُفر أرضية محكمة الإغلاق تجنباً للرائحة والعفونة وتجمع الحشرات، والذي عده كثير من السوريين خطوةً نحو الأمام. وهذا يعكس النظرة العامة للنفايات كـ«قمامة» يجب التخلص منها، بينما وجدت ألمانيا حلولاً خدمية أبسط وأقل تكلفة، وهي فصل النفايات وتفعيل الخدمة العامة لنقلها إلى أماكن متخصصة للاستفادة منها.
طبعاً، لا يمكن المقارنة بين بلدٍ يخصّص مليارات الدولارات للبنية التحتية الخاصة بصناعة تدوير النفايات ويطوّرها منذ عشرات السنين، وبلدٍ تعرّض للإهمال والتخريب على مدار خمسين عاماً، وقد خرج تواً من حرب مدمرة. ومن البديهي أن الحكومة الحالية لا تحمل وزر النظام البائد بأي شكل، لكن البدء بتغيير العقلية ووضع حجر الأساس لوعيٍ بيئي بأبعاده الاقتصادية والتعليمية والإدارية، مثل تضمين المناهج الدراسية معلومات تربط بين النفايات والصحة العامة والاقتصاد، وتضمين الدستور واجب الدولة في إيجاد الحلول والتمويل المناسب، هو مسؤولية الحكومة الجديدة في المقام الأول والأخير. كما أن وضع دراسة دقيقة عن مستوى التلوث الحالي ومؤشرات تدهور الأراضي الزراعية ومدى تسمم التربة، ثم وضع مؤشر إنجازٍ سنوي لمحاسبة المسؤولين على أعمالهم، هو مسؤولية الحكومة الحالية، ولا يمكن إلقاء اللوم فيه على عهد النظام البائد.
إدارة النفايات ليست رفاهية غربية، بل ضرورة وجودية في بلدٍ يواجه تحديات بيئية متراكمة وتراجعاً في الزراعة والمياه وتلوث الهواء والاقتصاد أيضاً. لا يمكن لسوريا أن تواجه مستقبلها بهذه الذهنية القائمة على الرمي والحرق والتجاهل. المطلوب ليس فقط بنية تحتية جديدة، بل تحوّل في التفكير: أن نرى في النفايات فرصةً اقتصادية، ومصدراً للعمل، وطريقاً نحو بيئةٍ أنظف.
فالغوطة ليست مكبّاً، بل ذاكرة وتاريخ. وكل قرارٍ يسيء إليها هو خطوة أخرى نحو خنق ما تبقّى من روح دمشق ورئتها وهوائها. ومن يريد إنقاذ دمشق لا ينقل نفاياتها إلى رئتها، بل يتعلّم كيف يجعلها تتنفّس من جديد: عبر التخطيط، والوعي، والاستثمار في ما كنا نراه من قبل مجرد «قمامة».
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية
 
 