«نبض الخليج»
لطالما شكّلت العلاقة بين الريف والمدينة ركيزة أساسية لفهم تطور المجتمعات والدول، حيث تعكس هذه العلاقة مستوى التحضر والتنمية والاستقرار السياسي والاقتصادي.
لم تكن سوريا استثناء عن هذه القاعدة، فمع إعلان الدولة السورية عام 1918، كانت هناك حاجة ماسة إلى صياغة علاقة متوازنة بين الريف والمدينة لضمان تطور الدولة الناشئة، إلا أن الاحتلال الفرنسي (1920-1946) لعب دوراً رئيسياً في تكريس الفجوة بين الريف والمدينة، حيث قام بتجزئة سوريا إلى أربع أقاليم، وتمتعت هذه الأقاليم باستقلال شبه تام من الناحية الإدارية، واستقلال تام من الناحية الاقتصادية، وكانت هذه الأسباب الحاجز المنيع في وجه بناء عقد اجتماعي تتفق عليه جميع فئات المجتمع السوري خلال فترة الاحتلال، واستمرت هذه السياسات بدرجات متفاوتة في مختلف العهود التي تلت الاستقلال، وصولاً إلى الثورة السورية عام 2011.
تعود الفجوة بين الريف والمدينة في سوريا إلى أسباب تاريخية وسياسية واقتصادية، فقبل الاستقلال، كانت المدينتان الرئيسيتان دمشق وحلب مركزي السلطة والتجارة، بينما ظل الريف مهمشاً باستثناء بعض المناطق الزراعية المنتجة.
لطالما تم اعتبار مدينة حلب العاصمة الاقتصادية السورية والعمود الفقري لحركة المال في سوريا، وكانت دمشق مصدر صناعة القرار السياسي ومركز السلطة الدائم منذ إعلان قيام الدولة السورية في سوريا، حيث تركزت السلطة والثروة والخدمات في المدن الكبرى مثل دمشق وحلب.
وعلى الرغم من ذلك، كان الريف هو المحرك الأساسي للحركات الثورية ضد الاحتلال، فالثورة السورية الكبرى (1925-1927) مثالاً على تفوق الريف في التضحية والمقاومة مقارنة بالمدن التي انحصرت أدوارها غالباً في الجوانب السياسية.
بعد الاستقلال عام 1946، استمرت المركزية في دمشق وحلب، حيث انقسمت الكتلة الوطنية إلى حزبين رئيسيين، هما الحزب الوطني الذي مثل وجهاء دمشق، وحزب الشعب الذي مثل وجهاء حلب وحمص.
بعد الاستقلال عام 1946، استمرت المركزية في دمشق وحلب، حيث انقسمت الكتلة الوطنية إلى حزبين رئيسيين، هما الحزب الوطني الذي مثل وجهاء دمشق، وحزب الشعب الذي مثل وجهاء حلب وحمص.
وعلى الرغم من بعض الجهود التي بُذلت لدمج الريف في منظومة الدولة، من سنّ بعض القوانين التي تتعلق بتحسين الوضع في الريف، مثل تمثيل أبناء الريف في البرلمان والإدارة، وتوسيع البنية التحتية والخدمات التعليمية والطبية في الريف، إلا أن حالة عدم الاستقرار السياسي التي مرت بها سوريا، آنذاك، لم يتم الوصول إلى آلية عمل بشأن تطبيق هذه القرارات بشكل واسع، وبقي سكان الريف السوري يعانون من نتائج هذه السياسات غير المسؤولة، وخصوصاً على صعيد العمل والاقتصاد.
وما زاد تردي وضع الريف السوري، إلى جانب عدم الاستقرار السياسي، تراجع القطاع الزراعي بسبب شح المياه والسياسات الاقتصادية غير المدروسة، ما أدى إلى ازدياد البطالة في الأرياف، وهذا أدى إلى مزيد من النزوح إلى المدن الكبرى، حيث ساهمت هذه الهجرة غير المنتظمة في تشكّل أحياء عشوائية تفتقر إلى البنية التحتية والخدمات الأساسية ضمن المدن، الأمر الذي عمّق التفاوت الاجتماعي والاقتصادي بين الريف والمدينة ضمن المدينة ذاتها.
وتم التعامل مع سكان الأحياء العشوائية على أنهم مواطنون درجة ثانية بسبب عملهم في وظائف هامشية لا توفر استقراراً اقتصادياً طويل الأمد لهم، كما سببت هذه الهجرات غير المنتظمة إلى إفراغ الأرياف من القوى العاملة، مما أثر على الإنتاج الزراعي وأدى إلى ارتفاع أسعار الغذاء.
حتى من الناحية التعليمية، كان هناك تكريس لمفهوم المدينة وتفوّقها على الريف، حيث تركزت الجامعات في المدن، وأحياناً المدن الرئيسة فقط، ما دفع طلاب الريف للهجرة إلى المراكز الحضرية لمتابعة تعليمهم العالي.
وعلى الرغم من التوسع النسبي في إنشاء المدارس في الأرياف، إلا أن الفجوة بين جودة التعليم في المدينة والريف ظلّت كبيرة؛ فالمدارس في المدن، وخاصة في دمشق وحلب واللاذقية وحمص، تتمتع ببنية تحتية أفضل، وكوادر تعليمية أكثر تأهيلاً، وإمكانيات بحثية أكثر تطوراً، مقارنة بالمدارس الريفية التي تعاني من نقص الكوادر وضعف الإمكانات اللوجستية.
هذه الفروقات في الإمكانيات فاقمت مشكلة “هجرة العقول”، حيث فضّلت العديد من العائلات إرسال أبناءها إلى المدن من أجل الحصول على مستوى تعليم أعلى، كما يرغب الكثير من الطلاب البقاء في المدن بعد التخرج، نظراً لتوفر فرص العمل والخدمات، مما ساهم في تفريغ الريف من الكفاءات العلمية، كون الفرص الوظيفية المتاحة لأبنائه غالباً ما تكون في المهن الأقل أجراً مثل الزراعة والخدمات اليدوية، بينما يحتكر أبناء المدن المناصب الإدارية والمهنية العليا.
الفجوة بين جودة التعليم في المدينة والريف ظلّت كبيرة؛ فالمدارس في المدن، وخاصة في دمشق وحلب واللاذقية وحمص، تتمتع ببنية تحتية أفضل، وكوادر تعليمية أكثر تأهيلاً، وإمكانيات بحثية أكثر تطوراً، مقارنة بالمدارس الريفية التي تعاني من نقص الكوادر وضعف الإمكانات اللوجستية
عام 1963، تم اعتماد سياسات اشتراكية، ظاهرها دعم الفلاحين، لكنها في الواقع عززت سيطرة الدولة المركزية وأبقت على هيمنة المدينة على الريف، مما أدى إلى استمرار تهميش الريف واستمرارية الفجوة الاقتصادية والتعليمية بين الطرفين.
كانت محاولات حزب البعث فاشلة في تجسير الهوة بين الريف والمدينة، إذ عمل على توزيع بعض المشاريع التنموية في الريف، فضلاً عن العمل على إنشاء مدارس ابتدائية وإعدادية وثانوية في العديد من المناطق الريفية لأول مرة، كما شُقّت طرق لربط القرى بالمدن، وتم إيصال الكهرباء والماء إلى قرى كثيرة، وتم إنشاء اتحادات للفلاحين ساهمت في إعطاء الريف صوتاً تنظيمياً مؤثراً في الحياة السياسية، إلا أن هذه الخطوات لم تكن كافية لتغيير الوضع القائم، بل استمر تهميش الريف، وظل سكانه يعانون من نقص الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم والبنية التحتية، بينما استحوذت المدن الكبرى على معظم الاستثمارات والمشاريع الصناعية والخدمية.
بين عامي 2000 و2010، شهد الريف السوري بعض التحسينات في البنية التحتية والخدمات، خاصة في مجالات الطرق الريفية والكهرباء والاتصالات، كما تم إنشاء عدد من المراكز الصحية الريفية، لكنها كانت تعاني من نقص في الكوادر الطبية والتجهيزات.
ومن الناحية الاقتصادية، تم تطبيق بعض برامج دعم المحاصيل الاستراتيجية (مثل القمح والشعير وغيرها من المحاصيل الزراعية الأخرى)، وتقديم قروض زراعية مدعومة. لكن السياسات الزراعية عانت من البيروقراطية ونقص الابتكار، وعلى الرغم من ذلك، يمكننا القول إن خلال هذه الفترة شهد الريف السوري تحسناً محدوداً في بعض جوانب الخدمات الأساسية، لكن بقيت الهوة كبيرة بين الريف والمدينة، حيث ظل الاعتماد على الزراعة دون تطوير حقيقي لها، مع ضعف في تنويع مصادر الدخل، مما أدى إلى استمرار الفقر والتهميش في مناطق واسعة من الريف السوري.
مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، كان الريف هو الشرارة الأولى للحراك الشعبي، حيث شهدت المناطق الريفية تظاهرات واسعة ضد النظام، نظراً لعمق الشعور بالظلم والتهميش الذي تعرّضت له لعقود. ومع تصاعد الأحداث، استخدم النظام العنف المفرط لقمع الريف، مما أدى إلى دمار واسع وتهجير قسري لملايين السكان، ليصبح التفاوت بين الريف والمدينة أكثر وضوحاً من أي وقت مضى.
مع تصاعد الأحداث، استخدم النظام العنف المفرط لقمع الريف، مما أدى إلى دمار واسع وتهجير قسري لملايين السكان، ليصبح التفاوت بين الريف والمدينة أكثر وضوحاً من أي وقت مضى.
والآن، بعد عقود من الحكم المركزي القمعي، يتطلب بناء سوريا الجديدة إعادة صياغة العلاقة بين الريف والمدينة على أسس جديدة تضمن العدالة الاجتماعية والتنموية.
ولتحقيق ذلك، لا بد من التركيز على الناحية السياسية، إذ يجب توسيع صلاحيات الريف في اتخاذ القرار السياسي والاقتصادي بما يضمن تمثيلاً حقيقياً لمصالح سكان الريف في مراكز السلطة، ويحد من هيمنة النخب الحضرية على المشهد السياسي.
وعلى الصعيد الاقتصادي، لا بد من تبنّي سياسات تنموية متوازنة تعزز التنمية الزراعية والصناعية في الريف، مما يساهم في خلق فرص عمل حقيقية للسكان الريفيين، وتقليل الهجرة القسرية إلى المدن. كما يجب التركيز على إنشاء مشاريع بنى تحتية حديثة تشمل شبكات النقل والكهرباء والمياه لتسهيل التكامل الاقتصادي بين الريف والمدينة، لكون الريف السوري العمود الفقري للاقتصاد الوطني، حيث يساهم بشكل كبير في الناتج المحلي الإجمالي عبر القطاع الزراعي.
في عامي 2009 و2010، بلغت مساهمة القطاع الزراعي حوالي 30% إلى 35% من الناتج المحلي الإجمالي، وشغل أكثر من 30% من إجمالي اليد العاملة في البلاد.
وعلى الصعيد الاجتماعي، ينبغي تعزيز التماسك الاجتماعي بين الريف والمدينة عبر برامج تنموية تهدف إلى تحسين جودة الحياة في المناطق الريفية، مثل توفير خدمات صحية وتعليمية متطورة، وتشجيع المبادرات المجتمعية التي تعزز الروابط بين السكان الريفيين والحضريين.
وفي مجال التعليم، يتوجب تطوير نظام تعليمي يعكس احتياجات الريف، من خلال توفير مدارس وجامعات ومراكز تدريب مهني في المناطق الريفية، وربط التعليم بسوق العمل لضمان مساهمة الريف في التنمية الوطنية بشكل فاعل ومستدام.
في هذا السياق، يمكن تبنّي نموذج تعليمي مهني مشابه للنظام الألماني، بحيث يتم افتتاح مدارس مهنية متخصصة في المجالات الزراعية والصناعية والحرفية، مما يسهم في تحسين جودة الزراعة والقطاعات الإنتاجية الأخرى بأساليب حديثة.
من أجل معالجة الفجوة التنموية بين المدن والأرياف، من الضروري اعتماد سياسات شاملة تركز على إعادة توزيع الموارد والخدمات بشكل عادل. فعلى سبيل المثال، يجب توجيه مزيد من الاستثمارات إلى المناطق الريفية في مجالات التعليم، والصحة، والبنية التحتية، بما يسهم في تحسين مستوى المعيشة وتقليل الفوارق التنموية بين الحضر والريف.
بعد عقود من الحكم المركزي القمعي، يتطلب بناء سوريا الجديدة إعادة صياغة العلاقة بين الريف والمدينة على أسس جديدة تضمن العدالة الاجتماعية والتنموية.
ويُعتبر التعليم أحد الركائز الأساسية في هذا السياق، إذ ينبغي العمل على تطوير المدارس والجامعات في الأرياف، وتحفيز المدرسين الأكفاء للعمل فيها من خلال تقديم حوافز مالية وإدارية تشجعهم على الاستقرار والمساهمة الفعالة في العملية التعليمية.
إلى جانب التعليم، تلعب اللامركزية الإدارية دوراً محورياً في تمكين المناطق الريفية من النهوض بذاتها، حيث يُفترض منح الريف صلاحيات أوسع لإدارة شؤونه وتنفيذ مشاريع تنموية تتوافق مع أولوياته المحلية، بعيداً عن البيروقراطية المركزية.
ومن أجل تحقيق تنمية اقتصادية مستدامة في الأرياف، من المهم أيضاً التركيز على خلق فرص عمل محلية من خلال دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وتشجيع الاستثمار في قطاعات حيوية مثل الصناعة والزراعة الحديثة، ما يساهم في الحد من البطالة والهجرة نحو المدن.
ولا يكتمل هذا التوجه دون ضمان تمثيل سياسي متوازن لسكان الأرياف، بحيث تُتاح لهم فرصة حقيقية للمشاركة في صنع القرار ورسم السياسات الوطنية. فتعزيز المشاركة السياسية من شأنه أن يشعر السكان بالانتماء، ويعزز من استقرار الدولة وتماسك نسيجها الاجتماعي، وهو ما يشكل أساساً لأي عملية تنموية ناجحة وشاملة.
لكن على أرض الواقع، وخلال العقود البعثية الماضية، أخفقت المدينة في دمج مكونات الريف ضمن بنيتها السياسية والإدارية، وفي العمل الجاد على تنمية وتطوير الريف.
لا يكتمل هذا التوجه دون ضمان تمثيل سياسي متوازن لسكان الأرياف، بحيث تُتاح لهم فرصة حقيقية للمشاركة في صنع القرار ورسم السياسات الوطنية.
وقد ترتب على هذا الإقصاء والإهمال أن برزت قيادات ريفية إلى سدة الحكم، خاصة في ظل التحولات السياسية التي شهدتها سوريا. ولم تكتفِ هذه القيادات بتولي السلطة، بل مارست نوعاً من “الانتقام الرمزي” من المدينة التي طالما تمثلت بفوقيتها ونخبويتها، حيث تجلى هذا الانتقام في سياسة منهجية إلى “ترييف” المدينة، سواء من خلال التوظيف الإداري أو من خلال الخطاب السياسي والإعلامي، كردّ فعل على فشل المدينة في القيام بدورها الطبيعي في تمدين الريف.
إن العلاقة بين الريف والمدينة في سوريا عنصرٌ أساسي في إعادة بناء الدولة بعد انتصار الثورة، إذ لا يمكن تحقيق استقرار سياسي أو اقتصادي دون تصحيح الفجوة التاريخية بين الطرفين.
ويتطلب ذلك رؤية استراتيجية تعتمد على توسيع صلاحيات الريف في اتخاذ القرار السياسي والاقتصادي، والتنمية المتوازنة، وإشراك جميع مكونات المجتمع في عملية صنع القرار، لضمان أن تكون سوريا المستقبل دولة قائمة على العدالة الاجتماعية والتنموية، لا مجرد مدينتين وأرياف تابعة لهما.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية