جدول المحتويات
«نبض الخليج»
يُشكّل مشروع الطيّب تيزيني أحد أهم المساعي الفكرية السورية لإعادة بناء العلاقة بين الفكر والتاريخ. المسألة المركزية في هذا المشروع تتعلّق بإمكانية تكوين وعي نهضوي داخل مجتمعٍ لم ينتظم بعد في نسقٍ معرفي حديث.
هذا وتمثّل فكرة النهضة في الفكر السوري والعربي أحد أكثر المفاهيم إلحاحاً وإرباكاً في آنٍ واحد. فهي تُعرّف كإطارٍ لوعيٍ يسعى إلى تنظيم العلاقة بين الذات والزمن، وهذا السؤال يعبّر بطبيعة الحال عن بنيةٍ ثقافية واجتماعية تبحث عن معنى التحوّل، وعن إمكان بناء مجتمعٍ يعي نفسه من خلال أدوات التفكير.
العقل التاريخي والوعي النهضوي
انطلق الطيّب تيزيني في مشروعه الفكري من فرضيةٍ محورية ترى أنّ الإشكال العربي المعاصر ليس في غياب الإرادة أو ندرة الموارد، بل في تعطّل البنية المعرفية التي تنظّم علاقة العقل بالواقع.
هذا التصور، الذي طرحه في كتابه من التراث إلى الثورة (1976)، يربط إمكان التغيير بقدرة الفكر على امتلاك منهجٍ تاريخي يفسّر الظواهر ضمن حركتها الواقعية وليس عبر تأملٍ أخلاقي أو استعادةٍ رمزية للماضي.
وقد عمّق هذه الفكرة لاحقاً في مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط (1982)، حيث أكّد أنّ النهضة لا يمكن فهمها كانتقالٍ بين أنظمة سياسية أو اقتصادية، وإنما كتبدّلٍ في نمط الإدراك الإنساني، أي في الطريقة التي يعي بها الإنسان موقعه داخل التاريخ.
وفي عمله المتأخر بيان في النهضة والتنوير العربي (2011)، أعاد صياغة هذه الرؤية ضمن سياقٍ معاصر، معتبراً أنّ إنتاج “العقل التاريخي النقدي” هو جوهر أي مشروعٍ نهضوي يسعى إلى تجاوز الانفصال بين الفكر والمجتمع.
اعتمد تيزيني على فكرة التاريخية باعتبارها مدخل الوعي، وهي رؤية تضع الإنسان داخل حركةٍ زمنية لا تتيح له العيش خارج التحوّل.
هذه المقاربة تتقاطع مع ما طرحه بول ريكور في تحليله للزمن السردي، حين رأى أن الإنسان لا يدرك ذاته إلا من خلال تأويلٍ مستمر لتجربته في التاريخ.
في هذا التقاطع يظهر الوعي التاريخي بوصفه نظامَ معرفةٍ لا يُحدّد اتجاهه من السلطة أو الإيمان أو اللغة وحدها، بل من قدرة الفرد والمجتمع على تفسير حركتهما في الزمن. النهضة المؤجَّلة، في هذا المعنى، ليست فشلاً في المشروع، إنما هي قصوراً في تأسيس علاقةٍ نقديةٍ مع الزمن.
إن المجتمع الذي لا يُؤوِّل زمنه يتحوّل إلى تكرارٍ أبديٍ لصورته القديمة، وفق فكر تيزيني، ومن هنا تأتي أهمية التاريخية كمنهج تفكير يتجاوز الذاكرة الجمعية إلى الفهم الدينامي للتجربة، وهو ما حاول تيزيني تعميقه داخل الفكر السوري كشرطٍ لتجاوز الركود الثقافي.
لقد نشأ هذا الهمّ الفكري في سياقٍ سوريٍّ عرف تقلباتٍ فكرية بين المشروع القومي والخطاب الديني، ما جعل سؤال النهضة لدى تيزيني محاولةً لبناء وعيٍ فلسفيٍّ متحرّر من كلا المرجعيتين.
إعادة بناء العلاقة مع التراث
ركّز الطيّب تيزيني في مشروعه الفكري على تأسيس وعيٍ تاريخيٍّ يتيح للفكر العربي تجاوز منطق التكرار والتبرير. كما تبنى فكرة أن فهم التاريخ، في تصوّره، لا يقوم على تمجيد الذاكرة أو استدعاء الرموز، إنما على تحليل القوانين الاجتماعية والفكرية التي تنظّم حركة الواقع.
هذا المبدأ شكّل إحدى الركائز النظرية لعمله مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط (1982)، حيث شدّد على أنّ قراءة الماضي تكتسب معناها عندما تُدرَك في إطار السيرورة التاريخية التي أنتجته، لا بوصفها لحظةً متعالية عن شروطها.
وفي كتابه من التراث إلى الثورة (1976)، تناول مفهوم “الوعي التاريخي” بوصفه وسيلةً لتفكيك العلاقة المغلقة بين الفكر والتراث، مؤكداً أن التقدّم لا يتحقق بتبديل الشعارات بل بتغيير أدوات الفهم.
فغياب هذا الوعي يؤدي، في رأيه، إلى تعطّل المنهج النقدي، وهو ما عبّر عنه بمفهوم “النهضة المؤجّلة” أي الحالة التي يفقد فيها الفكر العربي قدرته على إنتاج معرفةٍ جديدة بسبب استمرار اعتماده على مناهج تفسيرٍ موروثة لا تواكب التحوّل الاجتماعي.
وقد أعاد تيزيني في بيان في النهضة والتنوير العربي (2011) صياغة الفكرة نفسها بلغةٍ أكثر تركيباً، فاعتبر أنّ التاريخ هو أداةً لبناء وعيٍ اجتماعي قادر على إعادة إنتاج مفاهيمه. من هذا المنظور، فإن الوعي التاريخي لا يتوقف عند استحضار الماضي، بل يتّسع ليشمل القدرة على مساءلة التراث وإعادة تشكيله وفق متطلّبات الحاضر.
لقد شكّلت العلاقة مع التراث محوراً مركزياً في كل المشاريع النهضوية العربية الحديثة. محمد عابد الجابري تعامل مع التراث من زاوية نقد العقل، محدِّداً ثلاثة أنساق معرفية: البرهاني والبياني والعرفاني، بينما رأى عبد الله العروي أن المشكلة ليست في التراث بل في غياب المفهوم التاريخي للزمن الذي يحمله.
أما تيزيني فقد طوّر اتجاهاً ثالثاً، إذ دمج التحليل الماركسي بالمقاربة التاريخية للتراث العربي الإسلامي، معتبراً أن النصوص التراثية تحمل في داخلها بنية اجتماعية يمكن فهمها بأدوات التحليل المادي والتاريخي.
الاختلاف بين هذه المشاريع لا يقوم على موقفٍ من الماضي، لكنه يقوم على طريقة تنظيم العلاقة بين الماضي والفكر المعاصر.
الإنسان وتجديد النهضة
في قراءته للتراث، تعامل تيزيني مع النصوص القديمة كمنتجات فكرية نشأت داخل سياقات اجتماعية محددة، فالتراث بالنسبة له ليس كتلة مغلقة أو مصدرَ شرعيةٍ أبدية، إنما فضاء معرفي يمكن تفكيكه وتحليله.
التعامل العلمي مع هذا التراث يقتضي تحويله إلى موضوعٍ للبحث لا إلى سلطةٍ على الوعي، وبهذا يخرج التراث من وظيفة الحراسة إلى وظيفة الإضاءة، أي إلى مجالٍ يسمح بتوليد أسئلة جديدة حول المعرفة والدين والمجتمع.
يتعامل تيزيني مع الإنسان بوصفه مركز العملية المعرفية، لا نتيجةً لها، فالإنسان يمتلك القدرة على إنتاج المعنى من خلال وعيه التاريخي ومشاركته في الفعل الاجتماعي. هذا المفهوم يلتقي مع أطروحات تشارلز تايلور حول “الذات المُفسِّرة”، ومع أنثروبولوجيا المعرفة عند إدغار موران التي ترى أنّ الفكر لا ينفصل عن الحياة اليومية، بل يتكوّن في داخلها.
في هذا الإطار، النهضة ليست مشروعاً فوقيّاً تديره النخب، إنما هي سيرورة تربوية وثقافية تمتد عبر المدرسة، الجامعة، والفضاء العمومي.
يرى تيزيني أنّ النهضة تبدأ من الإنسان بما هو ذاتٌ واعية، تمتلك القدرة على التفكير والنقد والمساءلة. والعقل هنا ليس أداة لفهم النصوص، بقدر ما يُشكّل منظومة إدراكٍ تنظّم علاقة الإنسان بذاته وبالآخرين وبالزمن. لذا فإن تحوّل الإنسان إلى كائنٍ منتج للمعرفة شرطٌ لولادة أي مشروع حضاري.
لذلك منح تيزيني التربية والتعليم والثقافة موقعاً محورياً في عملية التحوّل، باعتبارها الأدوات التي تصوغ بنية الوعي وتُعيد توزيع المعاني داخل المجتمع.
تحوّل المجال الثقافي
وفي قراءته للعلاقة بين الفكر والمجتمع، استند تيزيني إلى تحليلٍ قريب من مقاربة أنطونيو غرامشي حول “الهيمنة الثقافية”، فالفكر عنده لا يتحرّك خارج المجتمع، بل داخل منظومة القيم والعلاقات التي تنتجه، وكلّ تحوّلٍ ثقافي حقيقي يحتاج إلى بنيةٍ اجتماعية قادرة على استقبال الأفكار وتداولها.
لذا فإن غياب المجال العمومي، كما يعبّر عنه يورغن هابرماس، يؤدي إلى تعطيل الفعل التواصلي، أي تعطيل إنتاج التفاهم العقلاني الذي يسمح بتحوّل الوعي الجمعي.
إن بناء نهضة سورية يتطلّب إذاً تفكيك علاقة السلطة بالمعرفة داخل الفضاء الاجتماعي، من خلال إحياء النقاش النقدي، وتحويل الثقافة إلى مجالٍ للمساءلة وليس إلى أداةٍ للشرعية الرمزية. لذا فإن الفكر لا يُصلح المجتمع من الخارج، بل يعيد تنظيمه من الداخل عبر تغيير أنماط التفكير وأساليب الخطاب.
الحداثة في الفكر العربي كثيراً ما طُرحت بوصفها خياراً قيمياً بين “الأصالة” و”المعاصرة”، بينما قدّم تيزيني فهماً مختلفاً يقوم على تحليل البنية المعرفية التي تجعل الحداثة ممكنة. الحداثة بالنسبة له ليست نسقاً غربياً يُنقل، إنما هي منهج تفكير يعتمد على التاريخية والعقلانية والمساءلة.
هذه المقاربة تتقاطع مع نقد طه عبد الرحمن لمفهوم الحداثة الأداتي، الذي دعا إلى حداثةٍ أخلاقيةٍ تحافظ على التوازن بين العقل والقيمة.
المشروع السوري في سياق النهضة يحتاج إلى هذا التعدد في الفهم، لأن التحوّل الثقافي يقوم على بناء وعيٍ بمقتضيات التغيير داخل بيئته الخاصة، فكل مشروعٍ حداثي يفقد فعاليته حين يتحوّل إلى استنساخٍ خارجيٍّ بدل أن يكون استجابةً معرفيةً لحاجات المجتمع.
وفي البيئة السورية، ظلّ المجال الثقافي محكوماً بتوتّرٍ بين المثقّف النقدي والمؤسسة الرسمية، وهو ما جعل من مشروع تيزيني مثالاً على مقاومة الخضوع الرمزي، ومحاولةً لاستعادة الفكر كقوّة تفسيرٍ اجتماعي.
بناء الوعي النقدي
المثقف في تصوّر تيزيني يؤدي وظيفة تحليلية، فدوره إنتاج معرفة تسهم في كشف البنى العميقة التي تنظّم الفكر الاجتماعي، وليس الاكتفاء بمواقف أخلاقية أو سياسية.
الوعي النقدي يقتضي أدوات بحثية ومنهجية مستقرة، تُمكّن المثقف من تحليل الظواهر بوصفها نتائج لبنى فكرية واقتصادية وثقافية متشابكة.
بهذه الوظيفة يصبح الفكر أداة تفسيرٍ للواقع وأداةَ تحويلٍ له في الوقت نفسه، وأما غياب هذه الوظيفة يؤدي إلى تراجع الدور الثقافي وتحويل الفكر إلى خطابٍ تزييني لا يغيّر شيئاً في البنية الاجتماعية.
يُعرّف تيزيني النهضة كعملية متواصلة لإعادة بناء الوعي وفق مناهج متطورة، فهي ليست حدثاً تاريخياً يُستعاد، بقدر ما تكون كمنظومة فكرية تُراجع باستمرار. وكل جيل يملك أدواته الخاصة في التفكير، ويعيد من خلالها قراءة تراثه وواقعه ومفاهيمه.
هذه الدينامية تمنع تحوّل النهضة إلى شعارٍ سياسي أو إلى حركةٍ تكرّر مقولات الماضي. النهضة التي يصفها تيزيني تتطلب انخراطاً دائماً في إعادة إنتاج المعرفة، وفي اختبارها ضمن الواقع الاجتماعي والثقافي.
في الحالة السورية، قدّم مشروع تيزيني نموذجاً لمقاربة الفكر كعامل تفسيرٍ للزمن الاجتماعي. إن الوعي السوري الحديث تَكوَّن في بيئةٍ تتقاطع فيها المرجعيات الدينية والحداثية والقومية، وهو ما خلق تراكباً بين مستويات التفكير القديمة والجديدة، وهذا التراكب جعل عملية التحديث الثقافي بطيئة ومعقّدة.
رؤية تيزيني تحاول معالجة هذا التعقيد من خلال تأسيس “عقل تاريخي” يتجاوز النقل والتقليد، ويبحث عن القوانين التي تحكم تحوّل المجتمع السوري في سياقه الواقعي. النهضة وفق هذا التصوّر ليست نقيضاً للتراث، إنما هي تطوّرٌ في أدوات قراءته.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية
 
 